كيف أعاد شفيق البيطار بادية بني سعد إلى البيوت بلغة عربية فصيحة للأطفال؟
تاريخ النشر: 18th, June 2025 GMT
في زمن تتزاحم فيه الأحداث، وتتوارى فيه القامات خلف ضجيج العابرين، جاء كتاب "العالم الموسوعي الدكتور محمد شفيق البيطار 1965-2024 في ذكرى رحيله" ليكون مرآة صافية تعكس سيرة واحد من هؤلاء الأفذاذ، رجل قل نظيره علما وخلقا ووفاء، اجتمعت فيه صفات الباحث المدقق، والمربي الحليم، والشاعر الرقيق، والمصلح المخلص لوطنه وأمته.
هذا الكتاب تم بإشراف الدكتور مقبل التام الأحمدي، وهو ليس مجرد رثاء لخازن العربية وإمام علوم آلاتها بشهادة عدد من كبار علماء العربية وأهلها، بل هو وفاء موصول لرجل عاش للعربية ولأهلها، وحمل أمانة العلم حتى آخر لحظة في حياته، جامعا بين أصالة العالم ونبل الإنسان، وإحياء لذكرى هذا العالم الكبير، وتمتينا لروابط المحبة والأخوة بين أهل اليمن وسورية، وقلبا نابضا بالوفاء والإخلاص لهذا الرجل.
وكان للدكتور شفيق يد سابقة وفضلى في إحياء جمع أشعار العرب شعراء وقبائل في الجاهلية والإسلام، واستنطاق ما في تلك الأشعار من مواد معرفية وفكرية وثقافية، محتذيا نهج أستاذه العلامة عبد الحفيظ السطلي، رحمهما الله.
وهو ممن آثروا البقاء في الشام والرباط فيها خلال سنوات الثورة والمحن، صابرا على الظلم، مؤثرا حفظ الثغر وصون أمانة العلم وتبليغها إلى أبناء الشام، فسد ببقائه ثغرات علمية ما كانت لتسد بغيره، وترجل الفارس قبل أن يشهد بعينيه سقوط الطاغية، وتحقق يقينه فيه، وصدق بشارته التي أسرها لبعض من حوله.
سيرة ومسيرة.. وفاء لذكرى عالم فذّمحمد شفيق البيطار ولد في رأس المعرة بريف دمشق عام 1965، وتخرج في جامعة دمشق عام 1987م، بعد أن نال الدرجة الأولى على دفعته، وعين بعدها معيدا في القسم، ثم نال درجة الماجستير عام 1992 عن أطروحته: (شعر حميد بن ثور الهلالي جمعا ودراسة)، ثم نال الدكتوراه في الأدب الجاهلي بمرتبة الشرف عن أطروحته (شعر قبيلة كلب بن وبرة جمعا ودراسة)، وكلتا الأطروحتين بإشراف أستاذه عبد الحفيظ السطلي الذي توفاه الله قبله بـ3 سنوات (2021)، وكانتا على غاية من الإحسان والجودة والاستقصاء، وبلغتا من الدقة والإتقان ما جعلهما مرجعا لا يستغنى عنه لمن أراد العمل في الشعر القديم.
إعلانوقد درس في جامعة دمشق منذ عام 1988 إلى أن توفاه الله عام 2024، ودرس خلال هذه الأعوام العروض وموسيقا الشعر والتذوق الشعري والأدب الجاهلي، ولم يغادر دمشق إلا سنة واحدة درس فيها في كلية المعلمين بمكة وجدة معارا، ثم عاد إلى جامعته متمسكا بها وبالشام، عازما ألا يفارقها، فوفى بما عاهد نفسه، متحملا سنوات الشام العجاف الأخيرة.
ومن الإرث الخفي العظيم الخير الذي تركه عمله مع قناة "سبيستون" للأطفال على 30 عاما، دأب فيها على التدقيق اللغوي لبرامج الأطفال، وكتابة كلمات كثير من الأناشيد والشارات فيها بلغة أنيقة مشرقة محببة للأطفال -وهو الشاعر الرائق الأنيق- فوفر للأطفال سماعا لغويا سليما وقابلية أعلى لاكتساب العربية الفصيحة.
"أغنى عمله ذاك عن إرسال أولاد اليوم إلى البادية لتلتقط آذانهم العربية من أفواه أهلها الأقحاح صافية بلا كدر، فنقل بصنيعه هذا بادية (بني سعد) إلى بيوت الناس اليوم بلا عناء ولا سفر ولا اغتراب، تلك البادية التي كان عرب الجاهلية يرسلون أولادهم إليها فيحرمون من رؤيتهم دهرا"
ويصف الدكتور مقبل فضل صنيعه هذا فيقول: "أغنى عمله ذاك عن إرسال أولاد اليوم إلى البادية لتلتقط آذانهم العربية من أفواه أهلها الأقحاح صافية بلا كدر، فنقل بصنيعه هذا بادية (بني سعد) إلى بيوت الناس اليوم بلا عناء ولا سفر ولا اغتراب، تلك البادية التي كان عرب الجاهلية يرسلون أولادهم إليها فيحرمون من رؤيتهم دهرا".
ومن أساتذته الذين درسوه وانتفع بهم: الدكتور عبد الحفيظ السطلي، والدكتور عاصم بهجت البيطار، والدكتور رضوان الداية، والدكتور مازن المبارك، والدكتور وهب رومية، والدكتور عبد الكريم الأشتر، والدكتور عبد النبي اصطيف، والدكتور حسام الخطيب، والدكتورة عزيزة مريدن، والدكتورة ليلى الصباغ من قسم التاريخ. وجميعهم من الأعلام الكبار الذين انتفع بهم خلق كثير.
مكانته العلمية ومواقفه الأخلاقيةوكان الدكتور شفيق ذا شخصية فريدة حملته على أن يربأ بنفسه عن المناصب ما استطاع، على جدارته ورغبة من حوله بتوليه رجاء نفعه الناس، ولعل من أسباب نفوره خشيته مما جرت به العادة في المناصب في سورية زمن الأسد من ضغوط شديدة على القلة الصابرة من أهل الأمانة والأخلاق، حتى إنه بعد تعيينه رئيسا لقسم اللغة العربية في جامعة دمشق أوشك -بل عزم- على الاستقالة مرات لولا تصبره وتصبير بعض أهل وده وثقته حتى أتم دورة واحدة في رئاسة القسم لعامين.
وكان رئيس تحرير مجلة جامعة دمشق للآداب والعلوم الإنسانية لـ7 سنين، وقد انتخب عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية بدمشق ليشغل الكرسي الذي شغر بموت الدكتور إحسان النص، رحمه الله، وأقام له المجمع حفلة استقبال علنية مهيبة حضرها نخبة من أهل العلم والأدب، وله عدد من المؤلفات والآثار المهمة.
والكتاب كلمات مجموعة من طائفة من أساتذته وأصدقائه وطلابه وأهله، تصف هذا الرجل النادر في سياقات مختلفة علمية وأكاديمية واجتماعية وشخصية، وهي بمجملها وصف ومواقف شخصية تفتح نوافذ الفهم والتبصر بهذه الشخصية التي جمعت العلم الرفيع والأدب الجم والخلق النبيل.
شهادات بعض الكبار فيهوقد وصفه أستاذه الدكتور مازن المبارك بقوله: "عرفت الدكتور محمد شفيق البيطار منذ سنين بعيدة، وعرفت فيه خلقا قل نظيره، فهو هادئ دمث، يحب الأناة والهدوء، حلو المعشر، خافت الصوت، وهو كنز في العربية ومصادرها، حاضر الحجة، سريع البديهة، وقد فقدناه أستاذا جامعيا محبوبا، وخسرناه زميلا مجمعيا ينجدنا بالحجة والبرهان، وذكر المصادر بالاسم والعنوان، وغاب عنا بفقده أخ ثابت الود، تميز بالوفاء والألفة، وسعة المعرفة، وقدم للعربية وأهلها وأجيالها جهودا كبيرة في التدريس والتأليف والتحقيق".
إعلانوقال عنه أستاذه وزميله الدكتور وهب رمية، الذي ما لبث إلا قليلا بعده: "نفض الدكتور شفيق من على منكبيه غبار 57 عاما قضاها في مدارسة الكتب، وزانها بالعطاء وحب الناس، وحسبك أن تراقبه وهو مع طلابه الذين يشرف عليهم، فتراه يحل لهم ما اعتاص عليهم، وينشر فوقهم جناح المحبة والثقة، فيغمرهم ببساطته الآسرة، وتواضعه الجم الذي يفيض عذوبة ومحبة، وحسبك أن ترى كل ذلك منه لتدرك أن الله قد وهبه الصبر والعلم والمحبة، وهو باحث جاد مدقق، ومحقق حصيف رزقه الله الصبر على مكاره البحث ومضايقه".
وكان رثاء الدكتور محمد قاسم له رثاء القريب الحبيب العارف، فكان مما قاله فيه: "أما علم الدكتور محمد شفيق فتضيق به الصحف، وإن سمت القلم أن يستقصي وجوه علمه جمح لتكاثرها عليه وتدافعها، ونظرة في ديوان الصحابي حميد بن ثور الهلالي الذي نهض بتحقيقه تقفك على رجل عالم حذاقي نقاب بصير بالشعر، ثم إن له من وراء ذلك علما جامعا بمصادر التراث العربي… أما اللغة التي يكتب بها فهي من أنصع البيان وأفصحه وأيسره على مقاييس العربية.. وبلغ من معرفته بالفارسية أنه ترجم رباعيات بابا طاهر العريان، وصاغها شعرا عربيا خالص الديباجة والماء، وألبسها ثوب العربية القشيب".
وكان مما قاله الدكتور مقبل التام الأحمدي اليمني فيه: "رأته المنايا خيرنا فاختطفته، ففقدت برحيله الجامعة شيخ أساتذتها وشاعرهم ونسابتهم وقسطاط العروض فيها وحليمهم وحبيبهم، وصاحب نجدتهم ومهوى أفئدتهم. وفقد المجمع لسان حق وعدل لا يبارى ولا يزاحم، وخلت برحيله الدار إلا ما كان من بقية إخوة أو من طلبة رزقوا حظا من وراثة علمه وتمثل سيرته".
وقال عنه الكاتب والملحن الموسيقي والمغني لأناشيد الطفل في قناة سبيستون طارق العربي طرقان: "الدكتور شفيق البيطار هو المربي الفاضل، الغيور على لغته وأبنائه، أحبه الملايين من أصدقاء الطفولة، وكان له فضل عليهم وعلينا. كلماته ومشاعره دخلت كل بيت عربي دون استثناء، وكان لها أثر طيب سيدون للجميع بإذن الله".
ويحسب للكتاب أنه شهادة وفاء صادقة بحق عالم جليل من علماء العربية، تحفظ للشباب العربي ذاكرتهم وتمتن صلاتهم بعلمائهم الراحلين، رجاء أن يضعهم هذا الكتاب على منهج هذه القلة الصابرة النابغة، ليسيروا سيرهم ويحتذوا حذوهم.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات الدکتور مقبل الدکتور محمد جامعة دمشق محمد شفیق
إقرأ أيضاً:
إلى الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء
إلى الدكتور كامل إدريس، رئيس الوزراء
مع التحية والاحترام.
من أبرز ما يوصي به مدربو كرة القدم لاعبيهم، في حال كانوا بحاجة إلى إحراز ثلاثة أهداف مثلًا، أن يركّزوا على الهدف الأول وكأنه غايتهم النهائية.
فإذا تحقق، ينتقلون إلى السعي نحو الثاني، ثم يبذلون جهدهم الأقصى لإحراز الثالث.
فالتفكير في الأهداف مجتمعة دفعة واحدة قد يؤدي إلى زيادة التوتر، وتشتيت التركيز، واستنزاف الجهد النفسي والبدني، مما يضعف فرص النجاح.
اللاعب المحترف يدير طاقته بذكاء، ويوزع مجهوده على مراحل زمن المباراة، ويدرك متى يضغط، وأين يوجّه جهده في اللحظة والمكان المناسبين.
النجاحات الحقيقية تُبنى على الاهتمام بالتفاصيل الصغيرة، والبناء التدريجي على الجزئيات، وترتيب الأولويات بعناية.
هكذا يصنع الفارق.
وهذه القاعدة تنسحب، إلى حد بعيد، على العمل السياسي والتنفيذي.
فالتقدم الراسخ لا يتحقق بالقفز على المراحل، بل بالتدرج المدروس، وإدارة الأولويات بواقعية وهدوء.
فالعمل العام، كالمباراة الدقيقة، يتطلب توزيعًا حكيمًا للجهد، وتنفيذًا متزنًا للمهام، وقرارات تتخذ في توقيتها الصحيح.
إنه مسار يُكسب خطوة بخطوة، ويدار بتخطيط عميق، لا بتسرع الرغبات أو ضغوط اللحظة.
نثق فيما تملكونه من رؤية وتجربة، ندرك تمامًا أنكم أقدر على تحويل التحديات إلى فرص، حين تُدار بعقل استراتيجي وروح هادئة، تُحسن التوقيت وتراكم الإنجاز بصبر وثبات.
لكم خالص الدعاء بالتوفيق والسداد في هذه المرحلة الدقيقة من تاريخ وطننا المكلوم.
ضياء الدين بلال
إنضم لقناة النيلين على واتساب