تأسيس تحت القصف: من خطاب المظلومية لتحمل المسؤولية
تاريخ النشر: 8th, July 2025 GMT
تأسيس تحت القصف: من خطاب المظلومية لتحمل المسؤولية
خالد فضل
معظم المبادئ الواردة في ميثاق “تأسيس” تدور، بصورة أو بأخرى، في أدبيات كل القوى المدنية الديمقراطية وحركات الكفاح المسلح في جنوب وشرق وغرب البلاد. كما وردت ضمن مبادئ إعلان أسمرا المشهور عام 1995م، وهو المشروع الذي تبنته قوى التجمع الوطني الديمقراطي حينذاك.
هناك بعض النقاط التي وردت بصيغة واضحة وصريحة، مثل النص على علمانية وفيدرالية الدولة، ووضع مبادئ فوق دستورية غير خاضعة للتعديل، وربط تحقيق مشروع “التأسيس” بحق تقرير المصير للشعوب السودانية. تلك ميزة للمشروع؛ فالوحدة الطوعية هي الأساس لبناء الدولة الوطنية.
الناظر لهذا الميثاق بموضوعية يلمح فيه بارقة أمل أخيرة وخطوة نحو بناء عقد اجتماعي ظل مفقودًا منذ استقلال البلاد. هو صيغة لبحث إمكانية العيش المشترك طوعًا بقواسم المصالح المشتركة، فالسودان بصورته التي انهارت الآن لم ينتظم مواطنوه في عقد اجتماعي أو مشروع وطني طوعي استوعبهم بعدالة وحرية، لذلك لم ينشأ مجتمع السلم والإخاء والحرية والمساواة، بل تعمّقت الفجوات، وتآكل هيكل الدولة بفضل الانحيازات والفساد والمحسوبية. أصبحت الدولة في نظر كثير من الشعب عبارة عن مركز خبيث، يخضع للابتزاز، وينسج المؤامرات من أجل استدامة نفوذ وهيمنة جهات محددة وعرقيات معينة، فنشأ خطاب مظلومية شامل في معظم أرجاء البلاد عوضًا عن مشروعات تنموية عملاقة تنهض بحياة الناس. لذلك ليس بغريب أبدًا سيادة وعلو خطاب الكراهية وممارستها في أتون هذه الحرب. لقد كشفت الحرب الشاملة التي ضربت المركز لأول مرة عن هشاشة الاجتماع البشري في السودان، فكانت الجهوية والعنصرية والقبلية هي الملاذات التي لجأ إليها الناس وقت الضيق، ولم يظهر ما تبقى من مؤسسات الدولة إلا كجزء من هذه المنظومات الاجتماعية الأضيق من الرحابة المفترضة في الدولة، ولا غرو أن يؤسس الجيش ويرعى الميليشيات القبلية والمناطقية والعقائدية. وتتخذ كثير من الإجراءات والقرارات وتطبيقها بمفهوم التجزئة والتقسيم، كما حدث في امتحانات الشهادة الثانوية وتبديل العملة وغيرها من إجراءات خاصة ببعض مناطق السودان واستبعاد مناطق واسعة منه. وتحاكم المحاكم بعض المواطنين بتهم التعاون مع الدعم السريع، الذي كان حتى صبيحة 15 أبريل جزءًا من المنظومة العسكرية/الأمنية لنفس الدولة. فرار المواطنين باتجاهين متعاكسين عند تقدم قوات الجيش وميليشياته أو الدعم السريع وميليشياته كذلك يعكس نظرة المجتمعات للقوات المتحاربة كونها تنحاز جهويًا أو عرقيًا، فكيف كانت هاتان القوتان تشكلان قوام المؤسسة العسكرية الوطنية المفترضة حسبما كان يصرح قادة الدولة المعطوبة وقيادات الجيش الوطني المزعوم؟ لقد كشفت الحرب هذه الأوهام وعرف المواطنون السودانيون طبيعة الدولة التي جثمت على صدورهم منذ الاستقلال.
بناء الدولة على أسس الفيدرالية الحقيقية التي تُمكِّن كل إقليم من التعبير عن مكوناته الاجتماعية، والاستفادة من موارده بنظرية التكامل لا التشاكس، وبمفهوم تبادل المصالح لا نهب الموارد، بحيث تصبح العاصمة مركزًا فعليًا لرمزية السيادة الوطنية والتنسيق ليس إلا. هذا النمط من شأنه فك الاحتقان الناجم عن السيطرة المركزية، والتي ظلت مفاصلها الرئيسية محتكرة بين مجموعات محددة جهويًا وعرقيًا وتنظيميًا، ولعل تجربة حكم الإسلاميين الطويلة قد عرّت تمامًا أسس منظومة الهيمنة التي سادت البلاد. وكشفت عن النوازع العنصرية والجهوية في بنية الدولة وانحيازاتها الدونية. لذلك يكتسب مشروع “التأسيس” موضوعيته في مخاطبة تلك الأخطاء بوضوح شديد وصراحة، وجعل طبيعة الدولة شرطًا لتأسيسها.
إن التحدي أمام تحالف “التأسيس” يكمن في تحمل المسؤولية بقدر ما حددتها النصوص. بمعنى أن يكون للهدف المنصوص عليه مقابله المادي المشهود؛ تلك هي أرضية الاختبار الحقيقي، وليس المظهر الشكلاني بكون حميدتي رئيسًا والحلو نائبًا وفلان وزيرًا وذاك ناطقًا رسميًا. خلفية القوى الموقعة على الميثاق والشخصيات السياسية والفكرية والمهنية التي شاركت في إعداده، والتي تمثل وجهات نظر مختلفة وتباينات إثنية وجهوية وقبلية تمثل في الحقيقة عنصر قوة لهذه الأطروحة، فالأصل في السودان هو التعددية بمختلف أشكالها، والغائب دومًا هو كيفية إدارة هذه التعددية بحنكة وحصافة. إن التوق لبناء دولة حقيقية يمتلكها السودانيون بمختلف تعددياتهم تبدأ من قراهم وفُرقانهم وأحياءهم في المدينة، هذه الدولة الحلم هي محط الأمل والرجاء، إذ أنها تبدد هواجس التهميش وخطاب المظلومية بتطبيق الفيدرالية الحقيقية في دولة ديمقراطية.
أعلم أن مهمة تأسيس الدولة المرجوة هو واجب جميع من يؤمن بضرورة التغيير وينشده، ووجود أكبر إجماع وطني ممكن هو السبيل لبلوغ الهدف، وأرجو أن يكون واضحًا أن الإنسان الفرد هو الغاية من كل هذا النضال والسعي لبناء الدولة. لذلك تتضاعف مسؤولية “التأسيسيين” في تقديم نموذج جيد لما يقولونه في المكتوب، ففي ذلك حافز للمترددين والمتحفظين، كما أنه يزعزع من مواقف الرافضين ويضعفها. فهل ينجح “تأسيس” في هذا الاختبار أم يكون تكرارًا لسيناريوهات عديدة جُرّبت وفشلت، وبالتالي يندثر هذا البلد ويصبح (كان اسمه السودان) لا سمح الله، وتغلب عوامل التفكك والتفتيت ويرتد الناس إلى عصر السلطنات والدويلات والمشائخ والمكوك؟
الوسوماجماع وطني تأسيس تحت القصف تحمل المسؤولية سناريوهات من خطاب المظلومية هالد فضلالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: اجماع وطني تحمل المسؤولية سناريوهات
إقرأ أيضاً:
إمارة الخليل وتدهور المسؤولية الوطنية
تحت عنوان "مبادرة لصنع السلام"، نشرت صحيفة وول ستريت جورنال الأمريكية، بيانا ورسالة من أربع أشخاص من آل الجعبري في مدينة الخليل، على رأسهم المدعو وديع الجعبري، يطالبون فيه الانسحاب من السلطة الفلسطينية مع التعهد بأن تكون المدينة نواة للسلام، والاعتراف بإسرائيل كدولة يهودية، وتحقيق ذلك من خلال انفصال المدينة وتسميتها بـ"إمارة الخليل" كتوطئة لانخراطها في ما يسمى "الاتفاقات الإبراهيمية".
الرسالة تحمل الكثير من عبارات دس السم بالعسل التي اعتاد عليها الفلسطينيون والعرب عموما خصوصا تلك المزدهرة في فترة التطبيع مع إسرائيل، وفي ذروة جرائم الحرب في غزة. فالقول إن اتفاق أوسلو أتى بسلطة فاسدة، وأن هناك حاجة لتفكير جديد، وأن عملية السلام القديمة قد فشلت، وأن حل الدولتين غير واقعي، كل ذلك وغيره يعرفه الشارع الفلسطيني، ومسؤولية هذا الفشل يعايشها من يتعرض لعدوان الاحتلال ومستوطنيه، ومن اختبر أوهام تصديق إسرائيل عن السلام مع دوسها على كل القانون الدولي.
الرد عل بيان الإمارة المزعومة، جاء من مدينة الخليل نفسها، ومن عشائرها ومن العائلة نفسها التي تبرأت منه ومن وقع عليه، وأعلنت بشكل واضح أنها مع فلسطين وفلسطينيتهم ومع الوحدة الوطنية وإقامة الدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس، وبأن من جاء ذكره في البيان المزعوم غير معروف في المدينة ولا يعيش فيها، وأن العشائر ملتزمة بالثوابت الوطنية والعربية والإسلامية وبحقوق أبناء شعبها في تقرير المصير وإقامة الدولة المستقلة.
اللافت في توقيت نشر مبادرة إنشاء "إمارة الخليل"، تبني المؤسسة الإسرائيلية الرسمية لصياغتها وتسريبها، لأنها تتفق مع الحديث الإسرائيلي الأمريكي عن الحل السياسي في المنطقة، بعيدا عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بعد الانتهاء من إتمام جرائم الإبادة في غزة، والقضاء على واقعية حل الدولتين من خلال عملية الضم والاستيطان والتهويد
اللافت في توقيت نشر مبادرة إنشاء "إمارة الخليل"، تبني المؤسسة الإسرائيلية الرسمية لصياغتها وتسريبها، لأنها تتفق مع الحديث الإسرائيلي الأمريكي عن الحل السياسي في المنطقة، بعيدا عن الحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بعد الانتهاء من إتمام جرائم الإبادة في غزة، والقضاء على واقعية حل الدولتين من خلال عملية الضم والاستيطان والتهويد، لذلك تُذكّر المبادرة مجددا بفكرة مشروع "روابط القرى" الذي فشلت إسرائيل في فرضه عام 1976، وفي نفس المدينة بالاتفاق مع رئيس بلديتها آنذاك محمد علي الجعبري والحاكم العسكري الإسرائيلي إيغال كرمون، وهي تعتمد أساسا على تجربة الاحتلال البريطاني لفلسطين لتحقيق أهداف الاحتلال في تفتيت وحدة المجتمع الفلسطيني، وإثارة النعرات الطائفية والعشائرية بين مكوناته، ولنزع أي صفة وطنية عن مطالب وحقوق الشعب الفلسطيني
رد الفعل التلقائي على مثل هذه الدعوات والمحاولات، لم يكن للأسف سباقا في كل مرحلة تمر بها القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني، واليوم، في ظل العدوان الشامل ووطأة جرائم الإبادة الجماعية، وتصاعد عدوان المستوطنين، لم تستطع السلطة الفلسطينية التقاط جوهر المأزق الذي تمر فيه، فعطلت كل الجهود والدعوات والمطالبات باستعادة دور وفاعلية منظمة التحرير الفلسطينية ومؤسساتها، وإصلاحها الذي يشكل صمام الأمان لعدم الانزلاق أكثر في حفرة الألاعيب الإسرائيلية الأمريكية.
فاستراتيجية المهادنة والصمت والعجز أمام كل ما يجري، يصب في طاحونة تنازل مؤلم للمحتل يعمق نزيف الخسارة من الأرض والحقوق، ومخزٍ لسياسة فلسطينية رسمية تسمح بالنهاية للاحتلال برمي غطاء مزيف من العشيرة والمخترة، لإدارة حوار ونقاش يرتكز في أساس مقوماته على تبعية مطلقة له، وهو ما كانت تحذر منه قوى مختلفة في الساحة الفلسطينية لعقود طويلة، لكن لم يتم التعامل مع هذه التحذيرات بجدية، في ظل اعتماد سياسة الأمر الواقع كمبدأ للتعامل مع الحدث، وانتهاج طريق موازٍ يقود لنفس النتيجة التي أفرزت التوجه نحو إمارة الخليل أو الاعتماد على عصابات وتشبيح للسيطرة على الشارع.
بغض النظر عن واقعية ما طُرح في بيان عشائر الخليل، وقبلها التشكيك في استمرار ظاهرة عصابة ياسر أبو شباب في غزة، إلا أن الظاهرتين هما مفرز "طبيعي" للمرحلة الإسرائيلية المتغطرسة، ومحاولاتها الخطيرة في ضرب النسيج المجتمعي الفلسطيني بالاعتماد على طفيليات عميلة يدفعها الاحتلال لتكون بُنى صاعدة. وبالتالي هذه الظاهرة تعبير عن تأزم مرحلة السلطة الفلسطينية في ظل العدوان والجرائم الإسرائيلية، وما يُستنتج من كل ذلك ليس بحاجة لإبراز الدور الإسرائيلي فيه، بقدر السؤال عن الدور والمسؤولية المفترضة لسياسة فلسطينية تعفي نفسها من تحمل هذا الدور وتستمر في تعطيل وإحباط فتح طريق الخروج من أزمة استراتيجيتها المهادنة.
تدهور معنى المسؤولية الوطنية على الساحة الفلسطينية، ساهم في خلق مفرزات صهيونية تجعل من حديث استنكارها ورفضها، دون الوقوف والعمل الجاد والصحيح لتصويب الأمور، يعني أننا سنبقى في دائرة الأسى والارتباك والعجز
نعم هناك ظروف مختلفة عن حقبة روابط القرى في سبعينيات القرن الماضي، وظروف مغايرة الآن لخلق ظاهرة عصابة أبو شباب في غزة، لكن الثابت في كل زمن النضال الفلسطيني بعد النكبة عام 48، وبعد احتلال بقية فلسطين عام 67، وجريمة إبادة غزة اليوم، أن المسعى الصهيوني للقضاء على الكيان الفلسطيني مستمر بكل الأشكال، والمرحلة القادمة التي أسس لها خطاب نتنياهو وبقية ائتلافه الفاشي في غزة أن لا حكم لفتح وحماس في غزة، ولا قبول للسلطة في الضفة والقدس رغم كل ما أبدته من تنازلات وما أصابها من ضعف حتى في تبنيها لجزء من فقرات بيان الخليل المزعوم. وهذا لا يتطلب فقط نداءات عاجزة لمطالبة العدو بوقف عدوانه ولا شجب سياساته، فهذا شكل مهترئ في الدفاع عن قضية وطنية وعن شعب تحت الاحتلال بعد عقود من الفشل..
تدهور معنى المسؤولية الوطنية على الساحة الفلسطينية، ساهم في خلق مفرزات صهيونية تجعل من حديث استنكارها ورفضها، دون الوقوف والعمل الجاد والصحيح لتصويب الأمور، يعني أننا سنبقى في دائرة الأسى والارتباك والعجز، الذي يحاصر ويمنع سلسلة من مبادرات ونداءات الخلاص منها، وكل فعلٍ يحاول خلق تبدل في المشهد الفلسطيني الراهن تتم شيطنته وخنقه، خصوصا أن ثقافة وسلوك ونهج السلطة الفلسطينية غير معني مطلقا للانقلاب على مفاهيم رسّختها علاقتها مع المحتل، وبذلك يصبح من العسير عليها مهاجمة من ينافسها على هذا الدور ولو بشكل رمزي، إن كان في عصابة أبو شباب في غزة أو حركة الجعبري من الخليل، أو كل المحاولات المشابهة من تل أبيب، وهو ما يؤكد مرة أخرى وعاشرة أن مقاومة عدوان المحتل وسياساته، ووقف القفز عن حقوق الشعب الفلسطيني، بالتطبيع أو قبول العمل لديه كشرطي أو مختار أو زعيم عشيرة، له طريق واضح بالعودة للشارع والشعب، وبإطلاق سراح منظمة التحرير لتعود لشعبها ودورها في أن تكون حركة تحرر وطني وفاعلة، خصوصا أن تجربة مناصب شيخ العشيرة والقرية وزعيم السلطة والحي لها رب عمل واحد في تل أبيب، والحركة الوطنية لها شعب ومنظمة وفصائل مكبلة ممن جرب وقاد انحدارها.
x.com/nizar_sahli