المغرب بعيون إسكندرانية.. من فاس للقاهرة في رحلة عبر مراكش
تاريخ النشر: 23rd, May 2025 GMT
كنت قد سمعت الكثير عن فاس قبل مجيئي إلى المغرب، فهي ليست مجرد مدينة قديمة، بل تعد من أهم الحواضر الإسلامية عبر التاريخ وثاني أكبر مدن المملكة المغربية سكانا. تحتضن أقدم جامع يحمل عبق العلم والعبادة منذ قرون، جامع القرويين. أسواقها الشعبية الضيقة والمتعرجة، كما تخيلتها، تذكرني بأسواق القاهرة القديمة، بزحامها، وصخبها، وروائحها التي تملأ المكان حياة.
ولا عجب في هذا التشابه، فالقاهرة كانت في زمن ما عاصمة الخلافة الفاطمية، بينما كانت فاس حاضرة المغرب.
انطلقت الحافلة المتجهة إلى فاس، تشق طريقها عبر أكثر من 5 ساعات في مسار ضيق تحفّه الجبال والأشجار، كأن الطبيعة نفسها ترافق المسافر في رحلته. لم أستطع أن أمنع نفسي من التعجب مرة أخرى حين اضطررت لدفع تذكرة إضافية لنقل الحقائب، تماما كما حدث في رحلتي إلى شفشاون، بدا لي أن للحقائب في المغرب شأنها الخاص.
وصلت إلى فاس مع غروب الشمس، واخترت الإقامة هذه المرة في المدينة الحديثة، علّي أن أستكشف جانبا آخر لا تكشفه الصور القديمة ولا الحكايات المروية.
بعد قليل من الراحة، خرجت ليلا أتجول في شوارع المدينة الواسعة، وكانت هذه أول مرة أزور فيها مركزا تجاريا (مول) في المغرب، تجربة بدت لي غريبة بعد كل ما عشته في الأزقة القديمة والمدن العتيقة.
وبعد جولة سريعة، جلست لأحتسي برادا من الشاي المغربي بالنعناع، وكأنني أختتم اليوم الطويل بطقوس مغربية هادئة، تُعيدني مرة أخرى إلى روح فاس العتيقة.
في الصباح، استيقظت وقد امتلأت بالطاقة والشغف ليومي الأول بحق في فاس. بناء على نصيحة من صاحب النُزل الذي أقمت فيه، ركبت واحدة من وسائل النقل المحلية وتوجهت إلى قلب فاس القديمة. كنت على يقين أن ما ينتظرني هناك مختلف عن أي تجربة سابقة في المغرب، ففاس ليست مدينة عادية بل متاهة من التاريخ، وسحر من نوع خاص أعددت نفسي لأشاهده.
إعلانيوجد بفاس معالم أثرية تدل على حضارتها المتراكمة عبر العصور الإسلامية، ولعل أبرز ما يشهد على هذا التاريخ الحي هو سور المدينة وبواباته الثمانية. منها ما بقي قائما على حاله، ومنها ما لم يتبق منه سوى باب واحد، كأنما يقف هناك حارسًا لذاكرة مضت.
تلك الأبواب والأسوار، بزخارفها الأندلسية ونقوشها العربية وخطوطها الدقيقة المحفورة في الحجر، أعادتني على الفور إلى أسوار القاهرة الفاطمية، ولكن بطابع مغربي صرف، يدمج بين الفن المغربي والأندلسي والروح الإسلامية.
بين فاس والقاهرةلم أكن أعلم أن التشابه بين القاهرة وفاس يصل إلى هذا الحد. العمائر القديمة، وإن اختلفت تفاصيل زخارفها، تتحدث نفس اللغة البصرية: طُرز معمارية إسلامية، وسمات مشتركة في بناء المساجد والمدارس والأسواق. الشوارع المزدحمة بالبضائع المحلية والهدايا التذكارية من كل صنف، والمقاهي القديمة التي ينبعث منها صوت القرآن الكريم، كل ذلك جعل من فاس مفاجأة سارة، هادئة، دافئة، وقريبة على نحو لم أتوقعه.
أهم ما زرته من المعالم التاريخية في فاس كانت المدرسة البوعنانية، التي أدهشتني بزخارفها المتقنة وروعة فنها الإسلامي. كل ركن فيها يصلح لأن يكون مشهدا من بطاقة بريدية، أو خلفية لصورة لا تُنسى، بدءا من النقوش الخشبية الدقيقة، إلى الفسيفساء التي تزين الجدران، وانتهاء بالفناء الداخلي الذي يضجّ بالجمال والسكينة في آن.
زرت جوهرة فاس المعمارية، جامع القرويين، أقدم جامعة في العالم الإسلامي. في وقت صلاة الظهر، لم يكن مسموحًا لي بالتجول داخل المسجد، فاكتفيت بالتأمل من مصلى النساء. لفتني جمال الخط المغربي المستخدم في المصاحف هناك، وهو خط مائل ذو طابع فني خاص، أضفى على تجربتي في المغرب دهشة إضافية.
إعلان دار الدبغخرجت من المسجد وأكملت طريقي عبر الأزقة التي تعج بالزوار، حتى وصلت إلى منطقة دباغة الجلود، أو ما يُعرف بدار الدبغ، وهي من أبرز معالم فاس وأكثرها شهرة. فهذه المدينة العريقة ما زالت تحتفظ، حتى اليوم، بطرقها التقليدية في صباغة ودباغة الجلود، كما كانت منذ قرون.
كانت لحظة دخولي لذلك العالم بمثابة قفزة زمنية إلى العصور الوسطى، بكل ما تحمله من صخب وروائح ونشاط بشري حقيقي.
زرت دار الدبغ، أحد أبرز معالم فاس، حيث ما زالت تُمارس الحرف التقليدية كما كانت في العصور الوسطى. الرائحة النفاذة استقبلتني بقوة، لكن أوراق النعناع خففتها، ووقفت أراقب من شرفة مرتفعة المراحل اليدوية لدباغة الجلود. مشهد حيّ بكل تفاصيله، لا يشبه ما قد نراه في الصور.
بعد ذلك، كانت الجولة بين محال المنتجات الجلدية من الحقائب والأحذية إلى الكراسي والسترات، وكل شيء تقريبا مصنوع يدويا من الجلد الطبيعي. تختلف الأسعار حسب جودة الجلد وتفاصيل التصنيع، لكن ما تعلمته هناك أن التفاوض فن أساسي لا بد من إتقانه. وبعد شد وجذب، اقتنصت لنفسي حقيبة جلدية مميزة، لا تزال رائحتها، بكل ما تحمله من ذكريات، ترافقني حتى بعد عودتي إلى مصر بشهور طويلة.
طعام الشارعبعدما انتهت تلك الرحلة الطويلة والمتعبة بين أرجاء معالم المدينة القديمة لفاس، لم يكن هناك ما أحتاجه أكثر من طعام دافئ في مساءات ديسمبر الباردة. اتجهت إلى منطقة تنتشر فيها عربات الأكل الشعبية، حيث تصطف الأكشاك في شارع يعج بأهل المدينة، يتبادلون الأحاديث ويُقبلون على أطباقهم المفضلة.
هذا هو تمامًا ما أحبّه في السفر، أن أستكشف مذاق البلد من قلب شوارعه، وأسأل الناس أنفسهم عن طعامهم اليومي، لا طعام الأماكن السياحية. وهناك، التقيت بإلهام، سيدة مغربية طيبة الملامح، اقترحت علي أن أبدأ بشوربة "الحريرة" الساخنة، وشرحت لي مكوناتها بتفصيل محب، مرق بلحم، وخضراوات مطهية، وتوابل تعبق في الأنف قبل أن تصل إلى الفم.
إعلانكانت تلك أول مرة أتذوق فيها الحريرة، لكنها كانت كفيلة بأن تترك في ذاكرتي دفئا لا يزال يتسلل إلى قلبي كلما تذكرت تلك الليلة، وتلك المحادثة العفوية التي أنقذتني من السفر إلى مكناس التي حين سألت أحلام عن معالمها أخبرتني أنها تحت الترميم!.
كان المساء قد حل، وبدأت أستشعر التعب يتسلل إلى قدمي بعد يوم طويل ومليء بالاكتشافات. اشتريت مجموعة متنوعة من الحلوى المغربية بناء على توصية رفيقتي الجديدة في فاس، أحلام، وقررت أن أعود إلى مقر إقامتي. لكن في الطريق، اشتدّ البرد فجأة فاستوقفني مشهد مألوف لم أره إلا في الصور من قبل، عربة شوربة الحلزون، أو كما يُطلق عليها في المغرب "الببوش".
كان الناس متجمعين حول العربة، يتناولون الحلزون المطهي ويتفننون في إخراج الحلزون من قوقعته، بينما يكتفي البعض الآخر بتناول المرق الساخن المحمّل بالأعشاب والبهارات. الفضول غلبني، حاولت أن أتشجع وأجربه… لكن في اللحظة الأخيرة، تراجعت واكتفيت بتذوق المرق كان كافيا ليختصر يوما كاملا من عجائب المغرب في كوب صغير.
مراكش أرض العجائبفي مساء ذلك اليوم، قررت التحرك فجرا نحو مراكش، الوجهة البعيدة التي تستلزم المرور أولا بالدار البيضاء، ثم استقلال قطار آخر منها. خرجت مع أول ضوء للنهار نحو محطة المسافرين، وبدأت الرحلة، وقطعت الطريق إلى الدار البيضاء، التي مكثت فيها عدة ساعات لأول مرة، بسبب تأخر موعد القطار المغادر إلى مراكش.
لم أجد الكثير لأفعله سوى زيارة مركز للتعريف بتراث الدار البيضاء وتاريخها، ثم جلست أراقب الشوارع وهي تمتلئ شيئا فشيئا بالمصلين الذين افترشوا المساجد والساحات استعدادًا لصلاة الجمعة، فتذكّرت مشهد مصر بكل تفاصيله صباح ذلك اليوم المبارك.
بعد الصلاة، تناولت وجبة شهية تليق بمسافرة أنهكها الترحال: طاجين دجاج مغربي بالزيتون، في مطعم أنيق مطل على الميناء، كانت الأسعار مرتفعة لكن الأجواء وجودة الطعام جعلت التجربة تستحق.
إعلانتحرك القطار أخيرا في منتصف النهار، ووصل إلى مراكش بعد غروب الشمس؛ محطتي التي قررت فيها أن أودع عاما مضى وأستقبل عاما جديدا. لم تخذلني هذه المدينة، واخترت من جديد الإقامة في رياض مغربي تقليدي، يقع في قلب المدينة القديمة وداخل أزقتها الضيقة التي تشبه المتاهة.
وصلت إلى هناك لأجد المكان وكأنه قطعة من "ألف ليلة وليلة"، يعج بالسائحين الأجانب. عند خروجي لنزهة ليلية وصلت إلى ساحة المدينة الرئيسية، لاحظت أن أغلب النُزل والفنادق علّقت لافتات مكتوبا عليها "عامر"، أي "ممتلئ" باللهجة المغربية. وبالفعل، بدا أن كثيرا من الزوار اختاروا، مثلي، أن ينهوا عامهم في مراكش، تلك المدينة التي لا تخفت أضواؤها.
تجربة الحمام المغربيأنهيت جولتي الليلية السريعة لاكتشاف شوارع مراكش، وقررت أن أستيقظ مبكرا ليوم جديد مليء بالحركة في هذه المدينة الساحرة. ومنذ لحظة وصولي إلى المغرب، كان في ذهني حلم صغير مؤجل: أن أجرب "الحمام المغربي" الذي طالما سمعت عنه كثيرا، وكنت أنوي أن أعيشه في موطنه الأصلي، مراكش.
رغم بعض التردد، قررت أن أقدم على هذه التجربة في صباح اليوم التالي داخل حمام تقليدي قريب من مقر إقامتي في قلب المدينة القديمة. الحمامات المغربية عادة ما تُقسم إلى قسمين: مدخل للرجال وآخر للنساء، وتكون التكلفة بسيطة، تشمل استخدام الحمام وخزانة لحفظ الأغراض وخدمة المدلكة، مع ضرورة إحضار الزائرة لأدواتها الخاصة: الصابون البلدي الأسود، والليفة المغربية، ومنشفة، وملابس للحمام.
فكّرت: ما من يوم أنسب من نهاية العام لأخوض تجربة قد لا تتكرر مرة أخرى في حياتي.
كانت تجربة الحمام المغربي غامرة بحق، وجديدة على جسدي وروحي في آن معا. ما إن دخلت حتى أحاط بي البخار الكثيف، كأنني دخلت عالما آخر، بعيدا عن ضوضاء الشوارع وعن صخب العام كله.
إعلانفي الزاوية جلست تنتظرني سيدة طاعنة في السن، كانت المدلكة، وعلى وجهها ارتسمت ملامح الطيبة والخبرة الطويلة. تبادلت معي أطراف الحديث بود واضح ولهجة مغربية دافئة، وبعدما انتهت من عملها قدمت لي كوبا من القهوة الدافئة المنكهة بالهيل والقرفة والينسون فشعرت بالطاقة في جسدي داخليا وخارجيا.
في تلك اللحظات، شعرت أني أتحرر فعلا، ليس فقط من الإرهاق الجسدي، بل من تراكم عام كامل من التوتر والتفكير والترحال. كان الحمام المغربي بمثابة طقس جديد للجسد الذي يودع عاما ويستعد لآخر، أكثر تفاؤلا وخفة.
ساحة جامع الفناكانت مراكش بحق خيارا مثاليا مع اقتراب نهاية رحلتي في المغرب، وخاصة ساحة جامع الفنا، قلب المدينة النابض ومركز ترفيهها الرئيسي، يقصدها السكان المحليون والسياح على حد سواء، وتمثل خلاصة التجربة المراكشية الأصيلة. هناك، وسط الزحام والصخب، تتقاطع العروض الترفيهية لمروّضي القرود والأفاعي ورواة الأحاجي والقصص، وعازفي الموسيقى إلى غير ذلك من مظاهر الفرجة الشعبية، مع الأسواق العامرة بأشهى المأكولات الشعبية والفواكه الطازجة.
عالم مكتمل من التفاصيل، لا يعرف السكون على مدار النهار والليل، وكأن الساحة لا تنام.
تجولت بين من يعرضون التقاط الصور التذكارية المطبوعة، ومن يمرون ببضائعهم بحثا عن مشترٍ، ومن يفترشون الأرض لنقش الحناء على أيدي النساء. كان كل شيء حولي ينبض بالحياة، ولم يعكر صفوه سوى برودة الجو الشديدة.
في نهاية ساحة جامع الفنا، كانت مئذنة جامع الكتبية تقف شامخة، تُرشد الزائرين وكأنها بوصلة المدينة. هو أكبر مساجد مراكش، وتعود تسميته إلى "الكتبيين"، نسبة إلى سوق الكتب والمخطوطات الذي كان ملاصقا للمسجد يوما ما. وقفتُ هناك طويلا أنظر إلى المئذنة بعمارتها البسيطة والمهيبة في آن، تأملت البقايا الأثرية المحيطة، والحمام المحلق في السماء، في مشهد بديع ومثالي لالتقاط صور جميلة.
الأسواق ومتعة الحواسعلى الجانب الآخر من المدينة القديمة، كانت تنتظرني أسواق كأنها خرجت من حكاية شعبية قديمة. متاجر التحف التقليدية تصطف إلى جانب المتاجر المخصصة للملابس التراثية، من الجلابيب المطرزة بدقة، إلى الجلابيات المُلونة التي تُجسد أناقة المغرب المتأصلة.
مررت بسوق الذهب، ثم سوق التوابل الذي بدا لي كمشهد سينمائي مدهش. أكوام البهارات مكدسة بعناية كأنها لوحات تتدرج ألوانها، وتملأ المكان برائحة تغرق الحواس. وبين الرائحة واللون، كان هناك صوت الشواء المتصاعد من زوايا السوق، حيث تتناثر طاولات صغيرة يقدم فيها الباعة المحليون أطباقًا من اللحوم الطازجة بأسعار مناسبة.
إعلانلكنني كنت أبحث عن كنز من نوع خاص. تلك القهوة المنكهة التي سكنت ذاكرتي منذ تذوقتها في شفشاون، ثم تكررت في الحمام المغربي. سألت عنها هنا وهناك، حتى أرشدني أحدهم إلى مطحنة بن قديمة في زقاق ضيق. اشتريت منها كمية تكفيني لعدة شهور، لأحمل معي نكهة المغرب إلى الإسكندرية. كان ذلك من أجمل التذكارات التي اقتنيتها، رائحة وطعما وذكرى.
الدار البيضاء.. آخر محطةبعد يوم حافل بين أسواق مراكش وساحة جامع الفنا، وقبل أن تغيب الشمس تماما، بدأت رحلتي نحو وجهتي الأخيرة في المغرب: الدار البيضاء.
كان لا بد أن أكون هناك قبل عودتي إلى مصر. كان الوقت يقترب من التاسعة مساء، وكانت مراكش تنبض بالحياة. الليلة رأس السنة الميلادية، والشوارع مزدحمة إلى حد غير معهود، والكل في حركة مستمرة. حاولت مرارا أن أستوقف سيارة أجرة، ولكن دون جدوى… وكل دقيقة تمر كانت تتسبب في توتري.
لم يتبق الكثير على موعد القطار، وكنت على وشك أن أصدق أنني سأفوت الرحلة. لكن معجزة صغيرة حدثت. سيارة توقفت أخيرا، وصلت إلى المحطة في اللحظة الأخيرة، وكان هناك وقت إضافي لشراء بعض المأكولات السريعة. رغم التوتر، كانت الأجواء مبهجة، الأعلام المغربية ترفرف، والزينة تُنير المتاجر، والشوارع مزدحمة بالناس.
وصلتُ إلى الدار البيضاء قبل دقائق من انتصاف الليل، بينما كانت عقارب الساعة تتهيأ لاستقبال عام جديد. توقعت أن أجد المدينة تعج بالاحتفالات كما في مراكش، لكن المفاجأة أن كل شيء بدا هادئا تمامًا، لا أصوات، لا أضواء، لا ازدحام… فقط هدوء لافت، بدا لي في تلك اللحظة كأنه ما كنت أحتاجه تماما بعد رحلة طويلة هو الراحة في الفندق الصغير في قلب المدينة القديمة بالدار البيضاء.
في صباح اليوم التالي، كنت أعلم أن الوقت ليس في صفي، فموعد الطائرة كان في المساء. كانت خطتي بسيطة وواضحة: أودع المغرب من أحد أبرز معالمه، جامع الحسن الثاني، وأستمتع بالمشي قرب البحر في الممشى المجاور للجامع.
إعلان أكبر مساجد المغربخرجت من الفندق مبكرا، وسرت في شوارع المدينة التي بدأت تستيقظ على مهل. ووصلت قبل صلاة الظهر إلى جامع الحسن الثاني، تحفة معمارية إسلامية تجسد الطابع المعماري المغربي الأندلسي، بني نصفه فوق مياه المحيط الأطلسي على الشاطئ الغربي لمدينة الدار البيضاء، ونصفه الآخر على اليابسة، شعرت أنني أقف أمام معجزة مشيدة من الحجر تطل على المحيط الأطلسي حجمه مباشرة، وحده كفيل بأن يسلب الأنفاس، فهو أكبر مسجد في المغرب ومن بين أكبر المساجد في العالم وأجملها.
تفاصيل المسجد المعمارية تجسد الحرفية المغربية: الزليج الملوّن، الأرابيسك، النقوش الدقيقة التي لا تترك شبرا دون أن تزينه، والمئذنة الشامخة التي ترتفع بطول يتجاوز 200 متر، لكن أكثر ما علِق في وجداني، كان صوت القرآن الكريم في صلاة الظهر، مقروءًا برواية "ورش عن نافع" التي كنت أسمعها لأول مرة.
للأسف، لم يتح لي أن أمضي وقتا طويلا داخل المسجد، إذ يُغلق أبوابه مباشرة بعد أداء الصلاة. شعرت بخيبة أمل صغيرة، كنت أودّ لو أتمشى في أروقته بهدوء، لكنني، رغم قصر الوقت، اقتنصت لحظات ثمينة لالتقاط بعض الصور التي لا تُنسى.
وداع دافئ من البحرخرجت من المسجد وقد تبقى لي بعض الوقت قبل التوجّه إلى المطار، فقررت أن أمضيه بجوار كورنيش الدار البيضاء، ذاك الممشى الطويل الذي يمتد بمحاذاة البحر وكان الجو مشمسا على الرغم من أنه كان اليوم الأول من يناير. قطعته مشيًا ذهابًا وإيابًا، أتنفس نسيم هواء المحيط الأطلسي، وأراقب الناس من حولي… هناك من يمارس الرياضة، وآخرون يجلسون في هدوء، أو يتجمعون حول أكشاك صغيرة تبيع الحلويات والعصائر والمرطبات. بدا لي الكورنيش وكأنه وداع دافئ من البحر بالنيابة عن المغرب.
عدتُ من جديد إلى الفندق، ولملمتُ حقائبي… ومعها كل الذكريات، كل الوجوه التي قابلتها، والنكهات التي تذوّقتها. اتجهت إلى مطار محمد الخامس، وجلستُ أنتظر رحلتي إلى القاهرة التي وصلت صباح اليوم التالي.
إعلانهكذا انتهت رحلتي في المغرب، التي بدأت بخيال قديم تشكل من الكتب والصور، وانتهت بواقع وذكريات أعمق وأغنى مما تخيّلت. كل مدينة زرتها منحتني شيئا مختلفا، وشيئا مشتركا أيضا… كرم أهلها، تنوع طبيعتها وثقافتها، وتفرد تفاصيلها.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات المدینة القدیمة ساحة جامع الفنا الحمام المغربی الدار البیضاء قلب المدینة فی المغرب فی مراکش وصلت إلى خرجت من فی فاس التی ت
إقرأ أيضاً:
مراكش في الصدارة..مدن مغربية تفرض نفسها ضمن الوجهات المفضلة للفرنسيين في صيف 2025
أظهر استطلاع حديث أجرته مؤسسة “أوبينيون واي” لصالح موقع “ليليغو” العالمي المتخصص في مقارنة أسعار السفر، أن عدداً من المدن المغربية باتت من أبرز الوجهات المفضلة لدى السياح الفرنسيين لصيف 2025.
وحافظت مدينة مراكش على مكانتها في قائمة أفضل عشر وجهات سياحية من حيث عدد عمليات البحث، محتلة المرتبة التاسعة.
في حين سجلت مدن مغربية أخرى نمواً لافتاً في شعبيتها، أبرزها الصويرة التي ارتفعت عمليات البحث عنها بنسبة 147 في المائة، وفاس التي شهدت زيادة بنسبة 64 في المائة، وفقاً للنتائج التي نُشرت مؤخرًا.
ورغم هذا التوجه نحو المغرب، تبقى فرنسا الوجهة الأولى لدى المسافرين الفرنسيين، حيث أظهرت الدراسة أن 67 في المائة من المشاركين يعتزمون قضاء عطلتهم داخل البلاد، بزيادة قدرها 6 نقاط مقارنة بصيف العام الماضي. في المقابل، تراجعت نسبة من يخططون للسفر إلى الخارج إلى 45 في المائة، أي بانخفاض قدره 5 نقاط.
كما تراجعت جاذبية الوجهات الأوروبية الأخرى، حيث عبّر 37 في المائة فقط عن رغبتهم في السفر داخل أوروبا هذا الصيف، وهو ما يمثل انخفاضاً بنسبة 7 في المائة مقارنة بعام 2024.
ويعكس هذا الاتجاه المتصاعد نحو المدن المغربية تطوراً ملحوظاً في صورة السياحة المغربية لدى السوق الفرنسية، مدعوماً بتنوع العروض السياحية والثقافية التي تقدمها هذه المدن.