قصص فلسطينيين اغتالتهم إسرائيل في متنفسات غزة
تاريخ النشر: 9th, July 2025 GMT
غزة- في مدينة الحرب وعلى شاطئها المحاصر، حبٌّ بلا قيود، حكاية كان بطلاها نسيم وخطيبته علا الناجيان من الإبادة حتى تلك اللحظة، واللذان هربا من دائرة النار إلى مقعدين بسيطين متلاصقين في مقهى شعبي على شاطئ بحر غزة، بحثا عن هواء لا تعبقه رائحة البارود، وعن صوت للحياة يعلو على هدير المدافع، يطلقان بصرهما بعيدا حيث الأفق، ويحلمان بالسفر بعد الحرب إلى بلاد بعيدة تتجاوز الحدود والحصار.
وبينما يهمس نسيم لعلا وهو يشدّ على كفها "لا حرب هنا.. لا شيء سوى الحب"، تبوح هي بخوفها من فقدٍ جديد لا يحتمله قلبها، بعدما خطف الموتُ شقيقتها وأمها التي لم يتحقق حلمها بأن تراها عروسا، لكن الحرب أصرّت أن تُعزز شعور علا وخوفها، حيث قطعت الغارة حوارها عن هواجس الموت الذي انقضّ على آخر ما تعلّق به قلبها، وتقول "وقع الانفجار ولم يكن نسيم يبعدُ عني سوى خطوة واحدة".
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 225 منظمة حقوقية تدعو غينيا لكشف مصير ناشطَين اختطفا قبل عامlist 2 of 2العفو الدولية تندّد بالترهيب والتضييق على الحريات في غينياend of listوتتابع روايتها للجزيرة نت "نظرتُ إلى رأسه أولا وتأكدت أنه سليم فاطمأننت، فأنا أعلم أن إصابات الرأس قاتلة، ظننت أنه بخير وطلبت من المسعف أخذه أولا، وما إن رفعوه حتى تدفّق الدم من ظهره المفتّت، قلت له: نسيم، ابق بخير أمانة يا حبيبي".
تلاحقهم المجازر
لم تكن علا تعلم أن هذا آخر عهدها بشريك عمرها، وأن نظراتها إليه ستكون الأخيرة، والتفتت إلى قدمها النازفة وأوتارها المقطعة، ليحملها المسعفون إلى المشفى، وهناك، لم تتوقف عن السؤال عن خطيبها نسيم الذي كان قد استشهد، لكنّ عائلتها أخفت عنها الخبر، الذي قرأته بعيون من كانوا يلتفون حولها بدموعهم ونظراتهم المشفقة، وتختم حديثها متسائلة: ماذا بيني وبين الموت حتى ينقضّ على كل كيان أجد معه سعادتي؟".
وبينما نسف الصاروخ الإسرائيلي قصة حب بين علا وخطيبها، لم يكن في حسبان الشابة منى جودة أن ترتقي على شاطئ البحر الذي أحبته وهرعت إليه من أذى الحرب وضجيجها، فلم يمر يومان على حديث منى (21 عاما) مع والدتها عن الشعور الذي وجدته أمام البحر بعد أن افتقدته منذ بداية الحرب، حين أخبرتها قائلة "وجدتُ راحة غريبة على البحر، سأتردد دوما إليه لأخفف من ضغط العمل".
وعلى غير العادة تأخرت منى التي انخرطت منذ مطلع الحرب بالعمل الإنساني ومساعدة الأيتام، وكانت قد طلبت من والدتها انتظارها لتناول طعام الغداء معا، وخلال ذلك مرّ على مسامع الأم خبر استهداف كافتيريا الباقة، فقادها انقباض قلبها للخروج من المنزل بحثا عنها.
إعلانتقول هالة -شقيقة منى- للجزيرة نت "أصرت أمي على الذهاب إلى مشفى الشفاء لتفقد المصابين، علّ منى تكون بينهم، فلم تجدها، ثم دخلت ثلاجات الموتى واصطدمت بجثمان رغد صديقة منى المقربة التي كانت برفقتها، وراحت تنادي "وينك يا ماما"، وبعد ساعتين من البحث المضني بين الإصابات والجثامين، تلقت اتصالا يفيد بأن منى مُسجّاة على أرض المشفى المعمداني، وأنها شهيدة".
"كأنها كانت تودعنا"، تضيف هالة والدموع تخنقها، وتتابع عن اللحظات التي سبقت استشهادها، حيث "أصرت منى على ارتداء ملابس بيضاء، وعانقت الجميع بلا سبب، حتى في العمل كانت كعصفورة تطير بين رفيقاتها كأنها تتجهز لحفل كبير".
ورفضت منى -تواصل هالة- السفر رغم إتاحة الفرصة لذلك، وأصرَّت على البقاء مع والديها بغزة، وباختيارها رفضت تركهم لوحدهم، لكن الحرب أبعدتها عنهم قسرا للأبد.
وبينما هرعت منى إلى البحر بحثا عما يخفف عنها إرهاق العمل، فإن عددا كبيرا من العاملين عن بُعد والصحفيين المستقلين يجدون فيه مساحة بديلة للعمل، خاصة بعدما جفّت منافذهم مع انقطاع والاتصال والإنترنت والكهرباء والنزوح المتكرر، إذ وفَّرت هذه ما يحفزهم على اللجوء إليها من إنترنت، وكهرباء للشحن، وفنجان قهوة يعيد إليهم -رغم ثمنه المرتفع- ذاكرة ما قبل الحرب.
وفي كافتيريا الباقة، حيث ارتكب الاحتلال مجزرة قبل أيام، جلس الصحفي وديع أبو سعود، مراسل قناة اليمن الفضائية في شمال غزة، لا ليهرب من مهمته، بل ليؤدّيها، ويقول للجزيرة نت إنهم يرتادون هذه الأماكن للحصول على الإنترنت لنقل موادهم الصحفية عبر الشرائح الإلكترونية التي يتطلب تشغيلها وجودهم غربا نحو الميناء، أو صعودهم لأماكن مرتفعة، ويضيف "لكن كل علوّ صار يقابله صاروخ، فبتنا نلجأ للمقاهي للعمل".
ولم تشكل هذه المقاهي للصحفيين نقطة اتصال فقط، بل مهربا مؤقتا من التغطية الدامية لمشاهد الدم والمجازر اليومية.
وأصيب أبو سعود بتلك المجزرة، ويقول "وجدت الأرض مفروشة بأشلاء الشهداء، بينهم أطفال ونساء، وزملاء وأصدقاء أعرفهم بالاسم والملامح"، ويختم "من بين مجازر كثيرة شهدتها خلال الحرب، كانت هذه مختلفة، لأنني كنت هناك لا لأغطي، بل لأتنفس، ولكن هذا يبدو محرّما علينا أيضا".
ولم تكن مجزرة "كافتيريا الباقة" استهدافا عابرا، بل جريمة محو جماعي قُتل فيها 33 إنسانا، لكل منهم قصة، ووجهة، وغاية، لم يكن أي منهم يتوقع أن مقعدا على الشاطئ سيكون موضع قدره ونهايته.
نسق متكرر من الاستهداف المتعمد لأي بقعة يتنفس عبرها الغزيون هواء غير الدخان والبارود، ويسمعون فيها شيئا مختلفا عن صوت الحرب، وينتزعون راحة مؤقتة من جحيمها.
كما لم تكن تلك المجزرة الأولى من نوعها، فقد سبقتها عدة استهدافات مشابهة لمقاهٍ واستراحات شعبية في شمال القطاع وجنوبه.
مع سبق الإصرار
وفي حين نجا وديع من موت محقق في كافتيريا الباقة، لم ينج الصحفي يحيى صبيح من استهداف مقهى التايلندي الذي راح ضحيته 39 شهيدا، وكان واحدا منهم، حيث تنقل بين المقاهي بحثا عن زاوية يؤدي فيها مهامه الصحفية كمتعاون مع منصات ومواقع إخبارية.
إعلانوقابلت الجزيرة نت أمل زوجة الشهيد يحيى، التي كانت تبوح له بخوفها عليه في كل مرة يخرج بها من المنزل، خاصة مع تعمد الاحتلال استهداف الصحفيين، وقد كانت محاولاتها لمنعه تبوء بالفشل، فيجيبها "دعيني أمت مع الناس، حاملا وجعهم، هذا أهون من أن أموت وحدي صامتا".
وتقول أمل "كنتُ أستعطفه بحملي جنينا، فيقول لي إذا بقيت حيا فسأكون سندهم، وإذا استشهدت فسيكونون سندك".
وضعت أمل طفلتها، وبعد 5 ساعات فقط اصطحب يحيى رفاقه لزاويته في المقهى ذاته، ليقدم لهم حلوى بمناسبة سلامة زوجته، ليرتقي معهم جميعا، وليتحول يوم ميلاد الطفلة ليوم عزاء لوالدها الذي لن تسمع صوته.
أيام قليلة فصلت بين مجزرتي الباقة والتايلندي، سبقتها مجازر أخرى استهدفت بشكل مباشر مقاهي شعبية راح ضحيتها العشرات، بعدما كانت هذه الأماكن بمثابة نوافذ ضوء لأهالي مدينة تخنقها الحرب، لكن الاحتلال لم يتركها خارج بنك أهدافه، زاعما وجود "مطلوبين" داخلها، الأمر الذي ينفيه الناجون من هذه المجازر ويؤكدون أن عائلات من سيدات وأطفال ومدنيين هم من يرتادونها.
كما يستهجن الغزيون ذلك متسائلين "إن كانت مزاعم الاحتلال صحيحة فلماذا يصر على استهدافهم بين الجموع؟" ويجيبون أنفسهم بأن إسرائيل تصر على وأد كل محاولة بسيطة يسعون عبرها لإيجاد متنفس من الموت، والخوف، والوجع، فتقتلهم فيها عن سبق إصرار وترصد.
المصدر: الجزيرة
إقرأ أيضاً:
“اليد التي حركت العالم من أجل غزة.. كيف أعاد اليمن كتابة قواعد الحرب البحرية بعد الطوفان؟”
يمانيون|تقرير|محسن علي
عندما انطلقت عملية “طوفان الأقصى” في 7 أكتوبر 2023، لم يكن أحد يتوقع أن تمتد ساحة المواجهة المباشرة آلاف الكيلومترات جنوباً لتصل إلى باب المندب, لكن بعد 24 يوماً فقط، في 31 أكتوبر 2023، أعلنت القوات المسلحة اليمنية في صنعاء دخولها رسمياً في المعركة “إسناداً للمقاومة الفلسطينية في غزة”, كان هذا الإعلان بمثابة نقطة تحول استراتيجية، حوّلت الصراع من مواجهة محصورة في غزة إلى طوفان جديد امتد حتى أحد أهم ممرات التجارة الدولية,وعلى مدى عامين، أثبتت الجبهة اليمنية أنها الأكثر تأثيراً واستدامة في نصرة غزة، فارضةً معادلات جديدة على الكيان الصهيوني المجرم وحلفائه، ومقدمةً تضحيات جسيمة في سبيل هذا الموقف.
استراتيجية “اليد الطويلة”.. مراحل التصعيد اليمني
لم تكن العمليات اليمنية عشوائية، بل اتبعت استراتيجية تصعيدية مدروسة يمكن تقسيمها إلى أربع مراحل رئيسية:
المرحلة الأولى (أكتوبر – نوفمبر 2023): الضربات المباشرة
بدأت باستهداف مباشر لجنوب إسرائيل (إيلات) بالصواريخ والطائرات المسيرة، بهدف إعلان الموقف وإشغال الدفاعات الجوية الإسرائيلية وتركيعها في ظل تنامي القدرات العسكرية اليمنية بشكل أذهل العالم بأسره.
المرحلة الثانية (نوفمبر 2023 – فبراير 2024): حصار السفن الإسرائيلية
انتقلت صنعاء إلى مرحلة أكثر إيلاماً بالاستيلاء على سفينة “غالاكسي ليدر” وفرض حصار بحري على السفن المرتبطة بالكيان، مما شل حركة ميناء (أم الرشراش) ما يسميه العدو بـ إيلات بشكل شبه كامل.
المرحلة الثالثة (فبراير 2024 – حتى الآن): توسيع دائرة الاستهداف
رداً على العدوان الأمريكي-البريطاني، أعلنت صنعاء توسيع عملياتها لتشمل السفن الأمريكية والبريطانية، محولة البحر الأحمر إلى ساحة مواجهة مباشرة.
المرحلة الرابعة (مايو 2024 – حتى الآن): نحو المحيط الهندي والمتوسط
أعلنت صنعاء عن استهداف أي سفينة تتعامل مع الموانئ الإسرائيلية في أي مكان تطاله الأيدي اليمنية، بهدف إطباق الحصار
أبرز العمليات النوعية التي شكلت فارقاً
على مدى عامين، نفذت القوات اليمنية مئات العمليات، لكن بعضها كان له أثر استراتيجي بارز:
الاستيلاء على “غالاكسي ليدر” (19 نوفمبر 2023)
كانت هذه العملية بمثابة الصدمة الأولى التي أظهرت جدية التهديد اليمني وقدرته على تنفيذ عمليات معقدة وتحولت السفينة إلى “مزار سياحي” ورمز لقدرة اليمن على فرض سيادته البحرية.
إغراق السفينة البريطانية “روبيمار” (فبراير 2024)
شكل إغراق سفينة تجارية بريطانية بصواريخ بحرية تصعيداً خطيراً، وأثبت أن التحذيرات اليمنية ليست مجرد تهديدات، وأن تكلفة العدوان على اليمن ستكون باهظة.
استهداف حاملة الطائرات “أيزنهاور” (مايو ويونيو 2024)
لم يكن استهداف “أيزنهاور” مجرد عملية عسكرية، بل كان حدثاً استراتيجياً أعاد تعريف موازين القوى في المنطقة، وكشف حدود القوة العسكرية الأمريكية التقليدية في مواجهة التكتيكات الحديثة مع الفارق الكبير بين الطرفين, ورغم نفي واشنطن، أعلنت صنعاء استهداف حاملة الطائرات “دوايت أيزنهاور” بالعديد من العمليات المشتركة ، مما أجبرها في النهاية على الانسحاب من البحر الأحمر,و مثلت هذه العملية تحدياً غير مسبوق لهيبة البحرية الأمريكية ونجاح المعادلة التي فرضتها صنعاء: “لا أمن في البحر الأحمر بدون أمن في غزة”.
عمليات مشتركة مع المقاومة العراقية
أعلنت صنعاء عن تنفيذ العديد من العمليات المشتركة مع فصائل المقاومة في العراق لاستهداف موانئ حيفا وأهداف حيوية أخرى، مما يدل على مستوى عالٍ من التنسيق داخل محور المقاومة.
الكشف عن صواريخ فرط صوتية (فلسطين 2) وطائرات (يافا) المسيرة
في يوليو 2025، أعلنت صنعاء عن استهداف مطار بن غوريون بصاروخ “فلسطين 2” الباليستي الفرط صوتي، وهدف حساس في يافا المحتلة بواسطة طائرة (يافا) المسرة وهو ما يمثل قفزة نوعية في القدرات الصاروخية اليمنية وسلاح الجو المسير وقدرتهما على تجاوز أحدث منظومات الدفاعات الإسرائيلية والأمريكية على مستوى العالم.
تضحيات يمنية وفشل استراتيجي للخصوم
لم يأتِ الموقف اليمني بلا ثمن, فقد شنت الولايات المتحدة وبريطانيا مئات الغارات الجوية على الأراضي اليمنية، مما أدى إلى ارتقاء عشرات الشهداء وسقوط عدد من الجرحى من العسكريين والمدنيين والإعلاميين والسياسيين والذي كان آخرها استهداف رئيس مجلس حكومة البناء والتغييير وعدد من الوزراء في الجريمة الإرهابية الصهيونية بصنعاء خلال الأشهر الماضية, ورغم هذه التضحيات، لم تتراجع صنعاء عن موقفها، بل زادت من وتيرة عملياتها
في المقابل، يمثل استمرار العمليات اليمنية فشلاً استراتيجياً مدوياً للولايات المتحدة وإسرائيل فعلى الرغم من تشكيل تحالف “حارس الازدهار” وإنفاق مليارات الدولارات، فشلت القوات الأمريكية والبريطانية في تحقيق هدفها المعلن وهو “ضمان حرية الملاحة” للسفن الإسرائيلية, لقد عجزت أعتى القوات البحرية في العالم عن إيقاف الهجمات اليمنية أو اعتراضها بالكامل، مما كشف عن عجزها وأجبرت 5 حوامل الطائرات الأمريكية على الانسحاب من المنطقة بعد استهدافها بشكل متكرر.
خسائر إسرائيلية وأهمية الإسناد اليمني
كانت تداعيات الحصار اليمني كارثية على الاقتصاد الإسرائيلي، وتحديداً على ميناء إيلات الذي أُصيب بشلل تام وتوقفت فيه الحركة الملاحية بنسبة تقارب 100%، وتحول إلى مدينة أشباح اقتصادياً كما تكبدت إسرائيل خسائر غير مباشرة بمليارات الدولارات نتيجة اضطرار سفنها إلى سلوك طريق رأس الرجاء الصالح الأطول والأكثر تكلفة.
وهنا تبرز الأهمية الاستراتيجية لاستمرار الدعم اليمني؛ ففي ظل الحصار الخانق الذي يعانيه قطاع غزة، يمثل الحصار البحري الذي يفرضه اليمن ورقة الضغط الاقتصادية والعسكرية الوحيدة الفعالة والمستمرة ضد الكيان الإسرائيلي, إن استمرار اليمن في عملياته لا يمثل فقط دعماً لصمود غزة، بل هو عامل حاسم في موازين القوى، يرفع تكلفة العدوان على الكيان والقوات الغربية المساندة له، ويُبقي القضية الفلسطينية في صدارة الاهتمام العالمي.
عامان من الصمود والتأثير
بعد عامين من الانخراط المباشر والتضحيات الجسيمة، نجحت الجبهة اليمنية في تحقيق أهداف استراتيجية لا يمكن إنكارها, على رأسها فرض حصار اقتصادي فعال على الكيان المجرم, وأثبت اليمن أن التضامن الفعلي يتجاوز الكلمات ويتحقق بالأفعال والتضحيات ,وأن أمن البحر الأحمر مرتبط بشكل مباشر بإنهاء العدوان ورفع الحصار عن قطاع غزة، وهي المعادلة التي لا تزال قائمة بفضل صمود اليمن وتضحياته.