سلطان اليحيائي

 

حين تضيق النفس وتَتثاقل الخُطى، لا يكون السفر ترفًا؛ بل يُصبح ضرورةً روحيةً ونفسية.. هو ارتحال داخلي بقدر ما هو خارجي، يمنح الإنسان لحظة فرار من التكرار وضيق الزمان. فالسفر يُعيد ترتيب الداخل، ويُرمّم الخُدوش الخفيّة، ويُوقظ فينا ذائقة التأمّل والبدايات.

بعض الأماكن لا تُزار لمجرد الاكتشاف، بل لأنها تُهمس للنفس بلغة لا يسمعها إلا مَن أثقله التعب.

هكذا كان لمكة حنينٌ لا يَجفّ، ولصلالة حضور لا يُنسى.

الأولى بوّابةٌ للروح، والثانية حضنٌ للطبيعة، وفي كِلتيهما طاقة إيجابية تُعيد للإنسان اتّزانه وشغفه بالتجديد.

زيارة مكة لا تُقاس بعدد الخُطى، بل بعمق الأثر؛ فهناك لا تمشي وحدك، بل على خُطى أنبياء.

تسير كأنك تُعيد مشهد إبراهيم الخليل حين ترك زوجه وولده في وادٍ غير ذي زرع، وتسمع صدى دعائه في زمزم، وتلمح في السعي خُطى الثقة والمثابرة.

وتسير كما سار نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- حين اختلى بنفسه في غار حِراء، وارتجف قلبه عند نزول الوحي، ثم عاد إلى خديجة يرجو دفء الطمأنينة: "زمِّلوني".

هناك بدأت الحكاية التي بدّلت وجه العالم.

كل ذرّة من تراب مكة تُهمس ببدايات عظيمة، وكأنك لا تزور؛ بل تعود إلى أصلٍ يسكن فيك، وتمشي في أثر رسالة لا تزال تنبض.

ومَن قصدها لا يعود كما كان؛ شيء في داخله يتبدّل، تذوب فيه الضوضاء اليومية، ويُولد من جديد بشعور لا يشيخ. والمكان لا يحتاج وصفًا، لأنه يسكن في وجدان الأمة، وإذا اقتربت منه بخشوع، منحك من السكينة بقدر صدقك في الحضور.

وفي حين يُلامس الإنسان في مكة جلال النور، فإن صلالة تمنحه دهشة الخُضرة ونعمة الرذاذ.

صلالة لا تُرى فقط بالعين؛ بل تُعاش بالحواس؛ في كل ورقة خضراء، في كل نسمة مُحمّلة بضباب الجبال، وفي مطرٍ ناعمٍ يهمي على الأرض رغم وهج الصيف.

حين تكون هناك، تشعر أن الأرض تحت قدميك تتنفّس بسلام، وأنك جزء من معزوفة كونية متناغمة.

ولا عجب؛ فالدراسات في علم النفس البيئي أثبتت أن التعرّض للمناظر الطبيعية يُخفّض مستويات التوتر ويُفعّل مناطق الراحة في الدماغ.

كما أشار الباحث ريتشارد لوف إلى "أن الانفصال عن الطبيعة يُضعف الإنسان، بينما القرب منها يُرمّم ما لا تراه الفحوصات الطبية".

الطبيعة هناك لا تتجمّل لتُعجبك، بل تَحتضنك كما هي: ببساطتها، ودفئها، وابتسامتها الخفيّة.

هذا اللقاء بين التجربتين ليس مقارنة بين قدسيّة وجمال، بل هو تأمّل في كيفية تأثير المكان على النفس.

في مكة تتطهّر الروح، وفي صلالة ينتعش الحِسّ، وكِلاهما يُعيد تشكيل الإنسان من الداخل.

ووفق دراسات في علم الأعصاب الإيجابي، فإن التفاعل مع التجارب العميقة، سواء كانت روحية أو جمالية، يرفع من إفراز هرمونات الراحة والترابط مثل "الأوكسيتوسين"، ويُعيد الدماغ إلى حالة من التوازن والاستقرار؛ أي أن مكة وصلالة، رغم اختلاف غايتيهما، كلاهما علاج داخلي بوسائل مختلفة.

ولعل في هذا المقام، لا بُد من التفاتة صادقة إلى ذلك المسافر الذي يُدير وجهه للغرب في كل مرة، باحثًا عن ثقافة أو مناخ مختلف أو نمط حياة جديد، فيجد شيئًا من الفتور أو الريبة أو الجحود.

فالواقع لا يخفى؛ فما عادت تلك البلاد تُرحّب إلا انتقائيًّا، وما عادت تُخفي ما تُكنّه من استخفاف بثقافتنا، بل وتُظهر تواطُؤها الصارخ مع أعدائنا في ظلم لم تعد تُخفيه الكواليس.

هذا المسافر الذي يحلم بالتقدير، يعود بانكسار، بينما بين يديه أماكن تحترم وجدانه، وتُعيد له شعوره بأنه مُرحّب به دون مواربة أو تحفّظ.

لهذا، فلنُحسن خياراتنا؛ فبعض الرحلات يمنحنا صورًا، وبعضها يمنحنا استقرارًا داخليًّا لا يُشترى.

وفي ظل الضغوط المتسارعة، باتت هذه الرحلات الواعية ضرورة استراتيجية للصحة النفسية، لا ترفًا موسميًّا.

إنها وسيلة ذكيّة لإعادة ضبط الإيقاع الداخلي، وتأكيد على أن الإنسان إذا أحسن اختيار وجهاته، فإن كل خطوة فيها قد تكون عتبة جديدة نحو الطمأنينة والكرامة معًا.

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

حين يسيء الناس لدينهم قبل أن يسيء إليه خصومه

حين يسيء الناس لدينهم قبل أن يسيء إليه خصومه..ردا على مقال #نجاة_النهاري.

#منى_الغبين


بحكم إقامتي الطويلة في امريكا ،، وتعرفي على بعض الجنسيات ومختلف المذاهب ،،كان بعضا من أصدقائي غير المسلمين ينتقدون ما يسمعونه ويشاهدونه في عالمنا العربي والإسلامي من اضطرابات ،، يسألونني كيف لدينكم والذي تقولون عنه إنه دين الرحمة والعدل،، أن يصبح في نظر الآخرين مليئا بالانقسامات والخوف والرهبة!!؟ طبعا تساؤلهم ليس تهجما،، بل محاولة منهم لفهم الدين الاسلامي،، هم أشخاص قرأوا عن نبينا المصطفى محمد وكيف بأخلاقه ومعاملته الحسنة جذب الناس للايمان بالدين الإسلامي..

وكنت قد صادفت مقالا للسيدة اليمنية نجاة النهاري،، اليهودية التي عبرت عن فضولها واحترامها للإسلام من خلال إحدى مقالاتها التي نشرت على بعض المواقع الاخبارية…

مقالات ذات صلة الإنجاز الأعظم / مهند أبو فلاح 2025/12/12

تقول إنها تبحث عن الإسلام الذي كان في عهد نبينا المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام ،،والذي عرفته من قراءتها للسيرة النبوية،، وليس الاسلام من الواقع الحاضر…والكثيرون مثلها لديهم الفضول ..

ولهذا سأرد عليها بوضوح وعقلانية..وبالقدر المستطاع..

الإسلام في جوهره ثابت من خلال القرآن والسنة وسلوك واضح من خلال التطبيق العملي من اخلاق ومعاملات وعباداتنا اليومية..

الدين الاسلامي هو تهذيب للنفس وتحرير الإنسان من الظلم.. صحيح ما نراه اليوم في عالمنا لا يمثل جوهر الدين الاسلامي نهائيا…ولكن لم تتغير نصوص وجوهر الدين الاسلامي،، الذي تغير هو الإنسان حين ابتعد عن تعاليم الإسلام…

القرآن الكريم يؤكد أن الناس لا يختلفون عن بعضهم البعض ،،فكلهم مكرمون عند الله،،

في سورة الإسراء يقول الله تعالى ((لقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا)).

لا بحكم عليهم من خلال الجنس واللون والانتماء ،، بل من خلال أفعالهم..

لذلك أهل الكتاب وعلى اختلاف مذاهبهم ،، منهم أمة قائمة تتلو آيات الله وتسجد له وتتبع سنة واخلاق نبينا محمد،،، ولم يتم نعتهم بصفات الكفر المطلق كما يردد بعض الجهلة..

وحين يتساءل غير المسلم.. أين أذهب وماذا افعل اذا أردت أن افهم الإسلام؟!!!!

ببساطة يجب ان تذهب إلى نص القرآن الكريم..والسيرة النبوية الشريفة… وليس من ضجيج و صخب السياسة وأكاذيبها ،،ولا في شاشات الدم التي امتلأت بها قنوات الإعلام ..

فما يحدث من صراعات بين المسلمين وفي دولهم ليس هذا هو الدين !!بل هو بسبب ضعف تلك الدول،، والتدخلات الخارجية بها وسياساتها التي هي من عملت على إراقة الدماء دماء المسلمين من أجل سياساتهم وأحلامهم ،، ومن أنظمة فاسدة،، كما حدث في سوريا وما حدث بالعراق ما بعد صدام حسين ،،والفقر والجهل وغياب العدل ..والتاريخ يؤكد إن كل أمة مرت عليها هذه المواقف ،، حتى أوروبا غرقت في حروب دينية أحرقت مدنها وذبحت شعوبها،، واستبعدتهم.. ومن أشهر الخلافات السياسية الدينية في أوروبا والصراع بين الكاثوليك والبروتستانت، وأدت إلى حروب عنيفة مثل حرب الثلاثين عامًا في القرن السادس عشر والحروب الدينية الفرنسية،، بالإضافة إلى صراعات أخرى مثل حرب الثمانين عاما .. في هولندا،، والتي مزجت بين الولاءات الدينية والمصالح السياسية للدول والأسر الحاكمة!!.
ومع ذلك لم نسمعأحد قال ان المسيحية دين دم وقتل وترهيب!!!!
اذا المشكلة ليست في الإنجيل،، بل في من رفع السيف باسم الدين المسيحي ..وفي عالمنا الإسلامي ،، ليست مشكلتنا في اختلاف المذاهب كما توهم البعض،، بل الواقع أن الخلاف بينهم فقهي وفكري،،
والاختلاف قطعا لا يغير أصل الدين ولا أركانه..
ما الذي جعل الخلاف يتحول إلى اقتتال الجواب هو السياسة.. لا العقيدة…ومن أشهر الخلافات السياسية في عهد الصحابة مثلا تمحورت حول قضية الخلافة بعد وفاة المصطفى محمد عليه الصلاة والسلام ،،والأحداث الدامية التي بدأت بـمقتل عثمان بن عفان وتصاعدت إلى حروب داخلية كـموقعة الجمل ومعركة صفين بين جيش علي ومعاوية، مما أدى إلى انقسام المسلمين وظهور فرق (الشيعة، الخوارج، والجماعة…
يتساءل أحدهم مالذي يغري ويدفع الناس إلى اعتناق الدين الاسلامي!!!!
الحقيقة الثابتة أن الدين الإسلامي لم يكن مشروع سياسي لجذب الناس بالقوة أو الوعود الدنيوية..
على مر العقود والسنين الناس دخلت الإسلام لأن الدين الاسلامي دين سلام ومحبة وكرامة وعدلا وحرية وحقوق الإنسان ..وليس ولاءات وعود دنيوية ودماء ..
أما لماذا اختفى بريق الاسلام او خفت أن صح التعبير ،، ذلك لأن أغلب دولنا ترزح تحت ظلم الفقر والفساد ،،
وليس لان الإسلام ظالم،وبعض من يمثلونه في المؤسسات
والمجتمع بعيدون عن قيمه وتعاليمه..
لهذا يحاول الملايين من المسلمين الهجرة إلى دول تحترم حقوق الإنسان بغض النظر عن دينها…حقيقة موجعة وواقع الحال..
سيظل القران الكريم ودستوره أكبر من أخطاء البشر واكبر من نواياهم كلهم ..
ونبينا المصطفى محمد عليه افضل الصلاة والسلام ،مثلنا الاعلى وقدوتنا،، نستمد منه ومن سيرته الامان والسلام بعيدا عن ضجيج السياسة..
وسيظل الدين الإسلامي في سماحته وعدالته كما هو رغم المغرضين والحاقدين،، وسيعود السلوك الحسن ،،كما روي عن النبي حين جعل اليهودي يحبه ويؤمن بالدين الإسلامي حتى قبل أن يفهم آيات القرآن..
عليكم أن تعرفوا أن الإسلام ليس ما تشاهدونه في نشرات الأخبار،، بل ما يمكن أن يكونه الإنسان حين يتحلى بالرحمة،،والصدق،والعدل،، حسن الجوار، وصون كرامة الإنسان مهما كان دينه…
وما دام هناك من يتساءل ولديه الفضول وحب المعرفة بصدق مثل السيدة نجاة النهاري ،، فحتما هذه بشرى سارة أن الإسلام ما زال قادرا على مخاطبة القلب والعقل حين نزيح عنه غبار التاريخ وأخطاء البشر…

مقالات مشابهة

  • حقوق الإنسان كما تُمارس في عُمان
  • 3 أمور ترفع قدرك عند الله.. مركز الأزهر يوضح
  • الفلسفة ليست ترفًا… بل مقاومة يومية ضد التفاهة
  • بذرة فنان
  • جنش: علاقتي جيدة مع وليد دعبس .. وراضٍ عن تجربتي في مودرن سبورت
  • حقوق الإنسان: قمع تظاهرات الشرش في البصرة يدفع نحو تعليق عمل الحكومة
  • علي جمعة: باب التوبة مفتوح ما لم يغرغر الإنسان
  • حين يسيء الناس لدينهم قبل أن يسيء إليه خصومه
  • خمسُ كاملاتٍ أوقفتْ المعجزات
  • أســــــود..