في ظهر يوم حار من أيام غزة الثقيلة، كانت أم خالد عبدالعال تمسح العرق عن جبينها وهي تجهز ابنها الصغير للخروج. عمره تسع سنوات فقط، لكنه أصبح هو من يتحمّل مسؤولية إحضار الطحين للعائلة بعد أن استشهد والده في قصف سابق. نظرت إليه بعين قلقة وقالت: "امشِ على الرصيف.. وخد بالك من الطيارة التي فوقنا".
بداية القصة
خرج الطفل وهو يحمل كيسًا صغيرًا، وترك وراءه أمه تحبس دموعها.
في زاوية أحد الأزقة، كان الطفل قد احتمى وراء جدار، وقد غطى التراب وجهه وملابسه. وبدل أن يعود ومعه الطحين، عاد بعد ساعات على نقالة طبية مصابًا بشظية في الساق. في المستشفى، جلست أمه تمسك بيده وتهمس: "خلصوا الحرب يا عالم.. مش كفاية علينا؟".
في مدينة خان يونس، كان الحاج أبو ناصر يجلس على كرسي بلاستيكي أمام خيمة نصبت فوق أنقاض منزله. أحفاده يلعبون حوله بصمت. سأل أحدهم: "جدي، لماذا أوقفوا الحرب على إيران بسرعة ونحن لا؟". تنهد الرجل وقال: "لأننا لسنا مهمين.. نحن ليس لدينا إلا الله".
صرخات منسية
في خيمة صغيرة قرب مدرسة تأوي نازحين من حيّ الزيتون، جلست أم محمد نايف تلفّ رغيفًا صغيرًا بكمية قليلة من الزعتر. كانت تحاول تقنع أولادها إنه "كل شيء تمام"، رغم عدم هدوء القصف منذ البارحة.
قالت بصوت مخنوق: "يعني والله لما سمعت إنه إسرائيل وإيران وقفوا الحرب، قلت لحالي: طيب ونحن؟ أليس نحن بشر؟ منذ عشرين شهر لا نجد يوم واحد ننام فيه على هدوء!"
وتابعت: "يعني الصراحة، حاسة إنه نحن فقط ساحة دم، لا أحد يسمع وجعنا. لا في وقف نار، ولا في مفاوضات إلها معنى. كل الذي يحصل حوالنا يظهر أننا لسنا موجودين بحسابات أحد."
وإلى الجنوب من قطاع غزة، وقف يزن الطويل، وهو شاب من خانيونس، أمام بوابة أحد مراكز الإيواء، يقلّب في هاتفه القديم يتابع الأخبار. سألناه عن رأيه، ضحك وقال: "يعني بصراحة؟ أول ما سمعت عن اتفاق وقف النار بين إسرائيل وإيران، حسّيت حالي مش من هالكوكب. الدنيا كلها شغّالة عالحرب بين دولتين كبار، وخلصوها بسرعة، وإحنا صرنا رقم منسي".
وأضاف وهو يشير بإيده للخراب من حوله: "يعني شوف غزة، بيوت مهدمة، ناس نايمة بالعراء، وكل يوم شهداء. طب ليش هذا الاتفاق ما بيوصل لهون؟ ليش دايمًا إحنا الاستثناء؟"
وقال بصوت حاد: "لو كان في عدل، كانوا وقّفوا حرب غزة من زمان. بس الظاهر إنه دمانا أرخص، ومحدا فارقة معه إلا بس تطلع صورة تهزهم شوي". وختم: "بدنا وقف حقيقي، مش كلام جرائد. بدنا حد يسمع صرختنا، مش يمرقها مرور الكرام".
أما هدى نعيم، طفلة (9 سنوات) من حيّ الشجاعية، تختبئ كل يوم عند القصف تحت طاولة في مخيم الإيواء، الذي نزحت إليه بعد تدمير منزلهم. تعشق الرسم، لكنه لم يعد هناك ورق في غزة، يغطي حدود شغفها، وسط الحصار وإغلاق المعابر.
قالت بصوت خجول: "رسمت علم غزة كبير، وحطيت جنبه كلمة سلام.. قلت يمكن يخلص القصف. بس ما خلص. لسه بنسمع الطيارة، ولما أمي تقول نركض، بركض من غير ما أسأل ليش."
سألتها: "بتعرفي شو يعني وقف إطلاق نار؟". فأجابت: "يعني ما في صوت موت.. يعني بقدر أنام وما أخاف. يعني أروح عالمدرسة، مش عالمستشفى."
وبصوتها الطفولي تساءلت: "ليش بس إيران وإسرائيل بيوقفوا، وإحنا لأ؟ يعني إحنا مو مهمين؟ أنا ما بدي شي، بس بدي نهار واحد نضحك فيه كلنا." وختمت: "بدي أخوي يرجع من المستشفى.. وبس."
مفاوضات جامدة
وتتواصل المبادرات الدولية لوقف الحرب في غزة. قدّم الوسيط الأمريكي لدونالد ترامب خطة لهدنة لمدة 60 يومًا تشمل الإفراج عن 10 أسرى إسرائيليين مقابل أكثر من 1,100 فلسطيني، مع ضغوط إفريقية وأوروبية لتوسيع الهدنة لتشمل إخراج القوات وانسحابها الجزئي.
المفاوضات جارية منذ أشهر: وفي مارس 2025، انتهى وقف لمدة شهرين (19 يناير – 18 مارس)، وتصاعدت بعدها الاشتباكات، حتى مصر وقطر قدّمتا مقترحًا جديدًا، قبل موافقة إسرائيل المبدئية وقتها، وتعديلات من قبل حماس .
الآن، يتوسط ممثل ترامب "ستيف ويتكوف"، بينما ترفض إسرائيل بعض التعديلات التي تقدمت بها حماس، وتصر على عدم إنهاء الحصار الكامل، أو تحقيق انسحاب فعلي للقوات من قطاع غزة.
في الوقت ذاته، استمر دعم قطر ومصر لمبادرات لاحقة، تضمنت توسيع الهدنة لتشمل محادثات سياسية طويلة الأمد، ومبادرات إعادة إعمار غزة المشروط بإحلال سلطة فلسطينية مدنية.
الانتقائية الدولية
من جهته، يتناول المحلل السياسي الفلسطيني الدكتور إياد جودة، التمييز الإسرائيلي الواضح بين سرعة وقف الصراع مع إيران وبطء التعامل مع الحرب على غزة، ويقول: "إسرائيل بتستخدم الجوع كسلاح رئيسي ضد غزّة، وبتنفّذه بطريقة ممنهجة كضربة ضغط مستمرة، مش قصف مؤقت".
وفي تصريح لـ«عُمان»، يواصل جودة تحليلاته، مؤكدًا على البنية الانتقائية للإجراءات الدولية: "وقف الحرب مع إيران حصل خلال أسبوعين، لأن الطائرات والقوى العظمى شاركت بالحسابات. أما غزة فمكتوب عليها الجوع، والتجويع سياسة، وما في مقاومة فعالة توقفها".
ويشير جودة إلى أن إسرائيل تماطل في مفاوضات وقف إطلاق النار المنشود لعدة أسباب: "في مفاوضات متعسّرة حول المرحلة الثانية من الهدنة، فيها إجراءات مصرية وأمريكية، لكن نتائجها بطيئة لأن إسرائيل تختار التمديد لتحقيق غاياتها السياسية الداخلية – كـاستغلال ملف الجنود الأسرى".
ويختتم جودة تحليله بتسليط الضوء على عامل الضغط الدولي: "لو العالم ذاته اللي وقف حرب إيران–إسرائيل وقف هجوم غزّة، كان ممكن نوصّل لهدنة شاملة بوقف الحصار، وبدء بناء غزة. لكن الرد الفوري على إيران أثبت إنه ما في إرادة حقيقية لإنقاذ غزة".
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
روسيا: إسرائيل عادت للتركيز على غزة بعد وقف إطلاق النار مع إيران
قال ممثل روسيا في مجلس الأمن الدولي فاسيلي نيبينزيا، اليوم الاثنين أن إسرائيل عادت للتركيز على قطاع غزة بعد وقف الحرب الإيرانية الإسرائيلية.
وأضاف المندوب الروسي خلال جلسة مجلس الأمن الدولي بشأن الأوضاع في الشرق الأوسط بما فيها القضية الفلسطينية أنه "للأسف لا يمكننا أن ننتظر أن يتوقف فزعنا قريبا، فالجيش الإسرائيلي عاد للتركيز على قطاع غزة بعد وقف إطلاق النار مع إيران".
وأكد ممثل روسيا، أن إسرائيل تتصرف بتجاهل للآثار الإنسانية الكارثية في قطاع غزة، فحوالي 55 ألف فلسطيني ماتوا و120 ألف أصيبوا، إضافة إلى أن قطاع غزة تدمر بالكامل تقريبا و80% من أرضه أصبحت محظورة على الفلسطينيين، و470 عاملا إنسانيا قتلوا منهم 320 من موظفي الأمم المتحدة.
ويواصل جيش الاحتلال الإسرائيلي عدوانه على قطاع غزة منذ 7 أكتوبر 2023 ما تسبب في استشهاد وإصابة عشرات الآلاف من الفلسطينيين.