يمانيون:
2025-08-09@22:31:11 GMT

التيه برواية غزة

تاريخ النشر: 10th, August 2025 GMT

التيه برواية غزة

د. محمد المدهون

قال تعالى: “فَإِنَّهَا مَحْرَمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ” (المائدة: 26)، في إشارة إلى عقوبة إلهية فُرضت على بني إسرائيل بسبب عصيانهم وتمردهم، حيث لم يكن التيه مجرد حرمان جغرافي من دخول الأرض المقدسة، بل تجلّى كحرمان رمزي من البركة والتمكين الإلهي.

واليوم، وبعد مرور أكثر من 23 شهرًا على العدوان على قطاع غزة، تغرق دولة الاحتلال في تيه سياسي وعسكري غير مسبوق.

فشلت في كسر شوكة المقاومة الفلسطينية التي اعتمدت تكتيكات غير تقليدية وشبكات أنفاق أربكت حسابات المؤسسة العسكرية. ورغم تفوقها العسكري والحصار المشدد، عجزت تل أبيب عن تحقيق أي نصر حاسم، بينما تتصاعد الانقسامات داخل الكابينيت حول خيار “احتلال غزة”، في ظل تحذيرات من كارثة إنسانية وتهديد مباشر لحياة الأسرى.

في مشهد سياسي متشظٍّ، تتعمق أزمة القيادة داخل الكيان بين تيارات تدفع نحو اجتياح غزة لتحقيق مكاسب سياسية، وبين أصوات فكرية وعسكرية وأمنية – أبرزها رئيس الأركان زامير الذي تتعرض لهجمات من محيط نتنياهو – تحذر من العواقب الكارثية لهذا الخيار.

ويعكس هذا الانقسام غياب التنسيق وارتباك القرار داخل المؤسسة الحاكمة، وتتزايد خطورته مع تراجع ثقة الجمهور بالحكومة، وتنامي دعوات من ضباط أمن سابقين لوقف الحرب وإعادة تقييم أهدافها.

وفيما تعلن شرائح من النخبة الفنية والأكاديمية تمرّدها السياسي، يوظف نتنياهو المحرقة كورقة مكشوفة ضمن “شيك سياسي مفتوح” من إدارة ترامب، لإعادة تشكيل بنية الدولة على أسس يمينية دينية. ويتضمن مشروعه تمكين المتطرفين، وإعادة هيكلة القضاء والجيش، بل وربما تمرير إعفاء شامل لطلاب المعاهد الدينية من الخدمة العسكرية، ما يهدد التوازن العلماني التقليدي الذي شكّل لفترة طويلة جوهر البنية السياسية لدولة الاحتلال.

في مواجهة هذا المأزق المركّب، تمضي إسرائيل نحو خيار توغل محدود داخل غزة، عبر بقاء عسكري جزئي في نقاط استراتيجية، مع استمرار الحصار وتجفيف الموارد، دون إعلان احتلال رسمي أو ضم مباشر، تجنّبًا للتبعات القانونية والسياسية. وتستهدف هذه الاستراتيجية إنهاك غزة على المدى الطويل، عبر تعميق الأزمات المعيشية، وفرض نزوح قسري، وتأليب السكان على المقاومة. وتُستخدم التهديدات بالاجتياح الكامل كأداة حرب نفسية لدفع المدنيين نحو الهروب، ضمن سياسة قضم تدريجي تُخفي مشروعًا تفتيتيًا بعيد المدى.

لكن هذا التيه، رغم كونه مأزقًا استراتيجيًا، لا يُدفع ثمنه داخل أروقة المؤسسة الصهيونية فحسب، بل يدفعه الشعب الفلسطيني في غزة دمًا وجوعًا وخرابًا. فعلى مدى نحو عامين من الإبادة الممنهجة، دفع المدنيون ثمنًا باهظًا: أرواح الأطفال والنساء، تدمير المنازل والبنية التحتية، انهيار النظام الصحي، ودخول المجاعة رسميًا إلى أحياء محاصرة. إنها فاتورة إنسانية فادحة تُسدّد يوميًا تحت أعين العالم، في حرب عبثية بلا أفق، تُرتكب فيها فظائع ترتقي لجرائم حرب، تُغذيها هواجس سياسية مريضة. ومع ذلك، يواصل هذا الشعب المنهك صنع المعنى من بين الركام، ويقول: نحن هنا. باقون. لا تُمحى ذاكرتنا، ولا تُكسر إرادتنا.

وعلى الجهة الأخرى، لا تبدو غزة مجرد بقعة جغرافية محاصرة، بل رمزًا حيًا متقدًا للصمود والمعنى. فرغم المجاعة والدمار، ورغم محاولات الإبادة السياسية والاقتصادية، تزداد تماسكًا في الوعي الجمعي الفلسطيني. يتحول الألم إلى مقاومة، والجوع إلى إرادة، والموت إلى ميلاد جديد لفكرة لا تموت. ومع كل غارة، وكل خطاب تهديدي، تنكشف هشاشة المؤسسة الصهيونية التي تدّعي السيطرة، بينما تغرق في تناقضاتها، وتخوض حربًا بلا نهاية. وفي المقابل، يقف المقاتل الفلسطيني، وحيدًا، صلبًا، يعيد تعريف المعركة كصراع إرادات، لا صراع حدود.

أمام هذه الروح، تسقط حسابات القوة، وتتهاوى خطط الاحتلال، ويبقى السؤال معلقًا في وجه نتنياهو:
كيف تهزم من عشق الموت في سبيل الحياة؟
كل ما سبق يُرسّخ قراءة واضحة مفادها أن دولة الاحتلال – رغم تفوقها العسكري والاستخباراتي – دخلت مرحلة “تيه استراتيجي” عميق، يُشبه في جوهره التيه التاريخي الذي فُرض على بني إسرائيل عقابًا على رفض الحق. تعيش إسرائيل اليوم حيرة سياسية وعسكرية وأخلاقية خانقة، عاجزة عن الحسم، متخبطة بين اجتياح غزة أو الانسحاب منها، بين استمرار الحرب أو البحث عن سلام لا تملكه.
لكن هذا التيه الاستراتيجي يواجه مقاومة فلسطينية صلبة، وشعبًا أسطوريًا عظيمًا، يعيد صياغة معادلة الصراع، ويؤكد أن الأرض لمن يتمسك بها، وأن المستقبل لا يُصنع بالطغيان، بل بالإرادة.

*رئيس مركز غزة للدراسات والاستراتيجيات

المصدر: يمانيون

إقرأ أيضاً:

رمزي عودة: قرار إسرائيل باحتلال غزة يهدف للضغط على حماس للتفاوض

قال الدكتور رمزي عودة، أمين عام الحملة الأكاديمية الدولية لمناهضة الاحتلال، في مقابلة مع قناة "القاهرة الإخبارية" من رام الله، إن قرار الاحتلال الإسرائيلي باجتياح قطاع غزة جاء بعد نقاشات طويلة داخل "الكابينت" الإسرائيلي استمرت لأكثر من ثلاثة أيام، وانتهى إلى قرار احتلال مدينة غزة على مراحل، بهدف الضغط على حركة حماس للتفاوض وليس لإلحاق هزيمة عسكرية كاملة بها.

 وأوضح أن قوة حماس الأساسية تتركز في خان يونس، وأن المقاتلين قد يهربون كما فعلوا سابقًا، مما يصعب على الاحتلال تحقيق انتصار عسكري كامل.

استطلاع صنداي تايمز: 29% من البريطانيين يدعمون فلسطين مقابل 15% لإسرائيل.. وتعاطف لافت مع غزة بين الشبابالأردن يدين خطة الكابينت باحتلال قطاع غزة وتوسيع السيطرة عليه

وأشار عودة إلى أن الاعتراف الدولي بدولة فلسطين، الذي يزداد تصاعدًا في مؤتمرات مثل نيويورك والاعتراف الفرنسي، يشكل هدية لحركة حماس، وهو ما يثير قلق الاحتلال، وخاصة بنيامين نتنياهو، الذي يرى في ذلك تهديدًا لخطة الاحتلال. وأكد أن الاعتراف الدولي هو نتاج لتضحيات الشعب الفلسطيني والجهود الدبلوماسية، مشددًا على أن المطالب الفلسطينية بسيطة ومشروعة، وهي إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967.

وفيما يتعلق بالعمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة، اعتبر عودة أن هذه العمليات لن تحقق أهداف الاحتلال، بل تهدف إلى الضغط على حماس لتحقيق شروط الاحتلال الخمسة، لكنه استدرك بأن حماس لم تستجب لأي من هذه الشروط حتى الآن، لأنها حركة أيديولوجية عقائدية وليست حركة سياسية تقبل التفاوض على هذه الأسس.

وتحدث عودة عن استمرار العمليات والمقاومة الفلسطينية، مشيرًا إلى أن الرهائن لا يزالون بأيدي الفصائل الفلسطينية، وأن الاحتلال لم يسترجع جنوده المصابين أو القتلى، وأن نتنياهو يسعى إلى تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى الجنوب، وهو ما يعتبره انتصارًا إيديولوجيًا كبيرًا بالنسبة له وللمستوطنين الذين يرغبون في إقامة مناطق جديدة هناك.

وختم الدكتور رمزي عودة بالتأكيد على أن الحرب التي استمرت لأكثر من عامين هي أكبر من مجرد تحرير الرهائن أو نزع سلاح حماس، فهي حرب إبادة وتهجير تستهدف أكثر من ثلثي سكان قطاع غزة، مشددًا على ضرورة فهم هذا السياق لفهم عمق الصراع الحالي.

طباعة شارك مناهضة الاحتلال الاحتلال رام الله الاحتلال الإسرائيلي قطاع غزة

مقالات مشابهة

  • وصمة عار.. الأزهر يدين قرار إسرائيل باحتلال قطاع غزة
  • 7 دول غربية تدين خطط إسرائيل لاحتلال مدينة غزة
  • قوات الإحتلال الإسرائيلي تقتحم مدينة أريحا ومخيم العين
  • الحوثيون يعلنون استهداف مطار بن غوريون ومواقع أخرى داخل الأراضي المحتلة
  • جماعة الحوثي تعلن مهاجمة مطار بن غوريون وهدفين داخل إسرائيل
  • رمزي عودة: قرار إسرائيل باحتلال غزة يهدف للضغط على حماس للتفاوض
  • هل تستطيع إسرائيل فرض سيطرتها على قطاع غزة؟.. مفاجأة غير متوقعة من داخل جيش الاحتلال
  • مركز دراسات: جيش الاحتلال يواجه استنزافًا لم يشهده منذ عقود
  • الحريديم يتوعّدون الحكومة في إسرائيل ويطالبون بتدخل البيت الأبيض