#الهوية_الإنسانية هي الأصل وليس هناك هوية أخرى وهي مسار للتآخي لا للفرقة.

بقلم : المهندس محمود “محمد خير” عبيد

في عالم يتنازع فيه الساسة الطامحون إلى السلطة الرايات الطائفية والقومية والعرقية، ويجعلون من الدين والجغرافيا والأعراق و الأصول و المنابت أدوات للتجييش والسيطرة، نحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى إلى إعادة الاعتبار للهوية التي لا تُقسّم ولا تُفرّق الا و هي الهوية الإنسانية.

ففي جوهر كل إنسان، وقبل انتمائه لأي دين أو مذهب أو وطن، توجد فطرةٌ مشتركة، وهبةٌ إلهية، وهي كونه إنسانًا. هذه الهوية ليست مكتسبة، ولا موضوعة موضع المفاضلة أو التصنيف، بل هي الأصل الذي منه ننطلق، وإليه ينبغي أن نعود، إذا أردنا أن نُقيم مجتمعات عادلة، وسلمًا دائمًا، وتعايشًا حقيقيًا, فالهوية الإنسانية لم تكن في يوم اختيارًا نمارسه، بل فطرةٌ جبلنا عليها. فالإنسان يُولد من دون طائفة، ومن دون مذهب، ومن دون تحزّب. يولد إنسانًا، مكرّمًا في جوهره

مقالات ذات صلة التدوير الكبير! 2025/08/04

هذه الهوية ليست رأيًا سياسيًا، ولا شعارًا ناعمًا، بل هي جوهر وجودنا كبشر نعيش على هذه الأرض و اتينا لهذه الحياة, و هي اصل التكليف، وبوابة التآخي الحقيقي. هي التي أرادها الله أساسًا للتكريم، والتعايش، والإعمار، قبل أن تفرّقنا الألقاب، والمذاهب، والحدود.

فالإنسان في المقام الأول هوية من صنع الله قبل أي هوية أخرى, فمنذ أن خلق الله آدم، كانت الهوية الأولى للإنسان هي كينونته، لا دينه، ولا طائفته، ولا وطنه. كل ما عداه، من عقيدة أو عِرق أو لغة، هي إضافات لاحقة، يتفاعل بها الإنسان مع مجتمعه، لكنها لا تسبقه في القيمة، ولا تُنقِص من كرامته. فقد جاء في محكم تنزيله “ولقد كرّمنا بني آدم” , ولم يقل “المؤمنين”، ولا “العرب”، ولا “الموحّدين” و لم يخص دين او عقيدة على حساب دين او عقيدة، بل “بني آدم”. هذه دعوة ربانية لتأسيس خطاب أخلاقي عالمي، قاعدته الإنسان، لا هويته الطائفية أو الجغرافية.

ان الاستخلاف الذي كرم الله به الأنسان لهذه الأرض لم يكن حكرا” لأحد والإعمار لم يُطيف، فحين قال الله للملائكة، “إني جاعل في الأرض خليفة” لم يُشر إلى طائفة، ولا عرق، ولا جنس. بل وضع أمامنا غاية روحية وإنسانية و هي ان يكون الأنسان بغض النظر عن طائفته، عقيدته، اصله، نسبه هو الخليفة الذي سوف يعمل على اعمار الأرض، لا أن يعمل على تقسيمها باسم الله، ولا أن يتسلّط البشر على بعضهم البعض بأجندات دنيوية ملفوفة بشعارات دينية منافقة و كاذبة قد يستطيعون خداع البشر بكذبهم و نفاقهم و لكن لن يتمكنوا من الكذب على خالقهم. ان ما نراه اليوم من كذب وخداع ونفاق باسم الدين او الطائفة او العقيدة هو خيانة لهذه الأمانة. فكم من سياسي ورجل دين يركب موجة الدين أو القومية لا ابتغاء وجه الله، بل ابتغاء كرسي، أو نفوذ، أو خريطة مطوّبة باسمه، ان هؤلاء لا يحملون رسالة، بل مشروع سلطة ملفوف بهوية مزيفة، يسحق فيها الإنسان ويُفرّغ الدين من محتواه الأخلاقي.

ان الأديان، المذاهب، الأعراق، واللغات، كلها تمثّل تنوعًا طبيعيًا وغِنى حضاريًا. لكنها تتحوّل إلى أداة فتنة عندما تُوظّف سياسيًا لتقسيم الناس، أو لتبرير التمييز، أو لاحتكار السلطة.

في التاريخ الحديث، رأينا كيف تحوّلت الطائفية إلى أداة لإشعال الحروب، والقومية إلى ذريعة للعنصرية، والمعتقدات إلى مبررات للتهجير والتصفية. وليس ذلك ناتجًا عن الدين أو الطائفة في ذاتها، بل عن استغلال هذه الانتماءات من قبل قوى تسعى للسيطرة، لا للإصلاح.

فالتفرقة باسم الدين لا تصدر عن الدين، بل عمن يستخدمه لأغراض سياسية. والتصنيف وفق المذهب أو اللون أو الجغرافيا هو منهج من يريد أن يفتّت المجتمعات ويضعفها، ليُحكمها بالفرقة.

فها هم أعداء الإنسانية و شياطين العصر يعملون على زرع حلفائهم و صبيتهم بيننا ممن يرتدون عباءة الدين و الأخلاق و الوطنية ممن يطلقون على انفسهم المحررون ليعملوا على قتل الإنسانية فينا, فكل القيادات التي حكمتنا و تحكمنا اليوم لم تأتي من رحم الشعوب بل من رحم الخيانات و التنازلات، ولم تكن مؤتمنة في يوم على مصير أرواح الشعوب و البشر, لقد زُرع البعض عمدًا بيننا من قبل أعداء القيم والكرامة، لا ليبنوا، بل ليُنسفوا كل معاني التآخي والعدل والتنوّع.

ان الله عز و جل لم يجعل الإيمان شرطًا للسلطة، بل جعل العدل هو المعيار “يا داوود إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق” , فها نحن اليوم نرى من جاء بأقنعة الدين أو الدفاع عن الهوية، لكن باطن مشاريعهم كان: تمزيق النسيج الإنساني، تسليح الطائفة ضد الطائفة، ودفع الشعوب إلى صراعات أزلية تُلهيهم عن حقوقهم، وتُضعف صوتهم، وتُسهّل السيطرة عليهم، وهنا تقع الكارثة الثانية, شعوبٌ مغيّبة، تتبعهم دون وعي، وتُصفّق لكل شعار يُرفع باسم الله أو الدين او الطائفة او الوطن أو العِرق، دون أن تُحاسب النتائج.

وهكذا نُصب الحاكم باسم “الدين”، فنهب الناس باسم “الحق”، وسُحقت العدالة باسم “الهوية”. فكيف نلوم السماء على مصائب صنعناها على الأرض، بيدنا، وبسكوتنا, فحين تُختزل القيم في مصالح ضيقة من خلال السياسي الذي يربط الأحقية في الحكم بنسبه او بانتمائه الطائفي أو الجغرافي لا يسعى إلى العدل، بل إلى احتكار الحكم لنفسه, وذاك الذي يُجيّش الناس خلف شعارات جغرافية و طائفية و عقائدية و اطلاق شعارات “نحن أولى بالحكم لنسبنا او لأننا من الطائفة الفلانية” أو “من أهل الأرض الفلانية”، إنما يستبدل ميزان الكفاءة بميزان التحيّز، ويفتح أبواب الفتنة باسم المظلومية أو الحق التاريخي أو الدين, ان هذا النمط من السياسيين لا يختلف عن من عبد العجل في غياب موسى، لأنه يُقدّم للناس رمزًا مشحونًا عاطفيًا ليصرفهم عن جوهر الرسالة: العدل، الحكمة، وإعمار الأرض.
ان التعددية كانت و ما زالت و ستبقى رحمة لا تهديد، فالله لم يخلق الناس أمة واحدة. ولو شاء لخلقهم على مذهبٍ واحدٍ ولسانٍ واحدٍ وأرضٍ واحدة، لكنه قال”وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا” لا لتتنازعو، ولا لتتقوقعوا، بل لتتعاونوا، وتتكاملوا، وتتأخوا على أساس إنسانيتكم المشتركة, لكن عندما تُختزل العقيدة في حزب او قيادة سياسية او زعيم لطائفة او دين، وتُستخدم الطائفة لتحديد الولاء، فإننا نرتكب جريمة أخلاقية بحق الدين والإنسان, فالأديان في مجملها لا تبرر الظلم والطائفة لا تُسوّغ الإقصاء, فليس هناك أي دين سماوي ما يبرر اضطهاد المختلف، أو استبعاد غير المؤمن من الحق في العيش الكريم، أو احتكار الحكم باسم العقيدة, فالقيادة في ميزان السماء تُقاس بالعدل، وليس بالهوية. ومن يحكم الناس بنزاهة وحكمة وإنصاف، فهو أقرب إلى مراد الله، حتى لو لم يحمل بطاقة دينية ترضي البعض., قال تعالى في خطاب موجّه إلى داوود كنموذج للسلطة “فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى” لاحظ: “بين الناس”، لا “بين المؤمنين فقط”، لأن العدل لا يعرف دينًا، بل هو من أسماء الله، وبه تُقاس الخلافة في الأرض.

ان التعايش لا يعني الذوبان, بل الاحترام المشترك, فالدعوة إلى الهوية الإنسانية لا تلغي التنوّع، ولا تطالب أحدًا بالتخلي عن دينه أو ثقافته أو لغته. بل تطالب فقط أن يكون الانتماء للإنسان أولًا، وأن نُعامل بعضنا على أساس العدالة والكرامة، لا على أساس التشابه في المذهب أو العقيدة.

ففي دولة مدنية تحترم الإنسان كإنسان، يستطيع المسلم والمسيحي والدرزي والملحد أن يعيشوا في سلام، ما دام القانون يحمي حقوق الجميع، والسلطة تحكم بعدالة، والمجتمع يرفض أن يُصنَّف فيه الإنسان وفق طائفته أو مذهبه، بل وفق ما يُقدّمه من خير ونفع.

فالله سبحانه و تعالى استخلف الإنسان في الأرض، ولم يستخلف طائفة بعينها, طلب من الإنسان أن يعمر الأرض، لا أن يحتكرها، ولا أن يُقيم فيها حدودًا للهوية تحرمه من التفاعل مع غيره, فالخلافة في المفهوم القرآني تعني المسؤولية, مسؤولية الإصلاح، العدل، وحماية الحياة والكرامة. فكل سلطة لا تهدف لإعمار الأرض، ولا تقوم على الحكمة، فهي خيانةٌ للأمانة الإلهية، حتى لو رفعت أقدس الشعارات.

علينا ان لا نسال عن دين احد او منطقته او اصله او نسبه علينا ان نسال اذا ما كان قادرا” على ان يعدل, هل يعمل على خدمة الأنسان لا الطائفة, هل يؤمن أن الأرض لله، وأن كل من عليها خلق الله، لا عبيده؟

الهوية الإنسانية ليست مشروعًا بديلًا عن الدين أو الوطن أو الثقافة، لكنها هي القاعدة التي تسبق كل شيء. فهي وحدها ما يجمعنا في زمنٍ تتكاثر فيه الانتماءات وتضيق فيه مساحات اللقاء.

إذا ما أردنا سلامًا حقيقيًا، وعدالة شاملة، وقيادة رشيدة، فلا مفرّ من العودة إلى أصلنا المشترك الا و هو انسانيتنا, من يعدل فهو منّا، من يبني فهو قائدنا، من يحترم كرامتنا فهو شريكنا، بغض النظر عن دينه، مذهبه، قوميته، أو مكان ولادته, فالإنسانية مسار للتآخي، لا ميدانٌ للفرقة.

ان الهوية الإنسانية هي طريق الأنبياء، وهي الميثاق الأول بين الإنسان وربه، حين حمّله الأمانة. وكل هوية بعدها يجب أن تخدمها، لا أن تتقدّمها, وكل سياسة لا تُبنى على هذه القاعدة، هي مشروع فتنة بلباس حضاري، ومشروع هيمنة ملفوف برايات الدين. فالأمم لن تنهض و لن تعود الى رشدها الا حينما تعود الى اصلها الأنسان.

المصدر: سواليف

كلمات دلالية: الهویة الإنسانیة فی الأرض الدین أو دین أو دین او

إقرأ أيضاً:

لا تدع أخلاق الناس السيئة تفسد أخلاقك

في كل مرحلة من حياتنا، نصادف مواقف تلامس أعماقنا وتختبر صبرنا. نظرة ازدراء من موظف متغطرس، كلمة فظة من غريب لا يعرفك، أو خذلان من قريب كنت تظنه عضدًا وسندًا. وفي كل مرة، يتسلل سؤال مرير إلى أعماقنا: هل أردّ بالمثل؟ هل أنزل إلى مستواهم لأردّ الصاع صاعين؟ أم أتماسك وأحتفظ برقيّ أخلاقي؟
الكثيرون يختارون الصمت المؤقت، لكنهم يدّخرون الغضب، حتى إذا ما سنحت الفرصة، ردّوا بأضعاف ما تلقّوه. وهنا، دون أن يشعروا، يكونون قد انجرفوا إلى الساحة ذاتها، حيث لا تنتهي المعارك، ولا يخرج منها أحد منتصرًا. لقد استُدرجوا ببراعة إلى “ملعب الآخرين القذر”، ونسوا أن المعركة الأولى هي مع الذات، لا مع الآخر.
الحقيقة أن الأخلاق لا تُقاس بردّات الفعل، بل تُبنى على اختيارات واعية. إنها قرار متجدد، يُتخذ كل صباح، بل كل لحظة. أن تظلّ نقي السريرة، هادئًا في ردّك، رفيعًا في تعاملك، لا يعني أنك ضعيف أو مغلوب، بل يعني أنك أقوى بكثير ممن يفقدون توازنهم لأقل كلمة.
من السهل أن تثور، أن تسب، أن تُعامِل الناس بما فيهم من سواد، لا بما فيك من صفاء. ولكن التحدي الحقيقي أن تختار الصمت النبيل، أو الردّ بكلمة طيّبة، أو نظرة تُطفئ نار الخصام. أن تبقي قلبك نظيفًا في عالم تعلو فيه أصوات الشتائم، فهذه بطولة لا يُجيدها إلا الأقوياء.
الناس- بقصد أو من غير قصد- يختبرونك. بعضهم يتضايق من صفائك ونبل أخلاقك، لأنه يعكس عيوبه. يزعجه نقاؤك، لأنه يذكّره بما لا يملكه. وإن سمحت له أن يسحبك إلى مستنقعه، فقد خسرْت مرتين: خسرْت تفرّدك، وخسرْت أثر وجودك.
تأمّل في سيرة الأنبياء، كيف طاردهم الأذى، وانهالت عليهم الشتائم، وتكالبت عليهم الأقوام، ومع ذلك ظلّوا أنقياء القلوب، ثابتين على الحق، متعففين عن رد الإساءة بمثلها. ولنا في رسول الله- صلى الله عليه وسلم- أسوة عظيمة، حين واجه من أساء إليه بالعفو والحكمة والصبر.
حين تصرّ على أن تحافظ على أخلاقك الطيّبة في بيئة ملوّثة بالأنانية والعدوان، فأنت لا تُجامل، بل تُعلن مبدأ. تقول للناس: أنا لا أتصرّف وفق ردودكم، بل وفق قيمي. وهذا في حد ذاته نصرٌ داخلي، وربحٌ لا يُقاس بالعين المجردة، بل يُحسّ في احترام الذات وراحة الضمير.
وتذكّر دائمًا، أنك لست مرآة لقبح الآخرين، بل مرآة لنُبلك وسموّ نفسك. لا تسمح لأحد أن يسحبك إلى ملعبه المليء بالوحل، بل اصنع لنفسك ملعبًا نظيفًا، حتى وإن كنت وحيدًا فيه. ألا تذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم: “ليس الشديد بالصرعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب”؟ إنها ليست مسألة ردّ، بل مسألة تحكّم وسيادة داخلية.

مقالات مشابهة

  • كيف أرشدنا الله إلى حزب الرحمن ؟..علي جمعة يوضح
  • بعد العثور على فوهة قمرية.. هل هناك حياة فضائية بالفعل؟
  • في الذكرى الخامسة لانفجار مرفأ بيروت.. وزير الزراعة: نزرع شجرة زيتون باسم كل ضحية
  • لا تدع أخلاق الناس السيئة تفسد أخلاقك
  • الدبكة الشامية… رقص الأرض وصوت الناس
  • ليلة سقوط البلوجرز.. احتجاز مداهم وعلياء قمرون وسوزي وأم مكة وأم سجدة
  • ميزان الناس لا ينصفك
  • نظرة بعين أخرى.. الإنسان قبل الاسم والقبيلة
  • تحقق نبوءة نبوية في اليمن .. الإمام الذي أحيا الله به الدين