كشفت المواجهة الأخيرة بين إيران و(إسرائيل) عن خلل عميق في بنية الوعي لدينا، إذ تحوّل النقاش من تحليل استراتيجي إلى معركة اصطفاف وانفعال، غاب فيها التقدير العقلاني، وتقدّم فيها التحيّز الأعمى. وفي لحظة واحدة، خبا صوت العقل، وارتفع صراخ القطيع. وانقسم الرأي العام إلى معسكرين متقابلين: فريق رأى في إيران طرفا مقاوما للهيمنة الإسرائيلية، وفريق قابل الحدث بشماتة، معتبرا كل ضربة تتلقاها خسارة لمحور يناقض مصالح الأمة.

. كلاهما افتقر إلى التفكير النقدي، وذاب في خطاب جماعي يهمّش الرأي المختلف، ويبسط التعقيد السياسي إلى مواقف قطعية لا تقبل التفاوت في الرأي، ولا تسمح بوجود منطقة وسطى..

لفهم هذا الميل الجماعي نحو الاصطفاف والانفعال، يمكن الاستعانة بما طرحه الباحث النفسي الأمريكي إرفينغ جانيس في نظريته المعروفة بـ”التفكير الجماعي”(Groupthink)؛ إذ يشرح كيف تنشأ هذه الحالة حين تطغى الرغبة في الانسجام داخل الجماعة على الحاجة إلى التفكير العقلاني. حينها يُهمّش النقد، وتُضخّم صورة المرجعية أو القيادة، ويصبح الولاء الجمعي بديلاً عن الفهم المستقل. وتحت ضغط الأزمات، يغلق الأفراد على أنفسهم داخل سردية واحدة، ويتولد مناخ نفسي يرفض التعدد، ويقصي الاختلاف، ويصنّف كل رأي مغاير على أنه تهديد. وهذا ما تجلّى بوضوح في المشهد العربي، حيث جرى إقصاء كل من رفض المساواة بين الاحتلال الإسرائيلي والمشروع الإيراني، وأُلصقت به تهم الخيانة أو العمالة.

لم يكن ذلك سلوكا فرديا عفويا، وإنما نتاج مناخ ضاغط أنتج جمهورا إلكترونيا متحفزا، لا يحتمل التمايز ولا يقبل التدرج في المواقف. أسكت هذا الجمهور الأصوات المتزنة، وخنق كل محاولة لفرز العدو من الخصم. فمن انتقد طهران اتهم بتأييد تل أبيب، ومن هاجم الاحتلال دون مهاجمة إيران اتهم بالانحياز لها. هكذا غابت فلسطين عن الخطاب، وتحولت إلى ورقة في لعبة الولاءات، بينما توارى الوعي النقدي خلف شعارات صاخبة، تفتقر إلى البصيرة في الرأي وإلى الرشد في الموقف.

إن التمييز في لحظات احتدام المعارك واختلاط الأوراق، شرط للوعي السليم، لا صلة له بالتبرئة أو الإدانة؛ فليس من ينتقد سياسات إيران الطائفية مدافعا بالضرورة عن (إسرائيل) الاستيطانية، ولا من يرفض ميليشيات القهر في صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت متخليا عن غزة والضفة. وبما أن من حق الشعوب أن تتحرر من نير الاحتلال، فمن حقها أيضا أن تنعتق من قيد الطغيان.

إن الوعي بطبيعة الصراع الراهن لا ينشأ من الانفعالات العابرة، ولا يتأسس على منطق القطيع، ولا يستقر وسط صخب الشعارات والهتاف.. إن الوعي ينبني على التحليل الرشيد، وعلى القدرة على التمييز بين عدو ينكر وجودك ويسعى لاجتثاثك، وخصم ينازعك النفوذ أو يسعى لتغيير نسيجك وهويتك، والتمييز بينهما لا يعني مصالحة أحدهما أو معاداة الآخر، وإنما يعكس وعيا بالواقع، ويعيد توجيه البوصلة نحو الأولويات الحقيقية للأمة: تحريرا للأرض، وإسقاطا للطغيان، وصيانة لكرامة الشعوب. ومن يُخفق في ذلك، يهوي في بئر الهزيمة والانكسار.

*نشرت في صفحة الباحث على منصة فيسبوك.

سعيد ثابت سعيد30 يونيو، 2025 شاركها فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام الحوثية والاستبداد المستحدث مقالات ذات صلة الحوثية والاستبداد المستحدث 30 يونيو، 2025 لا يتحدثون عن السلام في إسرائيل 30 يونيو، 2025 نعي فؤاد الحميري… بين جلال الموت وانحطاط الكراهية 30 يونيو، 2025 أمن عدن: مصلحة وطنية وراء تصريحات الشعيبي حول أهمية دور التربية والتعليم 30 يونيو، 2025 اترك تعليقاً إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

التعليق *

الاسم *

البريد الإلكتروني *

الموقع الإلكتروني

احفظ اسمي، بريدي الإلكتروني، والموقع الإلكتروني في هذا المتصفح لاستخدامها المرة المقبلة في تعليقي.

Δ

شاهد أيضاً إغلاق كتابات خاصة هل تدفع الحرب بين إسرائيل وإيران مزيداً من الدول نحو الحصول على “تأمين” نووي؟ 28 يونيو، 2025 الأخبار الرئيسية التفكير الجماعي في الحرب الإسرائيلية-الإيرانية 30 يونيو، 2025 الحوثية والاستبداد المستحدث 30 يونيو، 2025 لا يتحدثون عن السلام في إسرائيل 30 يونيو، 2025 نعي فؤاد الحميري… بين جلال الموت وانحطاط الكراهية 30 يونيو، 2025 أمن عدن: مصلحة وطنية وراء تصريحات الشعيبي حول أهمية دور التربية والتعليم 30 يونيو، 2025 الأكثر مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 اخترنا لك الحوثية والاستبداد المستحدث 30 يونيو، 2025 نعي فؤاد الحميري… بين جلال الموت وانحطاط الكراهية 30 يونيو، 2025 هل تدفع الحرب بين إسرائيل وإيران مزيداً من الدول نحو الحصول على “تأمين” نووي؟ 28 يونيو، 2025 مذكرات الرئيس اليمني عبدالرحمن الإرياني.. أول المُدوَّنين وآخر الناشرين 27 يونيو، 2025 محاولة اسقاط فكرة الدولة والهوية 26 يونيو، 2025 الطقس صنعاء غيوم متفرقة 21 ℃ 21º - 21º 34% 0.59 كيلومتر/ساعة 21℃ الأثنين 28℃ الثلاثاء 27℃ الأربعاء 26℃ الخميس 27℃ الجمعة تصفح إيضاً التفكير الجماعي في الحرب الإسرائيلية-الإيرانية 30 يونيو، 2025 الحوثية والاستبداد المستحدث 30 يونيو، 2025 الأقسام أخبار محلية 30٬573 غير مصنف 24٬217 الأخبار الرئيسية 16٬727 عربي ودولي 7٬940 غزة 10 اخترنا لكم 7٬399 رياضة 2٬576 كأس العالم 2022 88 اقتصاد 2٬429 كتابات خاصة 2٬192 منوعات 2٬114 مجتمع 1٬958 تراجم وتحليلات 1٬974 ترجمة خاصة 204 تحليل 25 تقارير 1٬720 آراء ومواقف 1٬625 ميديا 1٬544 صحافة 1٬502 حقوق وحريات 1٬432 فكر وثقافة 959 تفاعل 862 فنون 507 الأرصاد 486 بورتريه 68 صورة وخبر 41 كاريكاتير 34 حصري 29 الرئيسية أخبار تقارير تراجم وتحليلات حقوق وحريات آراء ومواقف مجتمع صحافة كتابات خاصة وسائط من نحن تواصل معنا فن منوعات تفاعل English © حقوق النشر 2025، جميع الحقوق محفوظة   |   يمن مونيتورفيسبوكتويترملخص الموقع RSS فيسبوك تويتر واتساب تيلقرام زر الذهاب إلى الأعلى إغلاق فيسبوكتويترملخص الموقع RSS البحث عن: أكثر المقالات مشاهدة واللاتي تخافون نشوزهن 14 مارس، 2018 التحالف يقول إن نهاية الحوثيين في اليمن باتت وشيكة 26 يوليو، 2019 الحكومة اليمنية تبدي استعدادها بتوفير المشتقات النفطية لمناطق سيطرة الحوثيين وبأسعار أقل 12 أكتوبر، 2019 (تحقيق حصري) كيف تحوّلت مؤسسات صنعاء إلى “فقَّاسة صراع” الأجنحة داخل جماعة الحوثي؟ 29 أغسطس، 2021 مجموعة العشرين تتعهّد توفير “الغذاء الكافي” في مواجهة كورونا 22 أبريل، 2020 أكثر المقالات تعليقاً 1 ديسمبر، 2022 “طيران اليمنية” تعلن أسعارها الجديدة بعد تخفيض قيمة التذاكر 4 سبتمبر، 2022 مؤسسة قطرية تطلق مشروعاً في اليمن لدعم أكثر من 41 ألف شاب وفتاه اقتصاديا 4 يوليو، 2024 دراسة حديثة تحلل خمس وثائق أصدرها الحوثيون تعيد إحياء الإمامة وتغيّر الهوية اليمنية 3 مايو، 2024 تفحم 100 نخلة و40 خلية نحل في حريق مزرعة بحضرموت شرقي اليمن 30 ديسمبر، 2023 انفراد- مدمرة صواريخ هندية تظهر قبالة مناطق الحوثيين 21 فبراير، 2024 صور الأقمار الصناعية تكشف بقعة كبيرة من الزيت من سفينة استهدفها الحوثيون أخر التعليقات زهرة الدار

للأسف لا توجد لدينا رعاية واهتمام بالفنانين واصبحنا في عالم...

فؤاد

انا لله وانا اليه راجعون حسبنا الله ونعم الوكيل...

ليلى علي عمر الاحمدي

أنا طالبة علم حصلت معي ظروف صعبة جداً و عجزت اكمل دراستي و أ...

علي الشامي

نحن اقوياء لاننا مع الحق وانتم مع الباطل...

محمد عبدالخالق سعيد محمد الوريد

محمد عبدالخالق سعيد محمد الوريد مدير بنك ترنس اتلنتيك فليوري...

المصدر: يمن مونيتور

إقرأ أيضاً:

فزع في إسرائيل بعد الكشف عن اعداد الجنود الإسرائيليين المنتحرين بسبب صدمة غزة

إسرائيل – كشفت وثيقة صادرة عن مركز البحث والمعلومات التابع للكنيست الإسرائيلي، عن ارتفاع حالات الانتحار في الجيش منذ اندلاع الحرب على غزة.

ووفقا للبيانات، فقد انتحر 124 شخصا يخدمون في الخدمة الإلزامية والدائمة والاحتياط النشط خلال فترة تقارب ثماني سنوات، دون احتساب أولئك الذين انتحروا بعد تسريحهم. كان معظم المنتحرين من جنود الخدمة الإلزامية، لكن حصة جنود الاحتياط زادت بشكل كبير، لتصل إلى ما يقرب من حالة واحدة شهرياً منذ بدء الحرب.

 تفاصيل وإحصائيات:

النوع الاجتماعي: يتبين من التصنيف الجندري أن جميع الذين انتحروا تقريبا هم من الرجال.

طبيعة الخدمة: فيما يتعلق بطبيعة الخدمة، كان جزء كبير من المنتحرين في السنوات التي سبقت الحرب من المقاتلين، لكنهم لم يشكلوا الأغلبية المطلقة. مع اندلاع الحرب، انخفضت نسبة المقاتلين بين المنتحرين، ثم ارتفعت مرة أخرى في العام التالي حتى أصبح معظم المنتحرين في ذلك العام من المقاتلين.

يشير مركز البحث إلى أنه لا يملك بيانات حول حجم تعداد المقاتلين في تلك السنوات، ولذلك لا يمكن معرفة ما إذا كانت الزيادة تعكس ارتفاعاً في الخطر أم تغييراً في تركيبة القوات.

الرعاية النفسية والرد الرسمي

فقط حوالي 17% من المنتحرين التقوا بضابط صحة نفسية في الشهرين اللذين سبقا انتحارهم. ويشير تقرير أمين شكاوى الجنود، المذكور في الوثيقة، إلى انتظار دام أشهراً للحصول على موعد وعدم تفعيل إجراءات المراقبة في بعض الحالات.

بدأ الجيش الإسرائيلي في السنوات الأخيرة أيضا بجمع بيانات عن محاولات الانتحار. تم توثيق 279 محاولة في عام ونصف، حوالي 12% منها خطيرة. مقابل كل جندي انتحر، تم تسجيل حوالي سبع محاولات انتحار لجنود آخرين.

أفادت وزارة الدفاع بفتح مركز مساعدة، لكن فحص مركز البحث أظهر أن المركز لا يقدم استجابة نفسية كاملة على مدار الساعة، ويتم تحويل بعض المراجعين مرة أخرى إلى قادتهم. كما أُبلغ عن تجنيد مئات من ضباط الصحة النفسية (القبنيم) في الاحتياط، وتعزيز ملاكات الوحدات الأمامية والتدريبية، وتعيين متخصصين في الصحة النفسية في كل لواء ووحدة أمامية. وفي الوقت نفسه، أُفيد عن إجراءات تدريب للقادة وتعزيز الاستجابة لأفراد الخدمة الدائمة وأفراد أسرهم.

وعلى الرغم من ذلك، بيبن مركز البحث أن وزارة الدفاع لم تقدم جزءا كبيرا من المعلومات المطلوبة: لا يوجد تفصيل حول العمر، مدة الخدمة، بلد الميلاد، الجنود غير المتزوجين (العازبين)، حاملي السلاح الشخصي، إجراءات التحقيق بعد حالات الانتحار، والتسلسل العلاجي لجنود الاحتياط. كما لم يتم الرد على الطلبات السابقة بالكامل، ونتيجة لذلك، تظل الصورة العامة حول حجم الظاهرة وكيفية معالجتها جزئية.

 

المصدر: “معاريف”

مقالات مشابهة

  • فزع في إسرائيل بعد الكشف عن اعداد الجنود الإسرائيليين المنتحرين بسبب صدمة غزة
  • صحة غزة: ارتفاع حصيلة ضحايا الحرب الإسرائيلية على القطاع إلى 70 ألف شهيدا
  • «الضرائب» تصدر إنفوجرافا بشأن مزاولي نشاط التعليم الإلكتروني
  • مَسْلَخ الفاشر الجماعي تكشفه الأقمار الصناعية (شاهد)
  • الخارجية الأمريكية:العراق تحت حكم الأذرع الإيرانية
  • ضغوط دولية لتوسيع التفاوض.. وحزب الله: لا نقاش في السلاح قبل وقف الحرب وانسحاب إسرائيل
  • لبنان: لا نريد حرباً مع إسرائيل
  • ساعر: تخصيص 634 مليون دولار لتحسين صورة إسرائيل عالمياً
  • إسرائيل تُخصص ميزانية كبيرة للدفاع في 2026
  • الرئيس الجميّل: لبنان يجب أن يستمر في التفكير بمستقبله رغم الأزمات