الليبرالية بين الندم الغربي والطموح العربي.. فوكوياما والعروي وجهاً لوجه
تاريخ النشر: 1st, July 2025 GMT
في نهاية عقد الستينيات، كتب المؤرخ والمثقف المغربي، عبد الله العروي كتابه "الإيديولوجية العربية المعاصرة"، وأثار به جدلا كبيرا في الساحة الثقافية العربية، كونه المثقف الماركسي، المؤمن بحتمية الثورة الاشتراكية، يدعو الماركسيين العرب، إلى لحظة ليبرالية، يتم بعدها الانتقال للاشتراكية، مبررا ذلك، باستحالة التحول في مجتمع يسود فيه المنهج السلفي، حتى داخل التنظيمات الماركسية التي يعول عليها لإنجاز مهمة الانتقال، إذ يستحيل في نظر العروي بناء التقدم، دون تغيير المنهج، فالماركسي لا يمكن أن يحمل تطلعات ماركسية، بمنهج سلفي، وإنما ينبغي أن تكون معركته الأولى هي القطع مع المنهج السلفي، وخوض نزال حاسم معه، وهذا لا يتحقق إلا بالمرور بمرحلة الليبرالية.
وقد نضجت هذه الأطروحة في فكر العروي نتيجة استقرائه للحداثة الغربية، وأنها أول ما بدأت، انطلقت من توطين أسس الفلسفة الليبرالية، في لحظتها الأنوارية، وليس الاستعمارية، فانتهت قراءته إلى أن الحرية التي كانت وراء تحقيق هذه اللحظة، تمثل عمق الفلسفة الليبرالية، و"هي المبتدأ والمنتهى فيها، الباعث والهدف، الأصل والنتيجة في حياة الإنسان"، ولذلك، لم يتردد في أن يعتبر الحرية، بمثابة المنظومة الفكرية الوحيدة التي لا تطمع في شيء سوى وصف النشاط البشري الحر وشرح أوجهه والتعليق عليه.
بعدها بأكثر من نصف قرن، وتحديدا سنة 2022، كتب عالم السياسة الأمريكي، فرنسيس فوكوياما، كتابه "الليبرالية ونقادها الساخطون" قدم فيه مرافعة قوية لصالح الليبرالية، داعيا إلى استعادة نسختها الكلاسيكية، حيث اعتبر أن النقد الذي يوجه إلى الليبرالية، منذ لحظتها الأولى، إلى اليوم، لم يمس من صلابتها، ولم يؤثر في حقيقة تفوق مبادئها على البدائل غير الليبرالية، وأن أغلب عيوبها مرتبطة بطرق التأويل والتنزيل، وأنه بدلا من الاشتغال بعيوبها والشغب عليها، ينبغي أن يتوجه التفكير إلى طرح بدائل لإصلاحها من الداخل، وأن ذلك لا يكون إلا بالعودة لأصولها الكلاسيكية.
الأصولية الليبرالية والمقارنة المثيرة
قد تبدو المقارنة بين العروي وفوكوياما مثيرة، ولكنها ضرورية لفهم عطب المنظومة الليبرالية سواء في فلسفتها، أو في تطبيقها، والصورة التي انتهت إليها (الليبرالية الجديدة)، فالدكتور العروي في الواقع، لم يكن يطرح فكرة" أصولية الليبرالية" من منطلق استراتيجي، وإنما من منطق مرحلي، بعد أن تأكد من استحالة إنجاز التحول في مجتمع لم تدرس الماركسية بنيته الاجتماعية بشكل دقيق، ولم تتبين خصائصه الثقافية، فانتهى تأمل العروي لمنظومة الأفكار التي تحكم مكونات الفعل الثقافي: السلفي، والقومي، والماركسي، ودراسته لمختلف تعبيراتها، استحالة الفطام من الثقافة الأم، وعسر إنجاز التغيير بسبب استحكام المنهج السلفي، في كل هذه المكونات، فكانت العودة لليبرالية، حلا، ليس للتقدم، ولكن، لإعداد المجتمع وتأهليه فكريا وثقافيا، لاستقبال التفكير الذي يقوده للتقدم.
المفكر المغربي عبد الله العروي كان أشد معارضة لفكرة العودة إلى الأصول حينما يتعلق الأمر بالمرجعية الإسلامية، ويعتبر المنهج السلفي السبب الأول في عطالة الأمة وتخلفها، ويرفض فكرة تجديد القديم، ويعتبره مناقضا للتاريخ، بينما يجيز لنفسه، أن يدعو إلى سلفيته الخاصة (العودة لليبرالية)، ثم حين يتأكد من أن دعوته ليست رهانا مجتمعيا، يقترح على الدولة أن تقوم به بدلا عن المجتمع، بحجة وجود عدو مشترك هو الإسلاميين.أما فوكوياما، فالأمر معاكس تماما، فهو يتحدث عن مجتمع صنعته الليبرالية الكلاسيكية، وانتهى به التحديث في كل مستوياته، إلى تحطيم الإنسان، وأهم المبادئ الليبرالية التي كانت تضمن إنسانيته، أي المساواة، والحرية، والعدالة، فلم يجد بدا في مواجهة خصومه من الناقمين على الليبرالية المنتقدين للمآل الذي انتهت إليه، والداعين إلى استبدالها بمنظومة أخرى مغايرة، سوى الدعوة لنسختها الكلاسيكية، ومحاولة التجاوب مع هذه الانتقادات، بتبني مقدمتين: الأولى، هو أن المشكلة في التأويل والتطبيق، ومن ثمة فالجواب هو العودة إلى الأصول (الليبرالية الكلاسيكية)، والثانية، هي أن العيوب الجدية التي ظهرت، تقتضي إصلاحا لها من الداخل، يحول دون أن تتكرر التجارب التي تتنكر للمبادئ الليبرالية وتحولها إلى عكس مقصودها (التجديد).
الفرق واضح من دون شك، فالعروي يدعو المجتمع للعودة إلى منظومة فكرية وممارسة تاريخية، لم يجربها بالمطلق، بزعم أنها الوحيدة القادرة على أن تقوم بمهمة الفطام عن الثقافة التي تعيق التقدم، وأن هذه المرحلة ضرورية، للتجسير لمرحلة قادمة، يقود فيها الفكر الماركسي، مهمته في التغيير الثوري للمجتمعات العربية، بينما فوكوياما، يمارس مهمة المرافعة على منظومة تهاكلت بواقع التطبيق، ويحاول أن يبشر كما كانت عادته في نهاية التاريخ، بأنه لا بديل عن تمثل الليبرالية مهما عرفت من عيوب، وأنها تمثل المنظومة الفكرية المتفوقة على غيرها، وأنه مهما تم البحث عن بدائل لها، فإنها ضرورة ستكون أسوأ منها، وسيزداد السوء عبر التجربة التاريخية من خلال سوء التأويل من جهة، وسوء التطبيق من جهة أخرى.
في المحصلة، تبدو علاقة العروي بالليبرالية في السياق العربي والإسلامي مجرد علاقة وظيفية، أي أنه يريد منها أن تحقق قصدا وظيفيا تاريخيا مرحليا، ومن ثمة، يمكن أن يآل بعدها لمنظومة أخرى أرقى منها.
تأصيل الحاجة لليبرالية.. بين العروي وفوكوياما
في كتابه "مفهوم الحرية"، حدد العروي بدقة تاريخية الحرية بوصفها نظاما فكريا، واعتبر أن مفهومها تشكل في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ولم يكتف بتفكيكه وتدقيقه، بل استصحب القراءة التاريخية لكشف مراحل تطوره، وكيف مر من أربع مراحل أساسية، مرحلة التكوين( التركيز على مفهوم الفرد ومفهوم الذات)، ثم مرحلة الاكتمال(شكلت الإطار لتأسيس علمين عصريين هما: علم الاقتصاد وعلم السياسة)، لتأتي بعد ذلك مرحلة الاستقلال(انتزعت فيها من الليبرالية الكلاسيكية الأفكار التي تنتمي إلى الديمقراطية، بعد ظهور فساد التطبيق في تجربة الثورة الفرنسية، وكيف يمكن أن يؤول سوء التنزيل إلى ظهور مفاهيم معاكسة تماما لأصول الليبرالية)، لتأتي في الأخير مرحلة التقوقع( شعرت فيه الليبرالية بعصوبة أو استحالة تطبيقها، وأنها مهددة بأخطار عديدة بسبب عدم القدرة على شروط ومسبقات ضرورية لدى جميع البشر يصعب أو يستحيل توفيرها في غالب الأحيان).
انتقد العروي على الليبراليين العرب أنهم لم يتعرفوا على الليبرالية في مراحلها الثلاث الأساسية، وإنما تعرفوا عليها في مرحلة التقهر، تلك المرحلة التي التبست فيها المفاهيم، واختلطت بالليبرالية، عناصر أخرى ليست منها، وامتلأت بشحنة متناقضة، لم تساعد العقل الليبرالي على قراءتها قراءة نقدية فاحصة، وأشار بهذا الخصوص، إلى أن الليبراليين العرب، حتى في المراجع التي استقوا منها مفهوم الحرية ومفهوم الليبرالية، فقد استندوا إلى الكتابات التي تعبر عن هموم المرحلة الرابعة من الليبرالية، وإن بقيت مشدودة بوجه ما على المراحل السابقة، ومثل لذلك بكتاب "فن الحرية" لجون ستيوارت ميل، وخلص العروي في نقده إلى أن العقل الليبرالي العربي، سقط في وهم عدم التمييز بين المراحل الأربعة للحرية، وأنه تمثلها بوصفها تمثل جوابا عن هموم وحاجات المجتمع العربي.
في الواقع لا يهمنا كثيرا الغوص في هذه التفاصيل المتعلقة بنقد العقل الليبرالي العربي وكيف تمثل مفهوم الليبرالية ومفهوم الحرية بوصفها أساس وجوهر الفلسفة الليبرالية، لكن ما يهم في نقد العروي للليبراليين العرب، هو أنه حاول التنبيه إلى أن المفاهيم تتشكل في سياق تاريخي، ووفق شروط سياسية واجتماعية وفكرية، وأنها تتطور تبعا لتغير الشروط، وأنها تتشكل وتنضح وتكتمل، لكنها في اللحظة التي تبحث فيه عن الاستقلال بالمعنى الذي يفيد تجردها عن أصولها الفلسفية تدخل مرحلة التقهقر تماما كما حصل لمفهوم الحرية حين بدأت الممارسة تدفعه نحو تشكيل منظومته الفكرية الخاصة باستقلال عن جوهر الفكرة الليبرالية الكلاسيكية.
الواقع أن المشكلة ليست في التحديد المفهومي، وكيف يدخل التاريخ وشروط السياق لتضع بصمتها فيه، وليست حتى في تطور المفهوم، وإنما في التناقض الذي يمكن أن يقع فيه المثقف، حينما يدعو في سياق تاريخي مختلف إلى العودة إلى الليبرالية الكلاسيكية كشروط لتأهيل المجتمع للمضي في مسار التحديث. فإذا كانت الشروط التاريخية، بكل مستلزماتها وفرت بيئة حاضنة لتكون الحرية، وجاءت شروط أخرى مغايرة، وأملت تطورها وانتقالها إلى المراحل اللاحقة، إلى أن حلت مرحلة التقهقر، فكيف يسوغ الدعوة إلى الدفع بفكرة المرحلة الليبرالية كمنعطف انتقالي لتحقيق مهمة تحديث تاريخية يراد للمجتمع العربي الإسلامي أن يخضع لها، وهل من الممكن التفكير في توطين فكر ما دون وجود شرط تاريخي يسهم في تشكيله وتطوره، أم أن المجتمع العربي وحده، هو الذي لا يشترط نفس البيئة التي أنتجت الليبرالية الكلاسيكية، وإنما يكون من الواجب كي يحقق التحديث، أن يقوم بالقطيعة، وأن هذه القطيعة الثقافية نفسها، لا يمكن أن تحدث إلا بالليبرالية حتى ولو لم تكن شروطها التاريخية متوفرة؟
في حالة فوكو ياما، الأمر يأخذ صورة معكوسة، فالعودة إلى الليبرالية الكلاسيكية، في نظر عالم السياسة الأمريكي هو الذي من شأنه مداواة جراحاتها وعيوبها، وأن ما أسماه العروي بمرحلة التقهقر، لا تعني موت الليبرالية أو الحرية، وإنما تعني ضرورة الوعي التاريخي بمجمل النقد الموجه لليبرالية، وضرورة استيعابه، والإقرار بمصداقية الكثير من الحجج الواردة فيه، وأنه لا يعني بأي حال نهاية الليبرالية، بل يعني الحاجة إلى إصلاحها، أو بالأحرى تجديدها، والصورة المثلى لهذا التجديد تكمن في أصولية الليبرالية أي العودة لأصولها الكلاسيكية، وإلى مثالها الأعلى ونموذجها "السلفي"، وأنه ما دامت الليبرالية هي أرقى وأنضج منظومة فكرية وسياسية توصل إليه العقل البشري، وألا وجود لبديل يضاهيها أو يفوقها، فإن الكم الهائل من النقد الموجه إليها، لا يعني في الواقع سوى تأكيد الحاجة إليها، وإلى إصلاحها وتجديدها، وأن مدخل ذلك هو "السلفية" أي العودة إلى أصول الليبرالية كما تشكلت في مرحلتها التكوينية.
العودة إلى الليبرالية.. حينما تدعو الحاجة للتحديث والتحصين إلى تجاوز منطق التاريخ
بعد أزيد من ستين سنة من الدعوة إلى الليبرالية بوصفها مرحلة انتقالية لضرورة لتحديث المجتمع العربي، نزل العروي قليلا من برج التنظير العام، وكتب كتابين صغيري الحجم "السنة والإصلاح"، ثم "من ديوان السياسة" خصصهما للمجادلة الفكرية والسياسية، حول تجربة الانتقال إلى التحديث في المغرب، والقضايا الجزئية التي تثار في رحم هذا النقاش المحوري، لكن بدا واضحا من مضمون الكتابين، أن العروي لم يغادر قضيته المركزية، أي عراك المكون الديني السلفي، ومحاولة تحقيق الفطام عن الثقافة الأم، من أجل تحقيق التحديث المطلوب.
يطرح فوكو ياما فكرة تجديد الليبرالية بالعودة إلى أصولها، وتصحيح انحرافاتها، ويجيز لنفسه، للعودة لتاريخ الإغريق، كما عاد العروي لتاريخ الرومان، ليجيز فكرة العودة للأصول الكلاسيكية لليبرالية، فيتشركان معا في أن العقل السلفي، هو العائق أمام تحديث المجتمعات العربية الإسلامية، وأن العودة إلى الأصول، أو التجديد بالمعنى الذي يفيد تجاوز الانحرافات التي التبست بالأصول، هي فعل خارج التاريخ، ويعارض منطقه!في كتابه اللاحق الذي ترجم فيه عمل منيتسكيو "تأملات في تاريخ الرومان" بدا وكأنه ابتعد كثيرا عن هذا الموضوع، لكن عند التأمل والتدقيق، اتضح أن الكتاب لا يتعلق فقط بزمن واحد(زمن الحضارة الرومانية)، وكيف تشكلت وسادت، وما هي عوامل سقوطها، وإنما يتعلق بثلاثة أزمنة أساسية، زمن الرومان، وزمن المؤلف منتيكسو، ثم زمن الكاتب عبد الله العروي، فقد جمع الكتاب بين وقائع التاريخ الروماني، وبين ملاحظات مونتيكسو، وحاول أن يجعل من ذلك كله مادة أساسية لتأكيد خلاصته الجوهرية حول ضرورات التحديث وشروطه في السياق العربي الإسلامي.
ويكفي في هذا السياق أن نورد نصا واحدا يتعلق بوقائع التاريخ الروماني، وننظر كيف انتقل من ملاحظات المؤلف، إلى ملاحظاته الخاصة التي تؤكد أطروحته، يقول مونتيسكيو: في "تأملات في تاريخ الرومان": "يا عجبا لتناقض الطبيعة البشرية، في روما القديمة لم يمنع القانون رجال الدين من المشاركة في الحياة المدنية. لم يعفهم من أي واجب سياسي، ومع ذلك نأوا بأنفسهم عن هذه الهموم. ثم جاءت المسيحية وفصلت فصلا واضحا بين الكنيسة والمجتمع. ومع ذلك تدخلت الأولى في شؤون الثانية، لكن باعتدال، ثم انحطت الإمبراطورية وأصبح الرهبان يشكلون جل، إن لم نقل كل أعضاء الكنيسة والمجتمع". انتهى النص.
هذه المقابلة التي أوردها مونتسكيو بين موقف روما القديمة، وبين موقف المسيحية، حول علاقة رجال الدين بالمجتمع، أو علاقتهم بالسياسة على نحو دقيق، جعلت عبد العروي يخرج بملاحظة على الهامش، يقول فيها: يبدو أننا أمام نفس الوضع، لاسيما في عالمنا العربي" هذه فقط عينة واحدة من ضمن عشرات العينات التي تؤكد أن العروي، بعد أن فرغ من بسط أطروحته، والتأكيد على أنه لا مناص من العودة لليبرالية كمرحلة انتقالية، التجأ إلى التأصيل، ليس فقط من المادة التاريخية(تاريخ الرومان) ولكن أيضا من ملاحظات مونتيسكيو صاحب كتاب "روح القوانين" الذي يشكل أحد أوجه ورموز الليبرالية الكلاسيكية.
فوكوياما، لم يحتج كل هذا العبئ لإثبات أطروحته، فقد صرف في كتابه الجهد الأكبر لاستعراض ملخص الانتقادات الساخطة التي توجهت لليبرالية، وتقاسم إلى حد كبير مع العروي فكرة بحث تطور الليبرالية، وكيف انتقلت إلى الصيغة الليبرالية الجديدة الأكثر تطرفا (مرحلة التقهقر) والتي كانت وراء ظهور معارضة شديدة وشرسة لها وللرسمالية برمتها، لكنه، أضاف إلى تحليل العروي معامل التقنية، وكيف أدى تطورها إلى الحد من مبدأ حرية التعبير التي تعتبر من أساسيات الليبرالية الكلاسيكية، لكن الشيء الذي تميز به فوكو على العروي، أنه، لم يطرح فكرة العودة لليبرالية باعتبارها أداة وظيفية لتحقيق التحديث، ولكنه طرحها بوصفها طريقا لا بديل له، فقام باستقراء خطاب اليمين واليسار، وما تضمنه من بدائل ممكنة، وانتهى إلى أنه لا توجد بدائل جدية يمكن أن تحل مكان الليبرالية، وأن الليبرالية هي المنظومة الأكثر صلابة ومتانة مقارنة بغيرها، وحاول أن يجد مخرجا لمشكلة العيوب الكثيرة التي اعترت الليبرالية في مآلها اليوم، وبشكل خاص حاجتها إلى هوية وطنية، فاقترح في الفصل العاشر من كتابه جملة مبادئ عامة مطلوبة لإعادة الثقة بالليبرالية الكلاسيكية، فاقترح الحاجة إلى الحكومة والثقة فيها وتجاوز منطق التشكيك في فعاليتها من قبل اليمين واليسار على السواء، ثم أخذ مبدأ الفيدرالية على محمل الجد (الدعم الحكومي خاصة في مجالات الرعاية الصحية والبيئة)، واقترح أيضا الحاجة إلى حماية الحق في التعبير.
في المبدأ الرابع، حاول فوكو ياما أن يؤطر الاستقلالية الذاتية التي تعتبر القيمة الأساسية للليبرالية بمبدأ أخلاقي يؤمن كرامة الإنسان، بما يعني احترام المعتقدات وتهدئتها بدل العمل على اقتلاعها.
أما المبدأ الخامس والأخير (الاعتدال)، فقد استلهمه فوكوياما من تجربة تاريخ الإغريق، وقد قصد به عدم اتباع الأهواء بإفراط، بما في ذلك في حقل النشاط الاقتصادي. فحسب فوكوياما، فإن حرية النشاط الاقتصادي لا تعني بالضرورة عدم وضع قيود عليه، بل يقتضي مبدأ الاعتدال المستلهم من تاريخ اليونان القديم، إقامة التوازن بين متطلبات تشجيع حرية النشاط الاقتصادي، ومنع الإفراط في هذه الحرية بما يفسر تغول الليبرالية الجديدة، وبروز انتقادات لاذعة ضدها.
المقابلة بين العروي وفوكوياما على هذا المستوى تبدو بعيدة، فهما مبدئيا يشتركان في مبدأ العودة للتاريخ القديم (الرومان والإغريق القدماء) للتأصيل لفكرة العودة ليبرالية. الفرق بينهما، أن الأول يفيد من تاريخ الرومان، لتأصيل العودة لليبرالية الكلاسيكية بشكل وظيفي لتحقيق هدف تأهيل المجتمع لاستقال التحديث، والثاني، يعود للتاريخ، لاقتراح مبادئ تصحح عيوب الليبرالية، بما يضمن لها العودة إلى نسختها الكلاسيكية. فالعروي، يعود للتاريخ لاقتراح نموذج لم يطبق على المجتمع العربي الإسلامي، والثاني، يعود إليه، لتصحيح نموذج تم تطبيقه، وانته إلى الانحراف عن اصوله التاريخية بفعل التجربة.
العطب في أطروحتي العروي وفوكوياما أنهما معا، يتغافلان كون الأنظمة الفكرية إنما تنشأ وتتطور في سياق تاريخي، وضمن شروط اجتماعية واقتصادية وثقافية، فالليبرالية الكلاسيكية ليست عقيدة جاهزة تنتظر فقط من المجتمع أن يتبناها أو يعود إليها، وإنما هي ثمرة تحولات عميقة في المجتمع، كما أن الانحراف عنها، هو الآخر، نتيجة تحولات أخرى، ومن ثمة، لا يسوغ بمنطق التاريخ نفسه، أن تصير خلاصا تكتيكيا للشعوب العربية (العروي)، ولا مرجعية صالحة وأبدية شرط التجديد لمواجهة الانحراف التي لحقها (فوكوياما) فهي بمنطق التاريخ، نظام فكري، تشكل في سياق الزمن، والانحراف عنه، هو أيضا، تبلور مع التحولات التي تراكمت المجتمع، فلا يمكن أن نوقف هذه التحولات بمجرد توجيهات إرشادية من قبيل على اليسار واليمين أن يقبلوا بفكرة وجود الحكومة، ويثقوا بدورها وفعالتيها، أو من قبيل، على المجتمع والسلطة على السواء أن يعملا على اتخاذ إجراءات لمنع تقييد حرية الكلام، وذلك في ظل تغول التقنية، وتغول جهاز الدولة الدعائي، ولا يمكن إقناع الشركات الضخمة بفكرة الاعتدال، وهي ترى أن مبدأ حرية النشاط الاقتصادي، الذي تضمنه الليبرالية، هو الذي يفسر نجاحها، وأن العمل على تقييده يعني تعريض نجاحها للإخفاق.
وفي المقابل، فإنه لا يمكن لمجتمع (العربي الإسلامي)، تشكل نسقه الثقافي بارتباط مع المرجعية الإسلامية، بحيث صاغت تاريخه وعقله ووجدانه، أن يطلب منه أن يستقبل الليبرالية الكلاسيكية، فقط للقطيعة مع هذه المرجعية ومفاعليها المختلفة في المجتمع.
الأصولية الليبرالية والأنفاق المسدودة
في لقاء أجري إعلامي مع المفكر المغربي عبد الله العروي، وفي معرض حديثه عن الفكر السلفي وهامشية فكر ابن تيمية في التاريخ العربي الإسلامي، حاول أن يفسر السبب في انتقال المذاهب الأربعة من الأكثر انفتاحا (المذهب الحنفي) إلى الأكثر انغلاقا (المذهب الحنبلي) فاختار مسلكين للتفسير أولهما أن التفكير الفقهي لم يكن الحالة الثقافية المهمينة في المجتمع، والثاني، أن انسداد الواقع أمام التفكير الفقهي، هو ما يفسر التحول من الانفتاح إلى الانغلاق.
في الواقع، لا نريد مناقشة تفصيلية لهذه الأطروحة، فيكفي أن عيبها الكبيٍر أن العروي تعسف في قراءة التاريخ الفقهي، واعتبر المذهب الحنبلي كما ولو كان المآل الذي انتهى إليه الفكر الفقهي، مع أنه بالتكييف التاريخي، لم يكن إلا فكرا هامشيا في التاريخ، وأن محاولات ابن تيمية وابن القيم الجوزية لإحيائه، إنما كان بإعادة صياغته بشكل كامل، وربما تجديده بالانفتاح على تراكمات المذاهب الأخرى، ومع ذلك، يقول العروي نفسه، بأن ابن تيمية بالمقارنة مع غيره كان عالما عاديا، وأن فكره كان هامشيا، وأن الاستشراق بعيد الثلاثينيات من القرن الماضي ولغايات معلومة (هنري لاووست) هو الذي كرس فكرة أن ابن تيمية مفكر محوري في الفكر الإسلامي.
لا يهمنا كثيرا سقوط العروي في التناقض بين اعتبار المذهب الحنبلي هو مآل التفكير الفقهي، ثم اعتبار ابن تيمية مفكرا هامشيا قياسا إلى العلماء الذين كانوا في زمانه وقبله، وليس القصد الرد على خطأ ادعائه بخصوص المذاهب الثلاثة الأخرى (الحنفي، والمالكي، والشافعي) والتي كانت الأكثر انتشارا جغرافيا، والأكثر طلبا سياسيا، والأكثر امتدادا تاريخيا، والأكثر تنوعا اجتهاديا (تعدد الاجتهادات والرموز داخل المذهب الواحد)، لكن ما يهمنا على وجه الخصوص التفسير الذي آل إليه، والذي ينطبق بالفعل على أطروحته بالدعوة إلى الليبرالية.
يوضح ذلك، أنه حين كتب "العرب والفكر التاريخي"، و"الإيديولوجية المعاصرة"، أقر بوجود انسداد تام لدى مجمل تيارات الفعل التغييري في المجتمع العربي: السلفي، القومي، الماركسي، فانتهى به المطاف ابتداء إلى طرح فكرة الليبرالية بوصفها مرحلة انتقالية وظيفية لتأهيل المجتمع للتحديث، ثم عاد بعد أكثر من نصف قرن، مع كتابه "من ديوان السياسة" ليقترح فكرة اللبرلة من فوق، بعد أن تأكد بأن التاريخ ومنطق تطوره، يسير عكس أطروحته، فقام بمغادرة حقل الفكر والتاريخ تماما، ولجأ إلى حقل السياسة، ليقترح على الدولة التعاون من أجل هزم عدو مشترك هو الإسلاميين (ممثلي العقل السلفي في اعتقاده)، اعتقادا منه، أن خيار الإقناع بالانتظام في المبادئ الليبرالية فشل مجتمعيا، بسبب فشل النخبة الحاملة للمشروع، ولم يبق إلا خيار التعاون مع الدولة، للقيام بهذه المهمة بشكل قسري.
أما مشكلة فوكوياما، فهي على المقابل تماما، فاذا كان منطق التحولات التاريخية في جميع مستوياتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية والقيمية والتقنية، أنتج واقع الليبرالية المتوحشة، فإنه بدا أقل رهانا من العروي الذي تمسك بقشة دور الدولة القسري في اللبرلة لوجود عدو مشترك، فاكتفى بمبادئ توجيهية إرشادية لا يُعنى بها أحد بالاعتبار المصلحي، فلا الدولة أو الجهاز الحكومي معني بهذه التوجيهات، لأنها تسلبه جزءا من وظائفه وأدواره الحيوية (تقييد حرية الإعلام) ولا الشركات الكبرى معنية بتوجيهاته، لأنه يحد من نشاطها الاقتصادي، ولا المجتمع في بعض الأبعاد معني بهذه التوجيهات، لأن التفكير الليبرالي الذي تنشأ عليه، يجعله مسكونا بفكرة عدم الثقة في الدولة وأدوارها في الحد من الحرية الشخصية وفي النشط الاقتصادي. وتبقى الفئات المتضررة، من تغول الشركات، ومن الحرمان من الرعاية الاجتماعية خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية، أو من استهداف البيئة، هي المعنية أكثر بهذه التوجيهات، فيبدو فوكوياما كمن يستجدي أن تلتفت الدولة بنحو ما لهذه الفئات، وأن تحد الشركات المهيمنة من غلوائها بالانتفاع بموعظة الاعتدال الذي يقدمها لهم.
خاتمة
المثير في هذه المقابلة، أن المفكر المغربي عبد الله العروي كان أشد معارضة لفكرة العودة إلى الأصول حينما يتعلق الأمر بالمرجعية الإسلامية، ويعتبر المنهج السلفي السبب الأول في عطالة الأمة وتخلفها، ويرفض فكرة تجديد القديم، ويعتبره مناقضا للتاريخ، بينما يجيز لنفسه، أن يدعو إلى سلفيته الخاصة (العودة لليبرالية)، ثم حين يتأكد من أن دعوته ليست رهانا مجتمعيا، يقترح على الدولة أن تقوم به بدلا عن المجتمع، بحجة وجود عدو مشترك هو الإسلاميين. في حين، يطرح فوكو ياما فكرة تجديد الليبرالية بالعودة إلى أصولها، وتصحيح انحرافاتها، ويجيز لنفسه، للعودة لتاريخ الإغريق، كما عاد العروي لتاريخ الرومان، ليجيز فكرة العودة للأصول الكلاسيكية لليبرالية، فيتشركان معا في أن العقل السلفي، هو العائق أمام تحديث المجتمعات العربية الإسلامية، وأن العودة إلى الأصول، أو التجديد بالمعنى الذي يفيد تجاوز الانحرافات التي التبست بالأصول، هي فعل خارج التاريخ، ويعارض منطقه!
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير النقد الأفكار نقد أفكار سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة النشاط الاقتصادی العربی الإسلامی إلى اللیبرالیة المجتمع العربی مفهوم الحریة فکرة العودة فی المجتمع عدو مشترک ابن تیمیة التی کانت فی الواقع هو الذی لا یمکن یمکن أن فی سیاق أنه لا إلى أن
إقرأ أيضاً:
نيمار بعد تجديد عقده مع سانتوس: عدت إلى بيتي الحقيقي
ماجد محمد
أعلن النجم البرازيلي نيمار تجديد عقده مع نادي سانتوس حتى نهاية عام 2025، مؤكدًا أن هذه العودة تمثل له أكثر من مجرد صفقة كروية، بل عودة إلى الجذور.
وفي تصريحات صادقة، قال نيمار:”الرجوع إلى سانتوس يعني العودة إلى بيتي الحقيقي, فبعد سنوات طويلة من الغربة، لا يمكن وصف مشاعري، هنا عائلتي، أصدقائي، وهنا بدأت الحكاية. أنتم من تمنحونني الدافع للاستمرار، مهما كانت التحديات”.
نادي سانتوس أكد في بيان رسمي أن العقد يمتد حتى 31 ديسمبر 2025، مع خيار التمديد لاحقًا، وسط توقعات بأن يسهم نيمار في تحسين نتائج الفريق، الذي يمر بفترة حرجة ضمن جدول الدوري المحلي.
ورغم أن اللاعب، البالغ من العمر 33 عامًا، لم يشارك سوى في أربع مباريات بسبب الإصابة العضلية والإصابة بفيروس كورونا، فإن إدارة النادي ترى فيه رمزًا وقدوة فنية ومعنوية، خاصة في هذا التوقيت.
وعن دوافع هذه الخطوة، أوضح مقربون أن نيمار يتطلع لاستعادة جاهزيته البدنية والفنية بهدف تمثيل منتخب بلاده في كأس العالم 2026، تحت قيادة المدرب الإيطالي كارلو أنشيلوتي، حيث يراها فرصة أخيرة لتدوين اسمه في صفحات المجد الدولي.