جاء تفكك يوغسلافيا الدولة الموحدة إلى سبع دول هي صربيا ، كرواتيا، البوسنة والهرسك ، الجبل الأسود، كوسوفو وسلوفينيا ومقدونييا لعدة أسباب منها وأهمها:
– عدم تجذر الهوية اليوغوسلافية الجامعة في مخيال ووجدان المواطن اليوغسلافي ،فكان هناك هويات متعددة أقوى من المواطن اليوغسلافي مثل الصربي والبوسني والكرواتي والسلوفيني والكوسوفي وأبناء الجبل الأسود والمسادوني.
– تفكك الاتحاد السوفيتي الحليف القوي لدولة يوغسلافيا الموحدة.
– سيطرة الصرب على أكثر من 60 % تقريبا من مقدرات الدولة مما خلق شعورا بالغبن عند باقي الأقاليم.
– التدخل الأجنبي، خاصة أمريكا والأفغان العرب في حرب إقليم كوسوفو.
– المجازر والمعارك التي حدثت وأهمها مجزرة سريبرينيتسا.
كل هذه العوامل لم تدع مجالا لبقاء يوغسلافيا دولة موحدة وكان إجباريا الانفصال الذي طالب به الجميع.. فكان على الشعوب السبعة المكونة السابقة لدولة يوغسلافيا إفراز قيادات تقود سفينتها في الظروف الصعبة والأمواج العالية المتلاطمة.
ولأن الشعوب تلجأ في الأزمات العميقة الي المثقف، وليس إلي السياسي، لأن المثقف هو من ينتج قيمة مضافة للمجتمع والدولة، وهو من يؤمن بالقضية وهو من يزرع الأمل ويخاف التاريخ ولا يساوم على المبدأ.. عكس السياسي الذي يميل الي عقد الصفقات.
فكل شعب التف حول مثقف ومفكر وطني منهم:
الصرب التفوا حول رادوفان كاراديتش وهو شاعر رغم تحوله إلى دكتاتور، ولكنه، في نظر شعبه يعتبر بطلا قوميا.
والبوسنيون لجؤو إلى علي عزت بيغوفيتش، وهو مثقف ومفكر.
أما في كوسوفو فقد اختاروا روائي هو إبراهيم روجوفا. والكروات اختاروا الكاتب والمثقف المعروف فرانيو توجمان.
وبالمثل وليس بعيدا عن البلقان في دولة تشيكا الوليدة بعد تفكك دولة تشيكوسلوفاكيا، اختارت الجماهير الكاتب المسرحي فاتسلاف هافل من خلال الانتخابات أول رئيس لدولة تشيكيا هافل؛ الذي قيل عنه في مماته “كان الراحل رجل دولة عظيما وكان لكلمته وزن في السياسة والمجتمع”.
كتب هافل مسرحية شهيرة بعنوان “المغادرة” تدور السخرية التي تمتليء بها هذه المسرحية حول زعيم سياسي استقال من منصبه لكنه رفض مغادرة مسكنه الحكومي، ووصف بعض النقاد المسرحية بأنها أفضل أعماله.
هذه هي سيرة بعض الشعوب التي شعرت أن كيانها مهدد في الوجود، لذلك اختارت خيار صعبا وموجعا وهو الانفصال من اجل البقاء ودفعت بالمثقف العضوي لقيادتها في هذه المهمة العظيمة.
وها هي دول البلقان ودولتي تشيكيا وسلوفاكيا تُبعث من جديد مثل طائر الفنيق الذي يبعث من الرماد.
هكذا هي الشعوب العظيمة التي لا تستسلم للمحن وتقاوم الضعف والوهن بإيمانها بنفسها وقيادة أبطالها التي يلتف حولهم الشعب في مهمة كبيرة ولكنها ليست مستحيلة.
لقد نجحت شعوب البلقان، بقيادة مثقفيها في لحظات الحسم، في انتزاع حقها في الوجود المستقل وكتابة فصول جديدة لهويتها. لقد نهض طائر الفينيق من رماد الحرب والاضطهاد، مُظهراً قدرة هائلة على الصمود والتجدد. لكن الرحلة لم تنتهِ. التحول من ثورة التحرير إلى بناء دولة ديمقراطية مزدهرة وعادلة للجميع، ومن الهوية القومية الدفاعية إلى هوية وطنية جامعة ومتصالحة مع الجوار، هو التحدي الأكبر الذي لا يزال يواجه هذه الدول الفتية. إنها رحلة تتطلب ليس فقط شجاعة الحرب، بل حكمة البناء، وصبر المصالحة، واستمرار دور المثقف الناقد البناء، حارساً للضمير الجمعي ومرشداً نحو مستقبل لا يكرر أخطاء الماضي.
إن قدرة هذه الدول على تجاوز مخلفات الصراع وبناء مستقبل مشترك في قلب أوروبا ستكون الدليل الحقيقي على أن طائر الفينيق لم ينهض من الرماد فحسب، بل استطاع أن يحلق عالياً في سماء الحرية والاستقرار والازدهار الحقيقي
الآراء والوقائع والمحتوى المطروح هنا يعكس المؤلف فقط لا غير. عين ليبيا لا تتحمل أي مسؤولية.
المصدر: عين ليبيا
إقرأ أيضاً:
سعد: الغائب الذي لم يَغب
صراحة نيوز ـ الدكتور أسعد عبد الرحمن
يا أيّها الغالي سعد…
لا أحد يدرك، لا أحد يستطيع أن يدرك، كيف أن مطرقة رحيلك الصاعق قد هدمت ابراجاً داخلية عندي لطالما ظننتها منيعة. قد سحقت لبناتٌ شيّدها في داخلي التفاؤل المزمن الذي لطالما صاغ نفسيتي، وحماني من الهموم المتكاثرة في هذه الدنيا لكنك ذهبت. وبذهابك، سقط السقف.
صحيح، صحيح تمامًا، أنك أخي، ابن أمي وأبي. لكن هذا، وحده، لم يُتوّجك سلطانًا على قلبي، ولا جعلك توأم روحي الذي أصبحتَه. لقد جاءت “كلمة السر” في هذه العلاقة الإنسانية الاستثنائية من نبعٍ أعمق من صلات الدم، من ينابيع الصداقة التي تنامت بيننا، منذ كنت طفلًا يحبو. ثم، تفتحت من جديد – بعد انتهاء انقطاع قسري- مع التئام شملنا في الكويت حين بلغت أنت الخامسة والعشرين… ومنذ تلك اللحظة، كأن الحياة ابتسمت لي بك. كأننا، نحن الاثنان، استعدنا بقايا طفولة مؤجّلة، وعشناها بنضج من يعرف معنى أن يجد في أخيه صديقًا يسند الظهر، ويقرأ الصمت، ويكون مرآة الروح.
وحين غربت شمسك، ذات “فجرٍ” من حزيران الأسود عام 2023، غرب معك شيء لن يعود. لم يكن يومًا عاديًا. كان انسحابًا هادئًا لظلّك من كل زاوية في حياتنا. وتركتنا (تركتني انا بالذات) أُعاني من رحيلك ومن تلاشي دعوة متكاملة كنت قد وجهتها لك لرحلات متتابعة نقوم بها لتعزيز توأمة الروح التي جمعتنا، قبل أن يحين الأجل المحتوم والذي “توقعناه” في غضون سنوات…كأننا ظننا في اللاوعي عندنا اننا نعيش في”بروج مشيدة”!!!!!غير ان الحقيقة المرّة انفجرت حين غادرتنا بطريقة جعلت الوداع لا ينتهي.
بكيتك، سرًا وعلانية. بكيتك كما يُبكى الوطن حين يُغتصب، كما يُبكى الضوء حين يُطفأ فجأة ولا يعود. ثم، فجأة، انحبس الدمع وجفّ، الأمر الذي حيّرني. وحين سألني صمتي عن السبب، وجدتُ الجواب في دمار “قطاع غزة” ودمار شمال “الضفة”… في فلسطين التي تنزف ولا تموت. هناك، بكى وجعي الأكبر: فما سكبته عيناي من دموع على أهلنا لم يعلم به أحد. كان ذلك السرّ بين ربي وبيني. وكم حرصتُ على ألّا يعرف أحد عن ذلك الانكسار، لا عائلتي، ولا أصدقائي، ولا زملائي. آنئذٍ، صارت الفجيعة بك-اعذرني ياحبيب- تنزوي في ظلّ فاجعة أكبر.
لكن يا سعد…
عدتَ إليّ، من حيث لم أكن أتوقّع. عدت إليّ حين اجتمعنا في منزلكم لإحياء ذكراك. عدت اليّ في الصور المتكئة على جدران منزلك وفي استعادتي لعباراتك الظريفة كلما تحلقنا حول مائدة طعامكم الشهي. عودتك-هذه المرة- تداخلت مع المفارقة بالتجويع الظالم للأهل في “قطاع غزة”. كل هذه التداعيات “فجرّتني” بالبكاء من جديد، كأنني لم أبكِك من قبل، فحملتُ قلبي المتعب، واندفعتُ خارجًا من منزلك…لا لأهرب منك، بل لأهرب اليك.
ياسعد…
لا أحد يدرك، لا أحد يستطيع أن يدرك كم أفتقدك. وسواء كنتُ وحدي، أو مع الأقارب أو الأصدقاء، لطالما وجدتك تزورني، غالبًا بنعومة، وأحيانًا بشدّة. كنتُ أتجلّد. أتجمّد. كي لا “أفسد الجو”، كما كنت تمازحني…
لكن، آه يا توأم الروح، ما أشدّ وقع هذا التجلّد، وما أبطأ هذا النوع من الموت!
كلما عاد حزيران، سقطت من قلبي صفحة. وكلما اقترب “فجر” يومه الأول، يوم رحيلك، أدركت أنه ليس فجرًا… بل موعدٌ مع وجع، مع غيابٍ لا يرحل، ومعك، أنت، الذي ما زلت تعيش في كل ركنٍ من ذاكرتي. واليوم، انا لم أكتبك لأرثيك… بل لأُبقيك حيًّا. في الورق. في اللغة. في الذين سيقرؤونك دون أن يعرفوك. كتبتك لتظلّ بيننا.
ونعم، يا سعد، غبتَ جسدًا لكنك لم تغب من قلبي لحظة. تسكنني كما يسكن الضوء المرآة: لا يُرى، لكنه يُضيء كل ما يمرّ عليه. فسلامٌ عليك، في الذكرى الثانية، كما يليق بروحٍ نادرةٍ، لا يتكرّر غيابها، ولا يُشفى من فقدها.