في قلب المجاعة التي تطبق على غزة، لم تعد الصور القادمة من هناك مجرد لقطات إخبارية، بل باتت وثائق دامغة لتاريخ إنساني يتشكل تحت أنقاض الحصار والحرب. أطفال نحيلون حتى التلاشي، وجوههم ذابلة، أضلاعهم بارزة، وعيونهم تسأل عن شيء من الحياة.

منذ شهور، كانت المؤشرات واضحة. طعام شحيح، قوافل الإغاثة تقصف، طوابير طويلة بانتظار وجبة لا تكفي، وتحذيرات دولية متكررة من مجاعة وشيكة.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2هآرتس: منظمة صهيونية كبرى تعترف بالإبادة في غزةlist 2 of 2مقال في هآرتس: إسرائيل تدمر نفسها بتجويع وقتل الآلاف في غزةend of list

واليوم، يحذر التصنيف المتكامل لمراحل الأمن الغذائي من أن غزة تشهد "أسوأ سيناريو للمجاعة"، إذ يعاني عشرات الآلاف من الأطفال من سوء تغذية حاد يهدد حياتهم. ويواجه نحو 500 ألف شخص خطر المجاعة في وقت تستمر فيه إسرائيل في منع دخول المساعدات الغذائية والحيوية إلى القطاع.

إسرائيل، في هذا السياق، ترتكب جريمة نادرة من نوعها في القرن الـ21، الذي شهد عددا من المجاعات أغلبها إثر صراعات عسكرية.

فلسطينيون يعانون من الجوع يصطفّون لتسلّم وجبات ساخنة في حي الزيتون بقطاع غزة (وكالة الأناضول)لا تحتاج إلى إعلان رسمي

في الثلاثاء، 29 يوليو/تموز الماضي، حذّرت منصة التصنيف المرحلي المتكامل للأمن الغذائي من أن "أسوأ سيناريو للمجاعة يحدث حاليا في غزة"، مرجحة وفيات واسعة النطاق في حال عدم التحرك لاتخاذ إجراءات فورية.

وتشير تقارير الأمم المتحدة إلى وجود 10 آلاف حالة سوء تغذية حاد لدى الأطفال منذ يناير/كانون الثاني 2025، بما في ذلك 1600 تتطلب رعاية فورية.

ورغم ورود تقارير عن عشرات الوفيات المرتبطة بالجوع منذ ما يقرب من عامين من الحرب والحصار الإسرائيلي على القطاع، لم تعلن المجاعة رسميا.

المنصة قالت إن غزة على شفا مجاعة، وتم بلوغ حدين من 3 حدود، و"لا يمكن إثبات المعيار الثالث للمجاعة، وهو الوفيات الناجمة عن سوء التغذية".

لكن أليكس دي وال، مؤلف كتاب "المجاعة الجماعية" والمدير التنفيذي لمؤسسة السلام العالمي، أكد لوكالة "أسوشيتد برس"، أن ما يحدث في غزة مجاعة.

إعلان

وقال إننا لا نحتاج إلى إعلان رسمي لمعرفة ما نراه في غزة، "يمكننا تفسير أعراض غزة كما يستطيع الطبيب تشخيص حالة المريض بناء على أعراض ظاهرة من دون إرسال عينات إلى المختبر وانتظار النتائج".

وربما تكون غزة قد دخلت حدود المجاعة بالفعل، لكن نقص البيانات الدقيقة حول سوء التغذية الحاد والوفيات المرتبطة به نتيجة انهيار الأنظمة الصحية، حال دون الإعلان الرسمي عن المجاعة.

مدير الطوارئ في برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، روس سميث، قال "هذه كارثة تتكشف أمام أعيننا، وأمام شاشات التلفزيون لدينا. هذا لا يشبه أي شيء شهدناه في هذا القرن".

سماح مطر تحتضن ابنها يوسف الذي يعاني من الشلل الدماغي وسوء التغذية في إحدى المدارس التي تؤويهم بغزة (رويترز)الهيريرو والناما.. التجويع من أجل الإبادة

أدى الحصار العسكري الشامل الذي تفرضه إسرائيل غزة منذ أوائل مارس/آذار الماضي، إلى إدانات واسعة النطاق لإسرائيل، حتى إن منسق الإغاثة في حالات الطوارئ التابع للأمم المتحدة، توم فليتشر، وصف ذلك بـ"الحصار الوحشي"، وقال إن قرار وقف المساعدات الإنسانية "عقاب جماعي قاسٍ".

وتكشف مجلة العدالة الجنائية والدولية التابعة لأكاديمية أكسفورد، عن استخدام التجويع كسلاح حرب وعلاقته بالإستراتيجية السياسية والعسكرية.

"ماذا يريد الجناة من خلال التجويع؟".. في غزة -كما العديد من المجاعات التي فرضها حصار عسكري- يحاول الجناة من خلال التجويع فرض عقاب جماعي، أو السيطرة على الشعوب وكسر إرادتها أو تهجيرها من أراضيها.

لكن الهدف الأول للجناة من خلال التجويع، هو القتل الجماعي. ومع ذلك، لا يشترط أن يموت شعب كامل جوعا لكي يعتبر التجويع إبادة جماعية، ولكن يجب إثبات أن الجاني كان يهدف عمدا إلى القضاء على جزء كبير من السكان.

من الأمثلة القليلة، لاستخدام التجويع من أجل الإبادة، مقتل عشرات الآلاف من قبائل الهيريرو والناما في بداية القرن الـ20.

وكانت ناميبيا -الواقعة جنوب غرب أفريقيا- تحت حكم ألمانيا الاستعمارية آنذاك. وخلال تلك الفترة، قامت قبائل هيريرو وناما بالثورة ضد الألمان. وبعد قمع التمرد، أجبرت القوات الألمانية، أفراد القبائل على التوجه نحو صحراء كالاهاري القاحلة، إذ أغلقت جميع مصادر المياه في وجههم، وهذا تسبب في موتهم عطشا وجوعا. أما الذين حاولوا الفرار أو النجاة، فتعرضوا لإطلاق النار عليهم ومن بينهم نساء وأطفال.

فلسطينيون يقبلون على نقاط توزيع المساعدات الإنسانية في ممر نتساريم وسط استمرار الهجمات الإسرائيلية والحصار الخانق (وكالة الأناضول)حصار لينينغراد

ومن أخطر نماذج التجويع القسري ما حدث خلال الحرب العالمية الثانية، حين حاصرت قوات ألمانيا مدينة لينينغراد، سانت بطرسبرغ حاليا، بين عامي 1941 و1944، في محاولة لعزلها بالكامل عن بقية الاتحاد السوفياتي من دون الحاجة لاحتلالها عسكريا.

الحصار استمر لأكثر من 800 يوما، مخلفا نحو مليون قتيل. وخلال تلك الفترة، انقطعت كل طرق الإمداد عن المدينة، باستثناء ممر عبر بحيرة متجمدة يسمى "طريق الحياة"، الذي كثيرا ما كان يتعرض للقصف.

وعانى سكان المدينة من جوع شديد بسبب نقص الغذاء وفي شتاء 1941-1942، وازدادت المعاناة بسبب البرد القارس، إذ وصلت درجات الحرارة إلى 38 تحت الصفر، وتوفي كثير من الناس من البرد والجوع.

طفل فلسطيني ينتظر حاملا قدرا فارغا بينما تقوم جمعيات خيرية بتوزيع وجبات ساخنة على أهالي مخيم النصيرات للاجئين (وكالة الأناضول)الصومال والسودان

ولم يعلن التصنيف المرحلي المتكامل عن مجاعة رسميا إلا نادرا، لأنها تستند إلى معايير صارمة، تشمل نسبة السكان الذين يواجهون نقصا حادا في الغذاء، ومعدلات سوء التغذية الحاد، ومعدل الوفيات اليومي. لكنه أعلن عن مجاعة في الصومال عام 2011، وجنوب السودان عامي 2017 و2020، وأجزاء من إقليم دارفور غرب السودان العام الماضي.

إعلان

وفي عام 2010، ضرب الجفاف منطقة القرن الأفريقي، لكن المجاعة في الصومال لم تحدث فقط بسبب الجفاف، بل ارتبطت أيضا بصراع عسكري بين الحكومة الصومالية وحركة الشباب المسيطرة على الجنوب.

ومنعت حركة الشباب دخول المساعدات الإنسانية إلى المناطق التي تسيطر عليها، وأصرت على أن توزعها بنفسها، ما أدى إلى تأخير وصول الغذاء إلى المحتاجين، وتفاقم الأزمة، ليصل عدد الوفيات إلى نحو 260 ألف شخص.

وفي السودان، أدت الحرب الأهلية المستمرة منذ سنوات إلى إعلان المجاعة رسميا في الجنوب عام 2017 تأثر بها 100 ألف شخص. وساهمت الحرب في تدمير الزراعة وعدم القدرة على شراء الطعام ونزوح الملايين.

وفي 2020 تعرضت مناطق في ولاية جونقلي لفيضانات وعنف متزايد بسبب الحرب؛ وهذا زاد من معاناة السكان وأدى إلى تفاقم المجاعة.

أما في إقليم دارفور عام 2024، فتفاقمت المجاعة نتيجة الصراع المستمر بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، ما أدى إلى مقتل عشرات الآلاف ونزوح الملايين.

وفي أغسطس/آب، أعلنت الأمم المتحدة تفشي المجاعة في عدد من المخيمات وقدرت الأمم المتحدة أن أكثر من 1.7 مليون نازح في شمال دارفور يعانون من انعدام الأمن الغذائي الحاد والجوع.

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: حريات دراسات تجويع غزة سوء التغذیة مجاعة فی فی غزة

إقرأ أيضاً:

غزة تعيش أزمة تعطيش شديدة وسط ارتفاع أعداد ضحايا التجويع

حذرت الأمم المتحدة اليوم الاثنين من أن الأغلبية الساحقة من أهالي قطاع غزة غير قادرين على الوصول إلى مياه الشرب وخدمات الصرف الصحي، فيما يشتد التجويع جراء حصار الاحتلال، في ظل استشهاد 6 فلسطينيين جوعا، مما رفع ضحايا المجاعة إلى 175.

وشدد مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية على أن 96% من الأسر في غزة تواجه انعدام الأمن المائي، وإن 90% من السكان غير قادرين على الوصول إلى مياه الشرب، فضلا عن أن ثلاثة من كل أربعة غزيين، يواجهون صعوبات في الوصول إلى دورات مياه.

وأشار المكتب الأممي إلى أن شبح المجاعة بات يخيم على السكان، في ظل الانهيار شبه الكامل لقطاعات المياه والصرف الصحي.

طفل في خان يونس جنوبي قطاع غزة يعاني من سوء التغذية الشديد جراء الحصار الإسرائيلي (الأناضول)شهداء التجويع

وأمس الأحد، أعلنت وزارة الصحة في غزة عن استشهاد 6 فلسطينيين جراء التجويع، مما رفع عدد ضحايا المجاعة في القطاع إلى 175، بينهم 93 طفلا.

وفي مقابلة مع الجزيرة من عمان، قال المتحدث الإقليمي باسم منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) سليم عويس، إن أكثر من 5000 طفل في غزة أصيبوا بسوء التغذية خلال النصف الأول من شهر يوليو/تموز الماضي.

وشدد المتحدث على ضرورة الإسراع في توفير كل الظروف لإدخال المساعدات المتنوعة إلى القطاع.

كما قال المتحدث باسم مستشفى شهداء الأقصى في دير البلح خليل الدقران إن سلطات الاحتلال تواصل سياسة التجويع في غزة وتمنع وصول أي مساعدات.

النازحون في مخيمات قطاع غزة يعانون لتأمين مياه الشرب النظيفة (غيتي)منع دخول الشاحنات

بدوره، طالب المستشار الإعلامي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا) عدنان أبو حسنة، بإدخال 600 شاحنة مساعدات على الأقل إلى قطاع غزة والسماح لموظفي الوكالة بإدارة نقاط التوزيع.

وقال للجزيرة إن إسرائيل تسمح بدخول 30 إلى 40 شاحنة فقط، وعبر طرق غير آمنة.

إعلان

وفي حديث للجزيرة، قال مدير الإغاثة الطبية في غزة إن المساعدات التي تدخل غزة لا تكفي لإطعام 1% من سكان القطاع، مشددا على أن حالات سوء التغذية بارتفاع مستمر في ظل حاجة لممرات آمنة لإدخال المساعدات.

وأكد أن العديد من أنواع الطعام مفقودة في قطاع غزة منذ أشهر، لافتا إلى أن كميات المياه النظيفة في القطاع لا تفي بحاجة السكان، فيما تواجه المنظومة الصحية الإنهاك وسط انتشار الأمراض التي يُخشى ألا يتمكن القطاع الطبي من معالجتها.

ومنذ بدئها الإبادة الجماعية في السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، ترتكب إسرائيل بالتوازي جريمة تجويع بحق فلسطينيي غزة، حيث شددت إجراءاتها في الثاني من مارس/ آذار الماضي، بإغلاق جميع المعابر أمام المساعدات الإنسانية والإغاثية والطبية، ما تسبب بتفشي المجاعة ووصول مؤشراتها إلى مستويات كارثية.

وخلفت الإبادة أكثر من 210 آلاف فلسطيني بين شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 9 آلاف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين.

مقالات مشابهة

  • صحة غزة: ارتفاع ضحايا التجويع في القطاع إلى 180 حالة وفاة
  • بحسابات رياضية.. هكذا صنعت إسرائيل مجاعة غزة
  • غزة تعيش أزمة تعطيش شديدة وسط ارتفاع أعداد ضحايا التجويع
  • كاتبة إسرائيلية: من يتجاهل مجاعة غزة ينتهك التعاليم اليهودية
  • صور المجاعة بغزة مستمرة ومغردون: قلوبنا مفطورة
  • كاتب إسرائيلي: سياسية التجويع في غزة جلبت لـ"نتنياهو" أكبر هزيمة سياسية في تاريخ إسرائيل
  • لازاريني: مجاعة غزة سببها محاولات استبدال منظومتنا بـ"غزة الإنسانية"
  • لازاريني: مجاعة غزة سببها محاولات استبدال "غزة الإنسانية" بمنظومتنا
  • جريمة التجويع في غزة .. كارثة إنسانية يتفرج عليها العالم