في حين تنشغل الأطراف الدولية برسم مستقبل قطاع غزة، تطرح إسرائيل تصورا جديدا لما أسمته "المدينة الإنسانية" بجنوب القطاع، وهو مشروع مزدوج لـ"اليوم التالي" يتجاوز الدلالات العسكرية والغذائية، ويستبطن تهجيرا قسريا محكما وتكتيكا تفاوضيا متطرفا في آن واحد.

الخطة التي أعلنها وزير الدفاع الإسرائيلي يسرائيل كاتس، وتقدر تكلفتها بنحو 6 مليارات دولار، تقوم على إنشاء منطقة محصورة على أنقاض مدينة رفح، يُدفع إليها نحو 600 ألف نازح قسرا، تحت غطاء فحوص أمنية صارمة، وداخل منطقة مغلقة لا يُسمح بمغادرتها إلا باتجاه البحر أو الأراضي المصرية.

وتسويق هذا المخطط بلغة "الإنسانية" يخفي خلفه بنية هندسية للتهجير، لا تقتصر على إدارة لحظة الحرب، بل تصوغ هندسة سياسية وديمغرافية لغزة ما بعد الحرب.

ومن وجهة نظر الدكتور مهند مصطفى، الخبير في الشأن الإسرائيلي، خلال مشاركته في برنامج "مسار الأحداث"، فإن الخريطة التي عرضتها تل أبيب خلال مفاوضات الدوحة ليست مجرد طرح فني، بل تمثل تصوّرا نهائيا للوجود الإسرائيلي في غزة.

ويقوم هذا التصور على السيطرة الكاملة على 40% من مساحة القطاع، مع توسيع المنطقة العازلة، واحتلال كامل لرفح، وصولا إلى فصل غزة عن مصر نهائيا، حيث يرى مصطفى أن إسرائيل تراهن على التهجير المتدرج كبديل للترحيل الجماعي، وعلى الزمن كعامل ترسيخ للواقع المفروض.

تصعيد تفاوضي

في السياق نفسه، يقرأ الدكتور لقاء مكي، الباحث الأول بمركز الجزيرة للدراسات، هذه الخطة باعتبارها تصعيدا تفاوضيا مقصودا، يهدف إلى رفع السقف إلى أقصى مدى، لفرض تنازلات لاحقة بوصفها "مكاسب" للطرف الفلسطيني.

ويضع توقيت إعلان الخطة -المتزامن مع زيارة نتنياهو إلى واشنطن- في إطار لعبة سياسية تهدف إلى الضغط على المفاوضات دون نية حقيقية لتنفيذ الخطة بكل تفاصيلها، خاصة في ظل صمت مصري مثير للقلق، رغم أن التهجير المزمع يتم على حدودها المباشرة.

إعلان

لكن الإشكال لا يكمن فقط في طبيعة الطرح، بل في البنية التي يقترحها، فالخطة، كما يشير الدكتور عثمان الصمادي، الباحث والناشط في العمل الإنساني، لا تحمل أي ملامح لمدينة حقيقية، حيث لا توجد فيها بنية تحتية، ولا مرافق صحية أو تعليمية، ولا حتى نظام إداري.

فما يُجهَّز في رفح، حسب الصمادي، هو مساحة مغلقة بأعلى كثافة سكانية يمكن تخيلها، أشبه ما تكون بمعسكر اعتقال، لا بمخيم لجوء أو منطقة عزل مؤقتة.

أكثر من ذلك، ترى الأوساط العسكرية الإسرائيلية نفسها في مأزق أمام هذا المشروع، إذ يعارض الجيش الخطة، كونها تُحمّله عبئا إداريا ومدنيا لا يستطيع تحمله، وتعيده إلى نمط الحكم العسكري المباشر كما كان قبل اتفاق أوسلو.

فالسيطرة على 700 ألف إنسان، وتأمين احتياجاتهم في منطقة محاصرة، يحوّل الجيش إلى شرطة احتلال مدني، وهو ما لا يريد خوضه، حسب تسريبات داخل الكابينيت نقلها ضيوف الحلقة.

تصفية ديموغرافية

وفي العمق، لا تكتفي الخطة بإعادة حشر الفلسطينيين داخل بقعة ضيقة، بل تُحاصرهم بلا أفق، فمن يُسمح له بدخول "المدينة" يخضع لفحص أمني صارم يستبعد كل من له صلة بالمقاومة، ما يعني عمليا فصل المجتمع عن أي روافع مقاومة مستقبلية.

وتحت شعارات "الفرز الأمني" و"الاحتواء الإنساني"، تبرز نوايا التصفية السياسية والديموغرافية بصورة تدريجية وممنهجة، والخطير في المشهد، كما يلاحظ الدكتور مصطفى، هو أن إسرائيل لا تعاني داخليا من ضغط سياسي كافٍ لوقف هذه الخطة.

فالمعارضة الفكرية داخل إسرائيل، رغم وجود أصوات بارزة مثل جدعون ليفي وسيفي براعيل، لا تمتلك تأثيرا سياسيا حقيقيا، في ظل غياب أي تبنٍ حزبي رسمي لمواقف تجرّم هذا التصور، رغم كونه يناقض جوهر دروس الهولوكوست التي ترفعها إسرائيل كعنوان أخلاقي دائم.

وفي المحيط العربي، لا تزال القاهرة -المعنية الأولى- غائبة عن التعليق، رغم أنها عضو أساسي في وساطة الدوحة، والمضيفة المفترضة لأي موجة تهجير محتملة.

وفي هذا السياق، يرى الدكتور مكي أن مجرد صمت مصر يُعد مساهمة غير مباشرة في تمرير الخطة، وتهديدا مباشرا لأمنها القومي، إذ لا مفر من أن أي تنفيذ حقيقي للخطة سيمر عبر معبر رفح.

على الضفة الأخرى من المشهد الدولي، صدرت بعض الإشارات من دول غربية تعارض الخطة، مثل بريطانيا، لكن دون خطوات عملية حقيقية، بل إن واشنطن -الشريك الأساسي في صياغة ما بعد الحرب- لا تزال تلتزم الصمت، أو تكتفي بالتلميح إلى دعم فكرة "الإدارة البديلة" لغزة، دون أن تتخذ موقفا حاسما من الخطة الإسرائيلية.

ظروف ذهبية

المقلق أن غياب الضغط الدولي الجدي قد يشجع إسرائيل على المُضي قدما، خاصة في ظل ظروف وصفها الصمادي بـ"الذهبية" للحكومة الإسرائيلية المتطرفة، فالدعم الأميركي، وانشغال العالم بأزمات متزامنة، والصمت العربي، تفتح جميعها شهية تل أبيب على الذهاب بعيدا، حتى في مشاريع مستحيلة التنفيذ.

غير أن المآلات ليست محسومة، إذ تراهن بعض القراءات على فشل المشروع بسبب كلفته الأخلاقية والإنسانية الهائلة، واصطدامه بتعقيدات دولية وإدارية وحقوقية يصعب تجاوزها.

إعلان

لكن مجرد طرحه بوصفه خيارا قابلا للنقاش، دون رد فعل إقليمي ودولي حازم، يعكس تحولا خطيرا حسب محللين، في طبيعة الصراع من إدارة حرب إلى صياغة "حل نهائي" جديد، بأساليب قديمة وأدوات أكثر قسوة.

وفي المحصلة، ليست "المدينة الإنسانية" إلا مرآة تعكس جوهر النوايا الإسرائيلية حيال غزة: خنق المقاومة، وتقليص الكتلة السكانية، وفرض وقائع ميدانية تُحول القطاع إلى سجن مفتوح بلا مستقبل.

أما مصير هذا المخطط، فسيتوقف حسب المشاركين في حلقة "مسار الأحداث" على مدى قدرة الفلسطينيين، والداعمين الحقيقيين لقضيتهم، على التصدي له قبل أن يصبح واقعا لا يمكن التراجع عنه.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات

إقرأ أيضاً:

الحديدة: مناقشة التداعيات الإنسانية للعدوان الإسرائيلي على المنشآت المدنية ودور المنظمات الدولية في دعم الجهود الإنسانية

الثورة نت / يحيى كرد

ناقش وزير الخارجية والمغتربين المهندس جمال عامر، ومعه وزير الأشغال العامة والنقل محمد عياش قحيم، ومحافظ الحديدة عبدالله عبدة عطيفي، اليوم  خلال لقائهما في مدينة الحديدة، بممثلي المنظمات الدولية العاملة بالمحافظة، تداعيات العدوان الإسرائيلي المستمر على المنشآت المدنية، والانتهاكات الجسيمة التي خلفها، إضافة إلى موقف المنظمات الإنسانية من تلك الاعتداءات، ومستوى استجابتها للاحتياجات الطارئة.

وفي اللقاء، الذي حضره وكلاء المحافظة أحمد مهدي البشري ومحمد حليصي، وعدد من مديري الجهات المعنية، استعرض وزير الخارجية والمغتربي حجم الأضرار التي لحقت بموانئ الحديدة والصليف ورأس عيسى، والتي تُعد شرياناً رئيسياً لوصول نحو 80% من احتياجات الشعب اليمني من الغذاء والدواء.
كما أشار إلى الاستهداف المباشر للبنية التحتية الحيوية كمرافق المياه والكهرباء، والتي تصنف دولياً كأعيان مدنية يُحظر استهدافها.

وأكد عامر أن محافظة الحديدة تعيش حالة طوارئ مستمرة بسبب استمرار العدوان الإسرائيلي والحصار المفروض، داعياً المنظمات الدولية إلى إعطاء المحافظة أولوية في الدعم، وتعزيز تدخلاتها في القطاعات الخدمية والإنسانية، بما يسهم في التخفيف من معاناة المواطنين.

وأشار إلى أهمية استمرار دعم مشاريع المياه والكهرباء والصحة، إلى جانب إعادة تأهيل ميناء الحديدة، باعتباره منفذاً أساسياً لتدفق المساعدات الإنسانية، مشدداً على ضرورة التزام المنظمات بالاستجابة السريعة لأي طارئ، سواء ناجم عن العدوان أو الكوارث الطبيعية كالأمطار والسيول.

كما جدد التأكيد على موقف اليمن الثابت الداعم للشعب الفلسطيني في غزة، بكل الوسائل المتاحة، بما في ذلك إغلاق البحر الأحمر أمام السفن المتجهة إلى موانئ الاحتلال الصهيوني حتى وقف العدوان ورفع الحصار عن غزة.

من جهته، أدان وزير الأشغال العامة والنقل محمد عياش قحيم استمرار العدوان الإسرائيلي على الموانئ والمنشآت المدنية، مؤكداً أن استهدافها يمثل انتهاكاً صارخاً للقوانين والأعراف الدولية. ودعا المنظمات الدولى إلى تحمل مسؤولياتها الإنسانية، من خلال   التحرك الجاد لوقف هذا العدوان السافر.

بدورة أكد محافظ الحديدة عبدالله عطيفي أن  استهداف العدو الصهيوني لموانئ الحديدة و محطة الكهرباء جريمة حرب وصمت الأمم المتحدة مدان

مشيرا الى هذا الموانئ توفير  80% من احتياجات الشعب اليمني من الغذاء والدواء. منوها الى  أن انسحاب المنظمات من الحديدة انسحاب سياسي لا علاقة له بعملها الإنساني وهي تنفذ السياسة الأمريكية والصهيونية

وشدد على ضرورة توسيع نطاق الدعم ليشمل الاستجابة للطوارئ، في ظل استمرار العدوان الإسرائيلي وتزايد المخاطر الناتجة عن الكوارث الطبيعية.

كما أعرب وكيل أول المحافظة أحمد مهدي البشري عن أسفه لغياب المواقف الواضحة من قبل المنظمات الدولية تجاه الاستهداف الإسرائيلي للأعيان المدنية، خصوصاً الموانئ ومحطات الكهرباء. ودعا إلى تسهيل تدفق المساعدات الإنسانية عبر ميناء الحديدة، باعتباره أحد أهم الممرات الحيوية لتلبية احتياجات ملايين المواطنين.

كما شدد على ضرورة استئناف دعم مستشفى جزيرة كمران بعد انسحاب منظمة إدرا، مؤكداً أهمية استمرارية دعم المنظمات لمختلف القطاعات الخدمية في المحافظة.

من جانبهم، أكد ممثلو المنظمات الدولية استمرار التزامهم بتقديم الدعم الإنساني لمحافظة الحديدة، رغم التحديات المتعلقة بضعف التمويل من المانحين، خصوصاً في قطاعات الصحة والمياه والطوارئ. وأشادوا بمستوى التعاون والتنسيق مع السلطة المحلية، الذي انعكس إيجاباً على تحسين استهداف المساعدات ووصولها إلى المستحقين.

وكان  مديرو الجهات المعنية، استعرضوا حجم الأضرار التي لحقت بالبنية التحتية في المحافظة، لا سيما في قطاعات الموانئ والكهرباء والمياه والصحة، إضافة إلى الانعكاسات الإنسانية الخطيرة الناتجة عن استمرار العدوان الإسرائيلي على هذه المرافق الحيوية.

مقالات مشابهة

  • المدينة الإنسانية في رفح... مشروع تهجير إسرائيلي يواجه رفضًا عربيًا شاملًا
  • سيُمنعون من المغادرة.. وزير دفاع إسرائيل يطلب تجهيز مدينة إنسانية للنازحين الفلسطينيين برفح
  • ‏القناة 14 الإسرائيلية: لقاء ثالث عُقِد بين الرئيس الأمريكي ورئيس الوزراء الإسرائيلي
  • إمارة المدينة المنورة تنظم الملتقى السنوي الخامس لإمارات المناطق والمبادرات التنموية
  • منظمات دولية تحذر من مشروع المدينة الإنسانية في غزة
  • “الأورومتوسطي”: “إسرائيل” تخطط لاحتجاز سكان غزة قسرًا في معسكر اعتقال برفح
  • الحديدة: مناقشة التداعيات الإنسانية للعدوان الإسرائيلي على المنشآت المدنية ودور المنظمات الدولية في دعم الجهود الإنسانية
  • الخارجية الإسرائيلية: نريد إيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة دون وصولها إلى حماس
  • رئيس بلدية غزة للجزيرة نت: إسرائيل تريد أن تكون المدينة غير قابلة للحياة