لجريدة عمان:
2025-08-09@06:07:56 GMT

المقاومة الثقافية في ظل الصراعات

تاريخ النشر: 21st, June 2025 GMT

تشكِّل المقاومة الثقافية أحد أنواع النضال التي تتخذها المجتمعات عندما تحتدم الصراعات السياسية أو الاقتصادية أو التقنية، وتسود الهيمنة الدخيلة التي تحاول طمس الثقافات الوطنية أو تشويهها أو حتى جرِّها إلى منعطفات بعيدة عن منطلقاتها ومبادئها ومرتكزاتها الحضارية والأخلاقية؛ فالمقاومة هنا فعل يرتبط بالقدرة على حماية تلك الثقافات من براثن الاستلاب.

إن المقاومة الثقافية تقوم على إبداع وسائل أدبية وفنية تهدف إلى حماية الهُوية الوطنية والتصدي للقوى الدخيلة التي تلج المجتمعات في أشكال استعمارية مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ تحدث على المستويات الأيديولوجية الفكرية، وتظهر في التحولات التقنية والاقتصادية والسياسية، التي لا تغيِّر الأنماط الثقافية للمجتمعات وحسب، بل أيضا تحاول التشكيك بمرتكزاتها القيمية والأخلاقية.

لذا فإن المقاومة باعتبارها أسلوب من أساليب (الرفض)، تستخدم التراث الثقافي والإبداعات الثقافية للتعبير عن ذلك الرفض، وفق معطيات تعكس الجوهر الحضاري للمجتمعات، وقدرتها على حماية مكتسباتها الثقافية والحضارية من ناحية، وتعزيز مجالات الصمود في وجه الهيمنة الثقافية الوافدة ومواجهتها، والقدرة على إنتاج أو إعادة إنتاج مجالات ثقافية تتناسب مع التطورات الحديثة وتواكب المتغيرات من ناحية، وتتوافق مع المرتكزات الحضارية والثقافة الوطنية من ناحية أخرى.

ولقد اتخذت الدول أساليب متعددة لمواجهة تلك الهيمنة التي أخذت تتطوَّر في أشكالها وأساليبها وتدخل إلى أنماط حياة الشعوب بطرائق ناعمة؛ حيث نجد المقاومة الثقافية في تلك الإنتاجات الأدبية مثل النصوص السردية والشعرية والنصوص المسرحية، وفنون التصوير والتشكيل، التي ظهرت في أنماط جديدة من التعبيرات البصرية بل وحتى السمعية، إضافة إلى ما يقدِّمه التراث الثقافي من تنوُّع على مستوى الإنتاجات التي عبَّرت عن قدرتها على إيجاد مواقف جديدة لحماية الهُويات الوطنية.

ولأن العالم بشكل عام والشرق الأوسط خاصة يعاني منذ عقود من تحديات أيديولوجية على المستوى السياسي والاقتصادي والتقني فإن هذه المعاناة تقابلها تلك الإمكانات الهائلة التي تقدمها مجتمعاتنا في سبيل الحفاظ على هُوياتها الوطنية، وإنتاج ثقافة جديدة تتناسب مع العمق الحضاري الذي تنتمي إليه، ولهذا فإن مقاومتها الثقافية تتخذ فلسفة نابعة من الوعي بالخطر الفكري الذي يحيط بالمجتمع إذا ما سُلب هُويته الحضارية وانقطع عن جوهر ثقافته وانبتَّ من أصوله.

إن هذا الخطر يزداد في ظل الصراعات والحروب السياسية المهيمنة، والأيديولوجيات التي تتخذ من الصراعات الاقتصادية والتقنية، وإرادة هيمنة القوى خاصة في مناطق الصراع التي تشتد وطأة في ظل عمليات القتل والتهجير والنفي والدمار الذي يطال المجتمعات، فإن الدفاع عن الهُويات الحضارية على المستويات الوطنية والقومية يزداد أهمية وإلحاحا في سبيل مجابهة تلك القوى والتعبير عن التمسُّك بالقيم الحضارية والمرتكزات القومية القائمة على المشتركات الإنسانية والتاريخية.

ولعل احتدام هذا الصراع خلال السنوات الأخيرة وامتداده إلى سوريا ولبنان واليمن ومؤخرا في إيران، يكشف عن التحولات الأيديولوجية للصراعات في الشرق الأوسط وحالات الاستلاب التي يصفها إدورد سعيد بـ (طبيعة الاستنساخ في بنية الخطاب الصهيوني)، الأمر الذي يصوِّر في المقابل ما يحدث من مقاومات ثقافية ليس على المستوى العربي وحسب بل على المستوى الشعبي العالمي، ذلك لأن خطاب التظليل والتزييف ومحاولات القضاء على الهُويات الثقافية الوطنية وإعادة تشكيلها وفق أجندات مسيَّسة بات مكشوفا وفاضحا.

إن الخطابات المظللة التي تحاول إعادة تشكيل الهُويات، وتأسيسها بناء على أيديولوجيات سياسية تتجاوز المبادئ الإنسانية والأخلاقية نحو رأسمالية متعالية، تظهر في تمثيلات تحاول الاستحواذ على الذاكرة والتاريخ بل وحتى الإنسان، لتجرِّده من هُويته الوطنية وانتماءاته الحضارية، بُغية السيطرة على وعيه وقدرته على الدفاع عن وطنه ومكتسباته، لتصبح المجتمعات تحت وطأة الاستعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأخلاقي.

لذا فإن المقاومة الثقافية اليوم تتصدَّر المشهد المضاد لتلك الصراعات؛ فما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من خطابات وتداولات وما يقدمه الشعراء والكُتَّاب من آداب، وما يبدعه المصورون والفنانون التشكيليون من لوحات وجداريات معبِّرة عن الرفض تارة، وساعية إلى حماية هُوية المجتمعات تارة أخرى،إضافة إلى ما يقدمه المسرح بأشكاله ومدارسه المختلفة، ذلك وغيره يقدِّم في ظل التطورات التقنية والإعلامية الجديدة صورا مقاوِمة للاستعمار والحروب والصراعات، وحامية للهُوية الثقافية والمكتسبات الحضارية للشعوب.

إن هذا الوعي الشعبي الذي يؤمن بأهمية المقاومة الثقافية باعتبارها أساسا جوهريا للأمم، لا يتجسَّد في الأنواع الأدبية والفنية وحسب، بل إن ما نقدمه وما نعبِّر عنه في المنصات الإلكترونية يجب أن يكتسب حالة الوعي نفسها، فالهدف الرئيس لتلك المشاركة لا يتجلى في الغضب والرفض والمجادلات التي تثير التعصب، بل في ذلك التمثيل الحقيقي للثقافة الوطنية القائمة على المرتكزات الإنسانية الداعية إلى السلام والحوار والمنتجة للإبداع والفكر الذي يحمي الهُوية ويعزِّز الصمود ويقدِّم الإنتاج الثقافي الهادف والمعبِّر عن مقاومته ورفضه للحروب والدمار والقتل.

ولأننا لسنا بعيدين عن دائرة الصراعات والحروب، فإن علينا واجبا فيما ننتجه وما نبدعه ثقافيا وما يمكن أن نقدِّمه في سبيل الدعوة إلى السلام ونبذ الحروب والدمار والخراب للمجتمعات؛ فالمثقف اليوم يحمل رسالة إنسانية وأمانة عليه أن يؤديها لأمته خاصة للشباب والناشئة، فما يبدعه شعرا ونثرا وفنا وأداء يعبِّر عن فكره وقدرته على حماية مجتمعه وثقافته، ويؤسِّس لمسار الرأي العام الذي يمثِّله، لذا فإن حكمته وقدرته على الصمود في وجه المتغيرات ورفضه المساس بمجتمعه الوطني والقومي والقبض على القيم والأخلاق سيكون المعوَّل عليه لتلك الحماية المجتمعية.

إن المشاركة الواعية والإنتاج المبدع لفعل المقاومة الثقافية سيمثِّل أداة مهمة للتطوُّر المعرفي والفكري لفهم متطلبات المرحلة المصيرية المهمة التي تمر بها المنطقة، والتي تشهد تحولات ليس على المستوى السياسي واحتدام الصراعات فقط، بل أيضا على المستوى الأيديولوجي والثقافي الذي يسعى إلى تفريق المجتمعيات وزعزعتها من الداخل، ولهذا علينا الحذر وحماية مجتمعنا وأفكار شبابنا من مغبة الانزلاق في متاهات هذه الصراعات والانشقاقات.

فالمقاومة الثقافية تقوم على الوعي الذي يوازن بين متطلبات المرحلة ومتغيراتها، وبين حماية هُوية المجتمع ومكتسباته الحضارية، لإنتاج أنماط جديدة من الثقافة الإبداعية التي تتجلى في الآداب والمسرح والفنون والكتابات الفكرية وغيرها، والتي تثري الثقافة الوطنية وتعبِّر عن فكرها المنفتح.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المقاومة الثقافیة على المستوى

إقرأ أيضاً:

ما الذي في المنطقة ؟

 

حركة الواقع اليوم من حولنا دالة على تهيئة مناخ حتى يكون صالحا لقبول فكرة جديدة في اليمن، فالاشتغال الإعلامي بلغ ذروته في سوالف الأيام وهو يسير وفق برامج واستراتيجيات بالغة الدقة والعناية، وضعها خبراء في علم النفس الاجتماعي وخبراء في علم النفس السياسي، وخبراء في سيكولوجية الجماهير وتلك علوم معاصرة تقوم على مناهج علمية تراكمت عند العلماء عبر قرون من الزمان، هذه العلوم والمعارف خرجت من عند المسلمين وربما كان العالم ابن خلدون هو مؤسسها الأول ثم تلقفها الغرب فتطورت على يديه تطورا عجيبا في حين ظل المسلمون عند نقطة البداية دون أن يتجاوزوها إلى النقطة التالية، فالعرب يمتازون بالثبات في التفكير ولا يكادون يتجاوزن الماضي إلا في حالات نادرة .

الغرب منذ بدأ التفكير في استعمار المنطقة العربية أرسل العلماء والخبراء لدراسة المجتمعات العربية، ولعلنا نتذكر فكرة الاستشراق كمصطلح شاع استخدامه في القرن التاسع عشر والقرن العشرين الميلادي، فالمستشرق جاء كي يقرأ المجتمع العربي والمسلم قراءة علمية وقد خرج بمصفوفة من الدراسات العلمية جعل مصالحه ومصالح الدول التي يستعمرها ترتبط ارتباطا عضويا لا فكاك له، وحين خرجت الشعوب ثائرة في منتصف القرن العشرين على المستعمر خرج المستعمر شكلا من خلال المظاهر العسكرية لكنه ظل يدير المنطقة من خلال مجموعة من العوامل منها الاقتصادي ومنها الإنساني والحقوقي واستبدل القوة الصلبة في السيطرة على الأنظمة والشعوب بالقوة الناعمة، لأنه كان يدرك طبيعة المجتمعات العربية وعوامل تحريكها من خلال المعرفة .

وبالعودة بالذاكرة إلى بداية الألفية الجديدة نتذكر جميعا الاشتغال المحموم على فكرة الشرق الأوسط الجديد الذي كانت تديره وزيرة الخارجية الأمريكية يومذاك، والتي أصبحت مستشارا للأمن القومي الأمريكي فيما ببعد “كوندليزا رايس “، ذلك الاشتغال لم يكن عبثا ولا كان ترفا، بل كان استراتيجية تشتغل عليها دوائر صنع القرار الأمريكي يومذاك، وصلت فكرة الشرق الجديد إلى حالة الفشل وانسداد الأفق بعد نتائج حرب تموز في لبنان عام 2006م .

بعد فشل فكرة الشرق الجديد خرجت من مراكز البحوث الأمريكية فكرة الإسلام المعتدل، وتم استبدال فكرة الشرق الجديد بفكرة الخلافة، وتم اختيار تركيا بحكم عوامل تاريخية وحضارية وثقافية كي تقود المشروع الجديد تساندها قطر، وقد تم لها ذلك، بعد القيام بعدد من التغييرات في بنية النظام التركي حتى يتسق وظروف المرحلة والمشروع المزمع تنفيذه في الجغرافيا العربية، ولم تكن الانقلابات والاضطرابات التي حدثت في تركيا إلا سيناريوهات تم رسمها والتخطيط لها بعناية بهدف حركة الإقصاء التي نالت الكثير من الأسماء ذات التأثير في النظام التركي أو المتوقع إعاقتها لفكرة المشروع، وكانت منتقاة بجهد استخباري واضح بعد عمليات الانقلابات المزعومة في تركيا، هذا فضلا عن التغيير في بنية النظام من البرلماني إلى النظام الرئاسي، والترويج للمواقف الكبيرة من القضايا الكبيرة للرئيس التركي، وهي مواقف كانت مرسومة سلفا بهدف توسيع دائرة التأثير في نفوس المسلمين حتى تكون فكرة الخلافة وعودتها ذات معنى في الوجدان العام ومقبولة من المزاج المسلم .

لم يكن المسار السياسي وحده من يخطو الخطوات باتجاه أهداف مشروع الشرق الجديد القائم على أسس إعادة تقسيم الخارطة العربية على أسس طائفية وثقافية وعرقية حتى يشرعن للصهيونية الوجود في الخارطة العربية، وقد تظافر المسار السياسي مع المسارات الأخرى، ولعل المسار الثقافي هو الأبرز- كقوة ناعمة – يليه المسار الاقتصادي الذي شهد تحولا وأصبح نموذجا يروج له تيار الإخوان .

اشتغل الأتراك على البعد الثقافي اشتغالا كبيرا ومكثفا، ووصل حجم التأثير إلى مراتب عالمية فاقت التوقع، وتركز خطابهم الثقافي على فكرة الصناعة في التفكيك للمنظومات الاجتماعية كمسلسل “مهند ونور ” أو المنظومات السياسية كمسلسل ” مراد علمدار ” الذي كان يرسم موجات الربيع العربي في الوجدان العربي العام، وصولا إلى فكرة الخلافة التي بدأت الدوائر التركية بمساندة الاستخبارات العالمية في الاشتغال عليها بدءا من مسلسل ” آرطغرل ” وجميع تفرعاته التي تناقش فكرة الخلافة وتاريخها ومواقفها، وصولا إلى المسلسلات التي تناقش البعد الطائفي، هذا المهاد الذي يعمل على تفكيك التصورات التي صاحبت العقل العربي إبان حركة النهضة مطلع القرن العشرين وإحلال بدائل عنها عن طريق الدراما لم يكن عفو الخاطر، بل جاء وفق خطط واستراتيجيات مدروسة بعناية، وهو يفضي إلى تجزئة الأمة وتمزيقها وإحداث حالة الشلل التام في مختلف البناءات، وصولا إلى التمكين الكبير لدولة إسرائيل الكبرى التي يجدها اليهود في كتبهم كوعد يعملون على تحقيقه بشتى الطرق والوسائل .

فالرأسمالية تريد دولاً ضعيفة وغير فاعلة تعاني التشظي والانقسام حتى يسهل عليها فرض ثنائية الخضوع والهيمنة، ولذلك تدير حركة الانقسامات والحروب في المنطقة العربية وهي من خلال تفاوضها مع ايران وعقوباتها المتكررة عليها لا تريد ايرانا قويا متفوقا تقنيا وعسكريا بل تريد ذلك لإسرائيل فقط، وتريد التعامل مع ايران بالقدر الذي يخدم مصالحها ويوفر لها الحماية وتدفق الأموال .

ما يجب التفكير به واستيعابه هو أن هناك خبراء في العلوم الإنسانية المختلفة يحاربون إلى جانب جيوش دول الاستكبار العالمي، فالحرب ليست عسكرية كما قد يتبادر إلى الأذهان للوهلة الأولى فهي حرب ثقافية، وحرب تهجين، وتسطيح، وتعويم، وتفكيك، وتشكيك، ولا بد من تفعيل الجبهة الثقافية وتعزيزها بالرؤى والاستراتيجيات والإمكانات حتى تواجه عدوا لا يتصف بنزاهة الضمير ولا يتصف بشرف الخصومة.

مقالات مشابهة

  • بروتوكول تعاون بين كتاب ونقاد السينما وهيئة الشبان العالمية لتعزيز الأنشطة الثقافية والفنية بالإسكندرية
  • ما الذي في المنطقة ؟
  • وزير الإدارة المحلية والبيئة المهندس محمد عنجراني لـ سانا: في إطار الخطة الوطنية للنهوض بكل القطاعات في مختلف المحافظات السورية، تم توقيع عدد من مذكرات التفاهم المهمة التي تهدف إلى إقامة مشاريع تنموية واستثمارية متكاملة تشمل قطاعات السكن، السياحة، البيئة،
  • محافظ بنى سويف يوجّه الشكر للجهاز التنفيذى لجهودهم فى انتخابات مجلس الشيوخ 2025
  • مصدر مسؤول في وزارة العدل لـ سانا: بما أن العمل الذي باشره هؤلاء القضاة سياسي محض ويتعارض مع المصالح الوطنية ويثير دعوات التفرقة والتقسيم، تمت إحالتهم إلى إدارة التفتيش للتحقيق فيما يُنسب إليهم واتخاذ الإجراءات المناسبة
  • لقاء تربوي تدريبي بمأرب  لتعزيز القيم الوطنية وحماية الهوية الثقافية
  • افتتاح المتحف المصري الكبير 1 نوفمبر.. والنواب: أكبر الصروح الثقافية بالعالم
  • الأجندة الثقافية في سوريا ليوم الخميس الـ 7 من آب 2025
  • رئيس مجلس السيادة يتفقد “ذاكرة السودان الحضارية”.. ويصدر توجيهات عاجلة
  • معارض للكتاب في محافظات مصر لتحقيق العدالة الثقافية.. اعرف التفاصيل