تعيش قارة أوروبا لحظة تاريخية مفصلية تجد نفسها فيها أمام مفترق طرق خاصة مع تراجع الالتزام الأمريكي التقليدي تجاه «الحليف» الاستراتيجي؛ فهل تملك أوروبا مقومات الاستقلال الجيوسياسي أم ستظل مرتبطة بمظلة أمريكية تتآكل؟ لا تتوقف فرضية الإجابة على هذا السؤال على الخطط الدفاعية أو المؤشرات الاقتصادية، ولكن الأمر يتعلق بشكل أساسي باستعادة التوازن بين القوة والمبدأ.

زعزعت سياسات أمريكا ترامب الثقة بالتحالفات الأمنية والتجارية القائمة مع أوروبا، ولكنها فتحت مجالا لتحرك أوروبي أكثر استقلالا تمثل في رفع الإنفاق الدفاعي، وتأسيس أدوات تمويل مشترك، وتطوير مشاريع كـ«إعادة تسليح أوروبا»، وهي جميعها مؤشرات على رغبة أوروبية في سد الفراغ الذي تركته واشنطن.

لكن التحدي الحقيقي الذي على أوروبا أن تواجهه لا يتمثل في بناء قدرة ردع ذاتية، ولكن أيضا في الحفاظ على المرجعية الأخلاقية التي طالما ادعت أوروبا أنها تمثلها. لقد رافقت التحولات الجيوسياسية تحولات داخلية ومؤثرة في أوروبا في مقدمتها صعود الشعبوية، وسياسات الهجرة المتشددة، وميول متزايدة نحو تقييد الحريات العامة باسم الأمن الوطني. وهذا الانفصال بين الخطاب القيمي، الذي تدعيه أوروبا، وبين الممارسة الواقعية يهدد بتقويض شرعية أوروبا أمام الدولية، مهما كانت قوتها الاقتصادية أو العسكرية.

بهذا المعنى تبدو الحاجة ماسة إلى مراجعة حكيمة تناقش سؤالًا ألا هو: هل تستطيع أوروبا أن توازن بين تعزيز سيادتها، وتعميق انتمائها للقيم الليبرالية التي أسست نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية؟ فأن تصبح قوة عالمية دون الاحتفاظ بالمبادئ التي منحتها هذا الدور، هو مسار محفوف بالمخاطر داخليا وخارجيا.

هذه التحولات الأوروبية لا تقع بمعزل عن محيطها الجغرافي والسياسي -خصوصًا في جوارها العربي- وهذا مبرر كاف ليطرح العرب على أنفسهم سؤالا حول الدروس المستفادة من سعي أوروبا لإعادة تعريف ذاتها.

إن أول الدروس التي على العالم العربي التنبه لها تتمثل في خطر الاعتماد المفرط على الحماية الخارجية أيا كان مصدرها؛ فهي خيار هش لا يصمد كثيرا خاصة أمام تحولات المزاج الدولي. إضافة إلى ذلك فإن على العالم العربي أن يعي تماما في هذه اللحظة التي تشهد تحولات جوهرية وبنيوية في العالم أنه رغم مركزية القوة الصلبة؛ فإن الشرعية الدولية تقوم أيضًا على التماسك الداخلي، والالتزام المؤسسي، وتبنى على التماسك الداخلي، والالتزام بالمبادئ الإنسانية مع الداخل قبل الخارج. أما الدرس الأهم الذي على العالم العربي التنبه له فيتمثل في أهمية توظيف هذه اللحظات التي تفتح فيها القوى الكبرى ملفات إعادة الترتيب الاستراتيجي. فهي غالبا ما تكون سانحة للقوى الإقليمية؛ لتعيد فيها بناء قدراتها الذاتية، وهذا ما يحتاج إلى قراءة السياق بشكل عميق، والاستثمار فيه بعيدا عن ممارسة دور المشاهدة السلبية.

لا يمكن أخذ التجربة الأوروبية باعتبارها وصفة جاهزة، ولكنها حالة اختبار عالمية لما تعنيه «القيادة» في القرن الحادي والعشرين. وعلى العالم العربي أن يقرأ هذه التجربة وتحولاتها جيدا وعميقا، ويستثمر هذه المرحلة لإعادة تنظيم أولوياته، وبناء قدرة ذاتية مستدامة لمعالجة تحدياته البنيوية، والخروج من حالة التشكل العالمية الجديدة بقدرات ذاتية تتيح له مكانة في النظام الإقليمي والدولي يكون فيها قادرا على التأثير، والخروج من وضعه المأزوم على الدوام.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: على العالم العربی

إقرأ أيضاً:

الغويل: النائب العام حافظ على استقلال القضاء ومنعه من الغرق  

قال سلامة الغويل، المرشح لرئاسة الحكومة، إن في ليبيا اليوم، وفي ظل ما تعيشه من بقايا دولة متقطعة الأوصال، ومنقسمة في مؤسساتها كافة تقريبًا، يظل مكتب النائب العام هو المعقل الأخير الذي ما زال يقف على قدميه، محافظًا على هيبة الدولة، وعلى الحد الأدنى من وحدتها القانونية والمؤسساتية.

أضاف في تدوينة بفيسبوك قائلًا “الجميع يعرف — من السياسيين، إلى الخبراء والمتابعين — أن النائب العام، بفضل حكمته وكفاءته واستقلاليته وانفتاحه على كل الأطراف دون انزلاق في الاستقطاب السياسي، استطاع أن يحافظ على استقلال القضاء، ويمنعه من الغرق في لعبة الاصطفافات”.

وتابع قائلًا “لقد نجح في توحيد المؤسسات القضائية، ومواكبة القوانين مع واقع البلاد، وتحريك ملفات لم يكن أحد يجرؤ على الاقتراب منها. وقد أثبت، في كل مرحلة حرجة، أن القضاء ليس مجرد مرفق، بل ضامن لنجاة الدولة من الانهيار الكامل”.

وواصل قائلًا “لأن الجميع بدأ يدرك أن من الممكن أن تجتمع ليبيا على رجل واحد، فإن من امتهنوا الفساد والسيطرة لا يروق لهم أن يكون هذا الرجل قادمًا من سلك العدالة، لا من كواليس الصفقات”.

ورأى أن الهجوم على النائب العام، في هذا التوقيت بالذات، ليس بريئًا، بل هو محاولة لضرب آخر ما تبقى من مؤسسات قادرة على المحاسبة، وقادرة على الحفاظ على ليبيا واحدة.

مقالات مشابهة

  • دافيدي نجل أنشيلوتي مدربا للفريق الذي هزم بطل أوروبا بمونديال الأندية
  • أماكن العبادة والطّقوس والحماية الأمنيّة في العالم العربي
  • موجات الحر في أوروبا.. الشرارة الخفية التي تُشعل أزمة اقتصادية مدوية!
  • غريك ستي تايمز: زيارة وزير الخارجية اليوناني إلى بنغازي تبرز دور حفتر المتصاعد في المشهد الدولي
  • حرائق سوريا وفيضانات تكساس وموجات أوروبا الحارة.. ما الذي يحدث للعالم الآن؟
  • الغويل: النائب العام حافظ على استقلال القضاء ومنعه من الغرق  
  • أنور قرقاش: ماذ يمنع العالم العربي من النهوض من الأزمات والحروب وأوهام الأيديولوجيا؟
  • الاولى في العالم: توصيات الرباط بموضوع الاقتراح الذي تقدم به لبنان بانشاء محكمة نموذجية للمحاكم العدلية العليا الفرنكوفونية
  • التقدم والاشتراكية يحذر من تداعيات الأوضاع الدولية التي باتت تتسم بالتوتر والاضطراب