"لبيك اللهم لبيك".. ضيوف الرحمن يستدعون لأداء "ركن الحج الأعظم"
تاريخ النشر: 4th, June 2025 GMT
مكة المكرمة- العُمانية
توافد حجاج بيت الله الحرام، صباح اليوم الثامن من ذي الحجة 1446هـ، إلى مشعر منى لأداء يوم التروية، أولى محطات مناسك الحج، في أجواء يملؤها الإيمان والخشوع. ويعد مشعر منى، الواقع في قلب مكة المكرمة، محورًا أساسيًّا لأداء مناسك الحج، حيث اجتمع فيه الحجيج لأداء شعائر الحج من ذكر ودعاء، مكثرين من التلبية: "لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك".
وفي يوم التروية، قضى الحجاج وقتهم في منى مُكثِرين من الذكر والتسبيح والتكبير، كما أدوا الصلوات الخمس قصرًا دون جمع، وفق السنة النبوية.
ويبيت الحجاج هذه الليلة في منى ليلة التروية، مستعدين روحيًّا ونفسيًّا للانتقال إلى عرفات في اليوم التاسع من ذي الحجة، حيث الوقفة الكبرى، أعظم أركان الحج. يُشار إلى أن تسمية "التروية" ترتبط بتزود النبي محمد صلى الله عليه وسلم بالماء قبل أداء المناسك.
وبعد يوم التروية والوقوف بعرفات والمبيت في مزدلفة، يعود الحجاج إلى منى لرمي جمرة العقبة يوم العيد، ثم يقضون أيام التشريق في أداء الشعائر، منها رمي الجمرات الثلاث يوميًا بعد الزوال وحتى الغروب. ويُعد المبيت في منى خلال ليالي التشريق واجبًا، إلا لمن لديه حاجة مشروعة تتطلب الخروج. وتُعد هذه الأيام فرصة للحجاج لاستكمال أعمال الحج في أجواء من التأمل والذكر.
يقع مشعر منى على بُعد 7 كيلومترات شمال شرق المسجد الحرام، ضمن حدود الحرم المكي، ويمتد في وادٍ تحيط به الجبال من الجهتين الشمالية والجنوبية، مما يمنحه طابعًا جغرافيًّا مميزًا. يحده من جهة مكة جمرة العقبة، ومن جهة مزدلفة وادي محسر. ويُعد منى مكانًا مخصصًا لأداء مناسك الحج، حيث لا يُسكَن إلا خلال أيام الحج، مما يجعله رمزًا يجمع المسلمين من شتى بقاع الأرض.
كما أن منى اليوم مدينة مؤقتة مجهزة بأحدث التسهيلات لاستيعاب ملايين الحجاج. تضم مخيمات مكيفة ومرافق صحية وخدمات طبية وأمنية لضمان راحة وسلامة ضيوف الرحمن.
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
نجاة عبد الرحمن تكتب: مصر.. هندسة السلام من قلب النار
لم يكن الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار في غزة من مدينة شرم الشيخ حدثًا عابرًا في سجل المنطقة، بل محطة مفصلية تؤكد أن مصر رغم كل التحولات والتقلبات الدولية ما زالت تمسك بخيوط اللعبة في أكثر ملفات الشرق الأوسط تعقيدًا. فبعد عامين من حرب أنهكت البشر واستنزفت الجغرافيا، استطاعت القاهرة أن تُعيد ضبط الإيقاع، وأن تضع الجميع أمام خيار واحد: لا بديل عن السلام.
منذ اللحظة الأولى لتصاعد الصراع، لم تتعامل مصر مع الأزمة باعتبارها نزاعًا محدودًا بين طرفين، بل كجرح مفتوح في جسد الأمة، يمتد أثره إلى الأمن القومي المصري ذاته. فمصر تعرف أن غزة ليست مجرد جارٍ مضطرب، بل شريان يلامس حدودها، وأن أي اشتعال فيه يعني تهديدًا مباشرًا لاستقرار سيناء والمنطقة كلها. ولهذا تحركت القاهرة ببراغماتية محسوبة، لا بدافع العاطفة، بل بمنطق الدولة العارفة بموازين القوة وحدود التأثير.
على مدى عامين، ظلّ الدور المصري حاضرًا وإن بدا في الخلفية. قادت القاهرة قنوات اتصال غير معلنة مع أطراف النزاع، وتولت مهمة الوسيط الصامت بين حماس وإسرائيل، في وقت فشلت فيه قوى إقليمية ودولية في تحقيق اختراق حقيقي. لكنّ صمت مصر لم يكن سكونًا، بل كان عملاً دبلوماسيًا دؤوبًا، يستند إلى خبرة تراكمت منذ اتفاقية كامب ديفيد وحتى اتفاق القاهرة بين الفصائل الفلسطينية.
جاءت اللحظة الفاصلة في شرم الشيخ، حين اجتمعت الإرادات المتناقضة حول طاولة واحدة. برعاية مصر وقطر والولايات المتحدة، ووفقًا لخطة السلام التي طرحها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، تم التوصل إلى اتفاق شامل لوقف إطلاق النار وإنهاء الحرب. غير أن جوهر الحدث لا يكمن في بنود الاتفاق، بل في من استطاع أن يجمع المتنافرين ويكسر حلقة الدم التي بدت أبدية. هنا تحديدًا، برزت مصر لا كوسيط فقط، بل كصانعة للتوازن، وضامنة لواقعية التسوية.
لقد أعادت القاهرة من خلال هذا الاتفاق تثبيت دورها التاريخي كقلب العالم العربي ومركز الثقل في معادلات الإقليم. فحين سكتت العواصم العربية، وارتبكت المواقف الدولية، كانت مصر وحدها قادرة على إدارة الخيوط المعقدة بين واشنطن وتل أبيب وغزة والدوحة، من دون أن تفقد اتزانها أو تُفرّط في ثوابتها. إنها براعة الدبلوماسية المصرية التي تجمع بين الحزم والمرونة، وبين الواقعية والمبدأ.
ومن المهم إدراك أن هذا النجاح لم يأتِ من فراغ، بل من رؤية مصرية متكاملة تعتبر أن الأمن الإقليمي لا يمكن فصله عن الأمن القومي. فالقاهرة تعلم أن بقاء غزة في حالة اضطراب دائم يعني بقاء سيناء مهددة، وأن أي تصعيد على الحدود يفتح الباب أمام التدخلات الأجنبية في خاصرتها الشرقية. ومن ثمّ، فإن تحقيق التهدئة ليس هدفًا إنسانيًا فحسب، بل ضرورة استراتيجية.
لقد واجهت مصر تحديات هائلة في طريقها إلى هذا الاتفاق. فهناك قوى كانت تراهن على فشل الوساطة المصرية من أجل تكريس نفوذها في الملف الفلسطيني، وأطراف حاولت فرض أجنداتها عبر التصعيد الإعلامي أو العسكري. ومع ذلك، نجحت القاهرة في الحفاظ على خيوط التواصل مع الجميع، دون أن تنجر إلى الاستقطاب، مستفيدة من شبكة علاقاتها المتوازنة مع كل الأطراف من واشنطن إلى الدوحة، ومن تل أبيب إلى رام الله.
في الوقت ذاته، لم تكتفِ مصر بالدبلوماسية التقليدية، بل اعتمدت مقاربة شاملة تمزج بين السياسة والإنسانية. فبينما كانت المفاوضات تدور في القاعات المغلقة، كانت شاحنات الإغاثة المصرية تعبر إلى غزة، حاملة الدواء والغذاء، ورسائل التضامن التي تخاطب الوجدان قبل المصالح. هذه الصورة المزدوجة الدولة القادرة على الردع، والرحيمة بالشعوب هي التي منحت القاهرة شرعية الوساطة وثقة المتنازعين في آنٍ واحد.
ولعلّ ما يميز اللحظة الراهنة أن مصر لم تُقدّم نفسها كراعٍ لمشروع أمريكي جديد، بل كضامن لتوازن حقيقي بين متطلبات الأمن وضرورات العدالة. فالاتفاق، وإن وُلد في ظل مبادرة ترامب، إلا أنه أعيد تشكيله برؤية مصرية تحفظ ماء وجه الجميع، وتمنح الفلسطينيين متنفسًا بعد سنوات من العزلة والحصار. وبذلك، استطاعت القاهرة أن تُفرغ المشروع الأمريكي من شُحنته السياسية المنحازة، وتحوّله إلى إطار عملي قابل للحياة.
إن ما حدث في شرم الشيخ ليس نهاية الطريق، بل بداية مرحلة جديدة تتطلب يقظة ومتابعة دقيقة. فوقف إطلاق النار لا يعني بالضرورة حلول السلام، بل يمنح الأطراف فرصة لإعادة التفكير، وإعادة ترتيب الأوراق. ومصر — بحكم موقعها ودورها — ستكون الطرف الأكثر انخراطًا في ضمان تنفيذ الاتفاق، ومنع عودته إلى دائرة الفشل.
وليس سرًّا أن مصر تتعامل مع هذا الملف بعقل الدولة التي تدرك أن الاستقرار لا يُشترى، بل يُبنى بالتراكم. لذلك ستواصل القاهرة دورها في إعادة إعمار غزة، بالتعاون مع شركائها العرب والدوليين، وفي الوقت ذاته ستعمل على منع أي محاولات لتسييس المساعدات أو تحويلها إلى أوراق ضغط. فالقضية بالنسبة لمصر ليست مجرد هدنة مؤقتة، بل استحقاق إنساني واستراتيجي طويل الأمد.
إن جوهر الدور المصري في هذا الاتفاق يمكن تلخيصه في ثلاث كلمات: القدرة على الممكن. ففي عالم يزدحم بالتناقضات، نجحت مصر في أن تجعل من السلام خيارًا واقعيًا، لا شعارًا أخلاقيًا. أعادت التذكير بأن النفوذ الحقيقي لا يُقاس بعدد الطائرات، بل بعدد الأزمات التي تستطيع أن تُنهيها دون دماء.
وفي الوقت الذي انشغلت فيه بعض القوى بتسجيل النقاط الإعلامية، كانت القاهرة تكتب على أرض الواقع سطرًا جديدًا في سجلها الطويل من صناعة التوازن. شرم الشيخ لم تكن فقط مسرحًا للمفاوضات، بل مرآة تُظهر للعالم أن مصر رغم كل شيء ما زالت الرقم الصعب، والضامن الوحيد لأن لا تتحول فلسطين إلى ساحة صراع دائم.
لقد قدّمت مصر للعالم درسًا في السياسة الهادئة: لا صراخ، لا استعراض، لا بيانات انفعالية. فقط عمل منظم، وحوار صبور، وثقة متراكمة. وحين حانت اللحظة، كانت القاهرة هي الوحيدة القادرة على جمع كل الخيوط، وعلى تحويل النزاع من مأساة إلى فرصة.
في النهاية، يمكن القول إن اتفاق شرم الشيخ لم يُنهِ الحرب فحسب، بل أعاد تعريف مفهوم القوة في المنطقة. فالقوة اليوم ليست من يضغط على الزناد، بل من يملك الشجاعة ليكفّ يده عنه. ومصر، مرة أخرى، أثبتت أنها حين تتحدث باسم السلام، فإن صوتها لا يعلو عليه صوت.
ومن شرم الشيخ، المدينة التي شهدت عبر عقودٍ وجوهًا كثيرة للسلام، خرجت مصر هذه المرة لا لتعلن انتصارًا سياسيًا، بل لتُذكّر العالم بأن إرادة الحياة أقوى من أي آلة حرب. لم تكن الكلمات التي نُطقت هناك مجرد دبلوماسية باردة، بل كانت صدى لوجعٍ عربيٍّ طويل، واعترافًا بأن السلام ليس ضعفًا، بل شجاعة من نوعٍ آخر.
في تلك اللحظة، حين أُطفئت النيران وبدأت الأرواح تستعيد أنفاسها، بدت مصر كما كانت دائمًا: أمًّا كبيرة تتقدم الصفوف، تحتضن أبناءها رغم خلافهم، وتُصرّ على أن تبقى الجغرافيا العربية جسدًا واحدًا مهما تكالبت عليه الجراح.
ربما لا يدرك العالم أن هذا البلد الذي يزرع في كل مرة شجرة سلام، إنما يفعل ذلك لأنه يؤمن بأن على هذه الأرض ما يستحق الحياة.
ومهما تغيّرت الوجوه والعناوين، ستبقى مصر بتاريخها، وحكمتها، وصبرها هي صوت العاقل في زمن الجنون، وصاحبة الكلمة الأخيرة حين يختلف الجميع على معنى الوطن.
ولعل القدر شاء أن يتزامن هذا الاتفاق التاريخي مع ذكرى نصر أكتوبر المجيد، وكأن الزمن يكتمل دورته ليقول إن مصر لا تعرف إلا الانتصار، سواء بالسلاح أو بالسلام.
ففي أكتوبر 1973 عبرت مصر خط النار لتستعيد أرضها وكرامتها، واليوم تعبر من جديد ولكن هذه المرة نحو سلامٍ يحفظ الدماء ويصون المستقبل.
هو عبور من نوعٍ آخر، عبور من ميادين القتال إلى ساحات الدبلوماسية، من صوت المدفع إلى صوت العقل، من الحرب التي حرّرت الأرض إلى السلام الذي يحمي الإنسان.
وهكذا، تظل مصر التي انتصرت بالأمس بسواعد أبنائها تنتصر اليوم بحكمتها، وتثبت أن قوتها لم تكن يومًا في السلاح وحده، بل في وعيها بدورها ومسؤوليتها التاريخية.