د. منصور القاسمي **

 

في ظلّ التصاعد غير المسبوق للتوترات العسكرية بالمنطقة، تجد المنظومة اللوجستية في سلطنة عُمان ودول مجلس التَّعاون الخليجي نفسها أمام اختبار حرج؛ ذلك أنَّ موقع هذه الدول على ضفّتي مضيق هرمز يجعلها في قلب أكثر الممرات البحرية حساسية في العالم؛ إذ يعبُر منه نحو 30 في المائة من صادرات النفط الخام العالمية وما يربو على خُمس تجارة الغاز الطبيعي المُسال.

ومع أنّ سلطنة عُمان تمتلك واجهة بحرية واسعة على المحيط الهندي وبحر العرب خارج المضيق، إلّا أنّ تشابك اقتصادها مع أشقائها بدول المجلس واعتماد الأسواق الصناعية على واردات الخام والغاز والمواد الأولية عبر الخليج العربي يضعنا جميعًا في سلة المخاطر حين تتفاقم الأزمات والتحديات. ورغم تمتع سلطنة عُمان بموقع استراتيجي مهم خارج مضيق هرمز، ما يمنحها ميزة نسبية في ظل الأزمات. ومع ذلك، فإنَّ اعتماد السلطنة على أشقائها بدول المجلس وسوق التصدير الخليجي يجعلها غير محصنة بالكامل.

وتكشف أرقام عام 2023 أنّ إجمالي صادرات دول المجلس من النفط الخام تجاوز 17 مليون برميل يوميًا، وهو ما يمثّل نحو 40 في المائة من التجارة العالمية المنقولة بحرًا وتُحافظ السلطنة وحدها على معدل يتراوح بين 800 و900 ألف برميل يوميًا، يتجه ثمانون في المائة منه إلى الأسواق الآسيوية الكبرى وتحديدًا الصين والهند واليابان. أمّا في سوق الغاز الطبيعي المسال، فتتصدر دولة قطر المشهد بطاقة قدرها 82 مليون طن سنويًا، بينما ترفد عُمان السوق الإقليمية والعالمية بـ11 مليون طن من محطة قلهات بولاية صور. وعلى الجانب المقابل، ما زالت دولة الكويت ودولة الإمارات العربية المتحدة تستورد جزءًا معتبرًا من المنتجات المكررة، كما تعتمد دولة الإمارات والبحرين والكويت على واردات الغاز لسد فجوات توليد الكهرباء في ذروة الصيف، وأي توقف مفاجئ لحركة الناقلات أو استهداف للبنى التحتية الساحلية سيعني عجزًا مباشرًا في تشغيل محطات الكهرباء والصناعات البتروكيماوية وما يتبع ذلك من ارتفاع أسعار الوقود والكهرباء والمنتجات الاستهلاكية.

ولا تقتصر المخاطر على المعادلة الاقتصادية؛ إذ إنَّ بحر عُمان والخليج العربي بحران شبه مغلقيْن تدور فيهما التيارات المائية ببطء؛ ما يجعل أي تسرب نفطي أو تلوث كارثي طويل الأمد من خلال احتمالات استهداف السفن أو تلغيم الممرات وغيرها، يزداد خطر الانسكابات الواسعة التي قد تُدمِّر الشعاب المرجانية بالمنطقة، وتشوّه السواحل التي تعيش عليها آلاف من العائلات العاملة في مجال الصيد، وتُعطِّل محطات التحلية التي تؤمِّن أكثر من نصف مياه الشرب في دول مجلس التعاون.

هل نقف عاجزين أمام هذه السيناريوهات المعقدة؟

تبرز الحاجة إلى حزمة استثمارات وحلول لوجستية متكاملة لا تقوم على ردّ الفعل؛ بل على بناء مناعة مسبقة لدول مجلس التعاون تقودها سلطنة عُمان. فمن الناحية اللوجستية، يُعد تسريع تطوير الموانئ العُمانية، وفي مقدمتها الدقم وصحار وصلالة، وربطها المباشر بخط السكك الحديدية الخليجي المرتقب، وهي خطوة أساسية لإنشاء ممر بديل لا يمُر عبر هرمز. ويكمن عنصر الأمان الحقيقي في إنشاء مرافق تخزين استراتيجية على سواحل السلطنة وخارج دول المجلس تتسع احتياطيًا بما يكفي لنحو 90 إلى 180 يومًا من النفط الخام والمنتجات المكررة والغاز المسال، بحيث تواصل مصافي المنطقة ومولدات الكهرباء عملها حتى في أسوأ السيناريوهات. كما إن توسيع نطاق التجارة المباشرة مع أسواق شرق إفريقيا وجنوب آسيا عبر خطوط ملاحية تنطلق من بحر العرب، سيُخفِّض الاعتماد على عمليات إعادة الشحن داخل دول المجلس، ويُقلِّص زمن الرحلات وكلفة التأمين حين يشتد التوتر.

في المقابل، يتطلب اتقاء التلوث البحري من خلال تأسيس مركز إقليمي للاستجابة السريعة، وهنا نُرشِّح جنوب سلطنة عُمان (ظفار)، وأن يكون هذا المركز مجهزًا بسفن مكافحة التسرُّبات وحواجز عائمة وطائرات مُسيَّرة للمسح اللحظي. وينبغي إلزام جميع الناقلات المارة بمياه المنطقة باستخدام بَدَنٍ مزدوجٍ ومعدات سلامة مُعزَّزة، مع تكثيف عمليات التفتيش في الموانئ للتثبُّت من جاهزية الناقلات القديمة. ولأن الوقاية تبدأ من السماء، فإن استثمارًا خليجيًا مُشتركًا في أقمار صناعية صغيرة مخصصة لرصد بقع النفط والتلوث البحري وتتبُّع عمليات التفريغ غير القانونية، من شأنه أن يمنح السلطات القُدرة على التدخل خلال ساعات لا أيام. وفي حال وصول التلوث إلى السواحل، يجب أن تمتلك محطات تحلية المياه خططًا للطوارئ تُتيح سحب المياه المُلوَّثة من مساراتٍ أبعد في البحر وتفعيل أنظمة ترشيح متقدمة، وإلّا تعرَّضت مدنٌ كاملة لخطر نقص وشُح مياه الشرب في المنطقة.

يبقى الجانب السياسي والأمني هو الضابط النهائي لهذا المشهد؛ إذ لا يُمكن لأي خطة وطنية أن تصمُد دون تنسيق إقليمي ودولي. ومن هنا تبرُز أهمية إنشاء فريق اتصال بحري مُوَحَّد يضم سلطنة عُمان ودول مجلس التعاون مع منظمات دولية مثل المنظمة البحرية الدولية، إضافة إلى القوى البحرية الرئيسة الحاضرة في المنطقة كالولايات المتحدة والهند والصين. ويُفترض أن يفضي هذا الفريق إلى صياغة ما نسميه «بروتوكول هُرمز للأمان البحري» بما يضمن تحديد مسارات إبحار مُنفصلة ويربط السفن التجارية بنظام إنذار مُبكِّر يستند إلى بيانات الأقمار الصناعية والرادارات الساحلية. وفي الجبهة المالية، يستطيع صندوق استثمار خليجي مشترك في خدمة التأمين وإعادة التأمين البحري أن يخفف من قفزات أقساط التأمين على الناقلات، ما يحد من انتقال تكلفة المخاطر الأمنية مباشرة إلى أسعار المستهلك النهائي.

إنَّ الأزمات، مهما بدت قاتمة، تحمل بذور الفرص؛ فموقع سلطنة عُمان قد يتحول من مجرد ميزة جغرافية إلى صمام أمان حقيقي لإمدادات الطاقة والماء والغذاء والدواء للخليج العربي، إذا ما اقترن بالاستثمار في المخازن الاستراتيجية، وامتلاك موانئ عملاقة عميقة الكاسر، وشبكات نقل داخلية حديثة وسكك الحديد، وحلول رقمية قائمة على الذكاء الاصطناعي لضبط سلاسل الإمداد. ومع تبنِّي استراتيجية وبروتوكولات استباقية، تجمع بين التحول اللوجستي والحماية البيئية والتنسيق الأمني، تستطيع دول مجلس التعاون أن تبني مناعةً تُمكِّنها من امتصاص الصدمات والأزمات في المستقبل، وتضمن استقرارها الاقتصادي والصناعي، وتُؤمِّن بيئتها البحرية لأجيال قادمة.

** أكاديمي في علم اللوجستيات وسلاسل التوريد

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

مجلس الضمان الصحي يوقّع جزاءات على عدد من أصحاب العمل

أعلن مجلس الضمان الصحي، عن صدور قرارات تقضي بفرض جزاءات على عدد من أصحاب العمل، نتيجة مخالفتهم أحكام نظام الضمان الصحي التعاوني.
وأوضح المجلس أن القرارات الصادرة جاءت بحق (110) من أصحاب العمل، بمجموع غرامات قدرها (2,556,000 ريال) (مليونان وخمسمئة وستة وخمسون ألف ريال)، وذلك بعد توجيه عدة إنذارات سابقة بضرورة تصحيح أوضاعهم، ومعالجة المخالفات المتعلقة بعدم توفير التغطية الصحية الإلزامية للعاملين لديهم وأفراد أسرهم المشمولين بالنظام.
وتنص المادة الرابعة عشرة من نظام الضمان الصحي التعاوني، على أنه في حال عدم التزام صاحب العمل بالاشتراك أو لم يقم بدفع أقساط التأمين الصحي عن العاملين وأسرهم المشمولين، فإنه يُلزم بسداد الأقساط المستحقة، بالإضافة إلى غرامة مالية لا تتجاوز قيمة الاشتراك السنوي لكل فرد، كما يجوز حرمان المخالفين من استقدام العمالة لفترة مؤقتة أو دائمة.
وتأتي هذه الإجراءات في إطار تعزيز دور المجلس، جهة معنية بتطبيق إلزامية التأمين الصحي، على أصحاب العمل لحفظ حقوق المستفيدين من الضمان الصحي، ورفع مستوى الامتثال بما يسهم في ترسيخ مبادئ العدالة والشفافية، لضمان حصول المستفيدين على حقوقهم من الرعاية والحماية الكاملتين، وبأعلى معايير الجودة والكفاءة.
من جانبها، أكدت المتحدث الرسمي لمجلس الضمان الصحي إيمان الطريقي، حرص المجلس على توفير بيئة تنظيمية تعزز الامتثال والالتزام لضمان حقوق مستفيدي الضمان الصحي، مشددةً على مواصلة المجلس جهوده في رصد المخالفات، وتطبيق الأنظمة بحق المنشآت غير الممتثلة، لحفظ حقوق المستفيدين من الضمان الصحي وأفراد أسرهم.
وأوضحت، أن المجلس يعمل بشكل مستمر على متابعة التزام أصحاب العمل بالتغطية الصحية الإلزامية، مهيبةً بجميع أصحاب العمل المبادرة إلى تصحيح أوضاعهم والالتزام بالأنظمة واللوائح المنظمة، لحفظ حقوق العاملين وتهيئة بيئة عمل صحية وآمنة.

مقالات مشابهة

  • هل يٌسمح للأطفال بدخول مجلس التعاون الخليجي ببطاقة الهوية؟.. توضيح من الجوازات
  • مجلس النواب يبارك المرحلة الرابعة من التصعيد دعما لغزة
  • اقتصاد ما بعد الريع: طريق التنمية بوابة العراق إلى العصر اللوجستي
  • مجلس النواب يعقد جلسة رسمية في بنغازي
  • أسعار النفط ترتفع وتتجه لمكاسب أسبوعية بنحو 5%
  • ترامب يصعّد هجومه على باول ويطالب المجلس الاحتياطي بخفض الفائدة
  • مجلس الضمان الصحي يوقّع جزاءات على عدد من أصحاب العمل
  • إنتاج النفط والمكثفات يقترب من 1.5 مليون برميل خلال 24 ساعة
  • عضو مجلس غرفة الأخشاب: نسعى لزيادة صادرات القطاع إلى 350 مليون دولار
  • المجلس الوزاري للأمن الوطني يؤكد على تنظيم العمالة الأجنبية أمنيا واقتصاديا واجتماعيا