لجريدة عمان:
2025-06-21@23:04:41 GMT

المقاومة الثقافية في ظل الصراعات

تاريخ النشر: 21st, June 2025 GMT

تشكِّل المقاومة الثقافية أحد أنواع النضال التي تتخذها المجتمعات عندما تحتدم الصراعات السياسية أو الاقتصادية أو التقنية، وتسود الهيمنة الدخيلة التي تحاول طمس الثقافات الوطنية أو تشويهها أو حتى جرِّها إلى منعطفات بعيدة عن منطلقاتها ومبادئها ومرتكزاتها الحضارية والأخلاقية؛ فالمقاومة هنا فعل يرتبط بالقدرة على حماية تلك الثقافات من براثن الاستلاب.

إن المقاومة الثقافية تقوم على إبداع وسائل أدبية وفنية تهدف إلى حماية الهُوية الوطنية والتصدي للقوى الدخيلة التي تلج المجتمعات في أشكال استعمارية مباشرة أو غير مباشرة؛ إذ تحدث على المستويات الأيديولوجية الفكرية، وتظهر في التحولات التقنية والاقتصادية والسياسية، التي لا تغيِّر الأنماط الثقافية للمجتمعات وحسب، بل أيضا تحاول التشكيك بمرتكزاتها القيمية والأخلاقية.

لذا فإن المقاومة باعتبارها أسلوب من أساليب (الرفض)، تستخدم التراث الثقافي والإبداعات الثقافية للتعبير عن ذلك الرفض، وفق معطيات تعكس الجوهر الحضاري للمجتمعات، وقدرتها على حماية مكتسباتها الثقافية والحضارية من ناحية، وتعزيز مجالات الصمود في وجه الهيمنة الثقافية الوافدة ومواجهتها، والقدرة على إنتاج أو إعادة إنتاج مجالات ثقافية تتناسب مع التطورات الحديثة وتواكب المتغيرات من ناحية، وتتوافق مع المرتكزات الحضارية والثقافة الوطنية من ناحية أخرى.

ولقد اتخذت الدول أساليب متعددة لمواجهة تلك الهيمنة التي أخذت تتطوَّر في أشكالها وأساليبها وتدخل إلى أنماط حياة الشعوب بطرائق ناعمة؛ حيث نجد المقاومة الثقافية في تلك الإنتاجات الأدبية مثل النصوص السردية والشعرية والنصوص المسرحية، وفنون التصوير والتشكيل، التي ظهرت في أنماط جديدة من التعبيرات البصرية بل وحتى السمعية، إضافة إلى ما يقدِّمه التراث الثقافي من تنوُّع على مستوى الإنتاجات التي عبَّرت عن قدرتها على إيجاد مواقف جديدة لحماية الهُويات الوطنية.

ولأن العالم بشكل عام والشرق الأوسط خاصة يعاني منذ عقود من تحديات أيديولوجية على المستوى السياسي والاقتصادي والتقني فإن هذه المعاناة تقابلها تلك الإمكانات الهائلة التي تقدمها مجتمعاتنا في سبيل الحفاظ على هُوياتها الوطنية، وإنتاج ثقافة جديدة تتناسب مع العمق الحضاري الذي تنتمي إليه، ولهذا فإن مقاومتها الثقافية تتخذ فلسفة نابعة من الوعي بالخطر الفكري الذي يحيط بالمجتمع إذا ما سُلب هُويته الحضارية وانقطع عن جوهر ثقافته وانبتَّ من أصوله.

إن هذا الخطر يزداد في ظل الصراعات والحروب السياسية المهيمنة، والأيديولوجيات التي تتخذ من الصراعات الاقتصادية والتقنية، وإرادة هيمنة القوى خاصة في مناطق الصراع التي تشتد وطأة في ظل عمليات القتل والتهجير والنفي والدمار الذي يطال المجتمعات، فإن الدفاع عن الهُويات الحضارية على المستويات الوطنية والقومية يزداد أهمية وإلحاحا في سبيل مجابهة تلك القوى والتعبير عن التمسُّك بالقيم الحضارية والمرتكزات القومية القائمة على المشتركات الإنسانية والتاريخية.

ولعل احتدام هذا الصراع خلال السنوات الأخيرة وامتداده إلى سوريا ولبنان واليمن ومؤخرا في إيران، يكشف عن التحولات الأيديولوجية للصراعات في الشرق الأوسط وحالات الاستلاب التي يصفها إدورد سعيد بـ (طبيعة الاستنساخ في بنية الخطاب الصهيوني)، الأمر الذي يصوِّر في المقابل ما يحدث من مقاومات ثقافية ليس على المستوى العربي وحسب بل على المستوى الشعبي العالمي، ذلك لأن خطاب التظليل والتزييف ومحاولات القضاء على الهُويات الثقافية الوطنية وإعادة تشكيلها وفق أجندات مسيَّسة بات مكشوفا وفاضحا.

إن الخطابات المظللة التي تحاول إعادة تشكيل الهُويات، وتأسيسها بناء على أيديولوجيات سياسية تتجاوز المبادئ الإنسانية والأخلاقية نحو رأسمالية متعالية، تظهر في تمثيلات تحاول الاستحواذ على الذاكرة والتاريخ بل وحتى الإنسان، لتجرِّده من هُويته الوطنية وانتماءاته الحضارية، بُغية السيطرة على وعيه وقدرته على الدفاع عن وطنه ومكتسباته، لتصبح المجتمعات تحت وطأة الاستعمار السياسي والاقتصادي والاجتماعي الأخلاقي.

لذا فإن المقاومة الثقافية اليوم تتصدَّر المشهد المضاد لتلك الصراعات؛ فما تشهده وسائل التواصل الاجتماعي من خطابات وتداولات وما يقدمه الشعراء والكُتَّاب من آداب، وما يبدعه المصورون والفنانون التشكيليون من لوحات وجداريات معبِّرة عن الرفض تارة، وساعية إلى حماية هُوية المجتمعات تارة أخرى،إضافة إلى ما يقدمه المسرح بأشكاله ومدارسه المختلفة، ذلك وغيره يقدِّم في ظل التطورات التقنية والإعلامية الجديدة صورا مقاوِمة للاستعمار والحروب والصراعات، وحامية للهُوية الثقافية والمكتسبات الحضارية للشعوب.

إن هذا الوعي الشعبي الذي يؤمن بأهمية المقاومة الثقافية باعتبارها أساسا جوهريا للأمم، لا يتجسَّد في الأنواع الأدبية والفنية وحسب، بل إن ما نقدمه وما نعبِّر عنه في المنصات الإلكترونية يجب أن يكتسب حالة الوعي نفسها، فالهدف الرئيس لتلك المشاركة لا يتجلى في الغضب والرفض والمجادلات التي تثير التعصب، بل في ذلك التمثيل الحقيقي للثقافة الوطنية القائمة على المرتكزات الإنسانية الداعية إلى السلام والحوار والمنتجة للإبداع والفكر الذي يحمي الهُوية ويعزِّز الصمود ويقدِّم الإنتاج الثقافي الهادف والمعبِّر عن مقاومته ورفضه للحروب والدمار والقتل.

ولأننا لسنا بعيدين عن دائرة الصراعات والحروب، فإن علينا واجبا فيما ننتجه وما نبدعه ثقافيا وما يمكن أن نقدِّمه في سبيل الدعوة إلى السلام ونبذ الحروب والدمار والخراب للمجتمعات؛ فالمثقف اليوم يحمل رسالة إنسانية وأمانة عليه أن يؤديها لأمته خاصة للشباب والناشئة، فما يبدعه شعرا ونثرا وفنا وأداء يعبِّر عن فكره وقدرته على حماية مجتمعه وثقافته، ويؤسِّس لمسار الرأي العام الذي يمثِّله، لذا فإن حكمته وقدرته على الصمود في وجه المتغيرات ورفضه المساس بمجتمعه الوطني والقومي والقبض على القيم والأخلاق سيكون المعوَّل عليه لتلك الحماية المجتمعية.

إن المشاركة الواعية والإنتاج المبدع لفعل المقاومة الثقافية سيمثِّل أداة مهمة للتطوُّر المعرفي والفكري لفهم متطلبات المرحلة المصيرية المهمة التي تمر بها المنطقة، والتي تشهد تحولات ليس على المستوى السياسي واحتدام الصراعات فقط، بل أيضا على المستوى الأيديولوجي والثقافي الذي يسعى إلى تفريق المجتمعيات وزعزعتها من الداخل، ولهذا علينا الحذر وحماية مجتمعنا وأفكار شبابنا من مغبة الانزلاق في متاهات هذه الصراعات والانشقاقات.

فالمقاومة الثقافية تقوم على الوعي الذي يوازن بين متطلبات المرحلة ومتغيراتها، وبين حماية هُوية المجتمع ومكتسباته الحضارية، لإنتاج أنماط جديدة من الثقافة الإبداعية التي تتجلى في الآداب والمسرح والفنون والكتابات الفكرية وغيرها، والتي تثري الثقافة الوطنية وتعبِّر عن فكرها المنفتح.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: المقاومة الثقافیة على المستوى

إقرأ أيضاً:

فجر التحرير إرادة المقاومة

إلهام الأبيض

في زمن تتلاطم فيه الأمواج، وتتصاعد فيه نيران التحديات، تتجلى حقائقُ عميقة، تعيد رسم خارطة المواجهة بين إرادة الشعوب الصامدة ومخططات القتل والتفتيت التي يشنها الأعداء. فالعدوان الصهيوني المستمر يتجاوز حدود الاحتمال، ويفضح هشاشة المؤسسات الدولية، ويكشف في الوقت ذاته عمق تحالف القوى الاستعمارية مع أدواتها في المنطقة. هنا تبدأ شرارة مرحلة جديدة من الصراع، تظهر فيها معانٍ أسمى من مجرد ردود الفعل، لتحول المواجهة إلى معركة إرادة، ووقفات بطولية تصوغ مستقبل أمة تتوق إلى النصر والكرامة، مدعومة بعزائم أبطالها، ومعززة وعيها، رافعةً من شأن قضيتها.

وفي ظل تصاعد العدوان الصهيوني المستمر، تتجلى علامات واضحة على مرحلة جديدة من المواجهة، حيث يتحول المشهد إلى ساحة معركة إرادة وصمود. بدايةً، يمكن ملاحظة أن الكيان المحتل بدأ يعوي ويتذمر، مظهرًا احتقاره للعجز المتواصل أمام صواريخ المقاومة التي تتجاوز دفاعاته، وتكشف عن خطوط حمره المزعومة، وتدمر تحصيناته المنهكة التي كان يظن أنها لا تُمس أو تُعرف.

هذه الموجات من الردع تشكل صفعة قوية للعدو، وتعيد رسم موازين القوى. في الوقت ذاته، يستمر في محاولة استدراج مواجهة أوسع، مستخدمًا الترسانة الإعلامية والدبلوماسية، مهددًا بحروبات لم يقترب منها بعد، وهو يتلقى ضربة تلو أخرى من مقاومة أبية تتصدى للأرض، وتختبر قدراتها، وتكرس مفاهيم جديدة للردع والتحدي.

وفي هذا السياق، تظهر قوة وثبات الجمهورية الإسلامية، التي ترد على التهديدات بثقة، وتُبرهن على قدراتها في صناعة الإنجازات، وإبهار العدو والمراقبين من خلال المناورة والابتكار في عملياتها، مع استمرار دعمها للمقاومة في فلسطين واليمن، اللتين تعتبران خطًا أحمر في مواجهة مشروع التفتيت والتقسيم.
أما الغرب، الذي يتخذ من دعم الكيان الإسرائيلي غطاءً استراتيجيًا، فإن حديثه عن تصاعد الدعم وتحميله مسؤولية استمرار العدوان يكتسي طابع الوقاحة، خاصة بعد أن انكشفت خيوط مؤامراته، وأصبح واضحًا أنه يشارك بشكل مباشر في صناعة الكارثة، من خلال توفير الغطاء السياسي والعسكري. وهناك حديث علني عن شراكته في تأسيس الكيان، واستمراره في العمل لصالحه، كما أشار أمس الأول مستشار ألماني، وهو تصعيد يعكس مدى الخبث والتآمر الذي يستهدف الأمة الإسلامية، ويهدف إلى إذكاء الفتنة وتأجيج الصراعات الداخلية.

على الجبهة الأخرى، يقف المقاومون في غزة واليمن، شامخين بموقفهم الثابت، ومصممين على الصمود والتصدي، رغم كل التحديات المريرة. ومعهم يقف قائد الأمة، الذي رسم خطوطًا واضحة، وحدد الرؤى الإستراتيجية، مُعبّرًا عن أن معركة الوعي والنهوض يجب أن تكون محورًا رئيسيًا للأمة، من أجل تحرير إرادتها من قبضة المحتل.

دعوتُه إلى كلمة السواء تتجاوز مجرد الخطاب؛ فهي دعوة لإعادة ترتيب الأولويات، والاستفادة من الحقائق الميدانية، والحقائق الواقعية التي تتجلى في أفعال المقاومة وانتصاراتها الصغيرة والمتنوعة. فالميدان لم يعد مجرد ساحة حرب، بل هو مدرسة للجهاد، وفلتر يميز بين من يعمل لرفعة الأمة، وبين من ينهش في جسدها.

وفي النهاية، يتهيأ الجميع لتحول نوعي، قد يغير موازين القوى، ويؤسس لنقطة فاصلة في المسيرة، حيث يُصبح التحرر من قيود الاستسلام، والتوحد خلف مشروع المقاومة، هو المخرج الوحيد من هذا النفق المظلم، الذي بدأت أرجاؤه تتلاشى. ليصبح العامُ القادم أمة على أعتاب معركة مصيرية، يقودها وعي الصحوة، ويقويها الإيمان بعدالة القضية، لتكتب أجيالٌ جديدةٌ تاريخًا يعبر عن عظمة إرادة الشعوب

مقالات مشابهة

  • فجر التحرير إرادة المقاومة
  • وزارة الثقافة تحتفي بعيد وفاء النيل بسلسلة من الفعاليات الثقافية والفنية
  • فتاح 2: الصاروخ الإيراني الذي يصل إلى تل أبيب في أقل من 5 دقائق
  • الخطيب: التضامن والوحدة الوطنية أهم اسس القوة الى جانب الجيش والمقاومة
  • التحولات الثقافية في سوريا.. عنوان يوم بحثي في دمشق
  • طارق صالح يتفقد بحرية المقاومة الوطنية في الجزُر المحررة بالبحر الأحمر
  • وزير الثقافة:رفع كفاءة القصور والمواقع الثقافية خلال الـ5 سنوات المقبلة
  • المملكة تُشارك في معرض سيئول الدولي للكتاب 2025 بجناح يعكس هويتها الثقافية
  • أرامكو تشدد بأهمية النفط والغاز في أوقات الصراعات