ترجمة - أحمد شافعي

مرة أخرى ترجع الأسلحة النووية لتتصدر عناوين الأخبار، بخطرها القاتل، وتاريخها الأسود، وانتشارها المستقبلي، والأخبار كالعادة مثيرة للقلق، تشارف تخوم اليأس. فقد قررت روسيا الأسبوع الماضي أن تنسحب رسميا من معاهدة القوات النووية متوسطة المدى (INF) الموقعة سنة 1987 والتي تحظر الصواريخ النووية متوسطة وقصيرة المدى، ويأتي هذا القرار ليقوض عمودا أساسيا في الحد العالمي من التسلح.

وسوف يعجّل هذا من سباق التسلح النووي المحموم أصلا في أوروبا وآسيا في لحظة يتبادل فيها زعيما الولايات المتحدة وروسيا السخرية على غرار تلاميذ المدارس. هدد الرئيس الروسي فلاديمير بوتن الغرب مرارا بالأسلحة النووية خلال حربه في أوكرانيا. ففي نوفمبر الماضي، أطلقت القوات الروسية صاروخها الجديد متوسط المدى المجاوز لسرعة الصوت القادر على حمل رؤوس نووية المعروف باسم أورشنيك، على مدينة دنيبرو. ينطلق الصاروخ «كالنيزك» بسرعة تماثل سرعة الصوت عشر مرات ويمكنه الوصول إلى أي مدينة في أوروبا حسبما يتباهى بوتن، ولو صدق في ذلك فهو انتهاك سافر لمعاهدة القوات النووية متوسطة المدى. وتلقي موسكو باللوم في قرارها هذا بنبذ المعاهدة على أعمال الناتو العدائية. غير أن تغاضيها عن المعاهدة عمليا أمر قديم، وأبرز أشكال ذلك نشرها صواريخ في كاليننجراد، وهي الجيب الروسي القائم على بحر البلطيق وبيلاروسيا.

أما وقد قيل ذلك، فإن لورسيا حقا في ما يتعلق بالناتو. فقد تراجع دونالد ترامب عن معاهدة القوات النووية متوسطة المدى للمرة الأولى في عام 2018. وأعقب ذلك بزيادة هائلة لدى دول الناتو الأوروبية من الصواريخ والقاذفات والطائرات ذات القدرات النووية المصنوعة في الغالب في الولايات المتحدة، وكان طبيعيا أن يثير ذلك قلق موسكو.

وكان يجدر به أن يثير قلق الأوروبيين أيضا. وقد حدث في ثمانينيات القرن العشرين أن أثار نشر صواريخ بيرشنج وصواريخ كروز الأمريكية احتجاجات عنيفة في أرجاء القارة. وعلى النقيض، نرى صمتا غريبا يصاحب العد التنازلي المشؤوم لقيامة العالم، وقد اقترب أكثر من ذي قبل من الكارثة، فبات على بعد تسع وثمانين ثانية من منتصف الليل.

وجاء زعم ترامب المغالي فيه الأسبوع الماضي بأن الولايات المتحدة نقلت غواصات نووية فباتت أقرب إلى روسيا ردا على التهديدات الفجة من الرئيس الروسي السابق ديمتري ميدفيديف المعروف بكونه ألعوبة لبوتن. وتلك أيضا كانت لحظة رعب. وكان يمكن لهذه المواجهة الصبيانية أن تحقق غرضا نافعا لو أنها نبهت الرأي العام الأوروبي الغافل إلى الخطر المتفاقم للمواجهة النووية. لعل الناس اطمأنوا، أو لعل لديهم مشكلات أخرى مثيرة للقلق. ولعل حكومات بلاد من قبيل بريطانيا ـ المشكوك في إخفائها قنابل جاذبية نووية أمريكية في قاعدة جوية بشرق أنجليا ـ عاجزة مرة أخرى عن قول الحق. (ترفض حكومة المملكة المتحدة القول بما إذا كانت الأسلحة النووية الأمريكية موجودة الآن في قاعدة لاكنهيث الجوية الملكية أم لا).

مهما يكن السبب، يقع على عاتق أبناء الحرب الباردة ـ وبنات جرينهاوس كومون، وورثة متظاهري حظر القنبلة وداعمي حملة نزع السلاح النووي الدءوبين ـ أن يحذروا بصوت أعلى بأن هذا هو طريق الهلاك. لكن لماذا يكونون وحدهم الذين يدقون ناقوس الخطر؟ فالأمر كله يتكرر، ولا فارق إلا أنه في هذه المرة أسوأ، وأن الجميع واقعون في مرماه. وإذا لم يتم الحد من الأسلحة النووية بما بلغته اليوم من قوة أكبر كثيرا فقد يتحول الكوكب كله إلى ساحة قتل. ويجب أن نرى في الاحتفال الذي أقيم الأسبوع الماضي في الذكرى الثمانين لقنبلتي هيروشيما ونجازاكي الذريتين تحذيرا وتذكرة في الوقت نفسه.

تتسارع وتيرة تراكم الأسلحة النووية في أوروبا. فالولايات المتحدة تخزن فعليا قنابل نووية في ألمانيا وبلجيكا وهولندا وإيطاليا وتركيا. والآن عرضت المملكة المتحدة أيضا منشآت، وتشتري طائرات ذات قدرة نووية. وسوف تستضيف ألمانيا صواريخ توماهاوك كروز وصواريخ تفوق سرعتها سرعة الصوت في العام القادم. وتوسع الولايات المتحدة قواعدها الصاروخية في بولندا ورومانيا.

وتنضم دول من الناتو من قبيل الدنمارك والنرويج إلى تدريبات صاروخية تستهدف على سبيل المثال ترسيخ «السيطرة» على بحر البلطيق.

وكل هذا مبرر باسم الدفاع عن النفس، في مواجهة روسيا البوتنية بالذات. وبالمثل قرار الناتو في يونيو برفع ميزانيات الدفاع الوطنية إلى نسبة 5% من إجمالي الناتج الوطني. وليست الصورة العالمية أقل إزعاجا. فالدول التسع المسلحة نوويا ـ بريطانيا والصين وفرنسا والهند وإسرائيل وكوريا الشمالية وباكستان وروسيا والولايات المتحدة ـ أنفقت 100.2 مليار دولار، أو 3.169 دولار في الثانية على الأسلحة النووية خلال العام الماضي، حسب ما ذكرته الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية (Ican).

وهذا يمثل زيادة بنسبة 11% عن عام 2023.

بموجب خطة موازنة 2026 التي اقترحها ترامب، سوف تزيد الولايات المتحدة ـ وهي بالفعل أكبر المنفقين في العالم ـ من تمويل القوات النووية بما فيها صاروخ سنتينل الباليستي العابر للقارات الجديد، وتبلغ نسبة الزيادة 26% لتصل إلى 87 مليار دولار. وفي سياق مساعي الصين للقيام بدورها في زعزعة أمن العالم فقد زادت ترسانتها النووية إلى أكثر من الضعف منذ 2020 لتصل إلى خمسمائة رأس نووي.

فمن الذي يشك في الوجهة التي يمضي إليها كل هذا؟ للمرة الأولى منذ الحرب الباردة، تمضي أوروبا وآسيا والشرق الأوسط إلى التحول إلى ساحات معارك نووية محتملة، مع فارق واحد يتمثل في أن القنابل الذرية والصواريخ لم تعد تعتبر اليوم أدوات للردع وإنما للهجوم وللفوز بالحروب. وانتشار الرؤوس التكتيكية منخفضة القوة يتيح، افتراضا، إمكانية نشوب حرب نووية «محدودة». وفور أن يتم تجاوز هذا الخط الأحمر، فقد تتبعه سلسلة ردود أفعال لا يمكن إيقافها.

وتتهاوى شبكات الأمان بانهيار اتفاقيات الحد من التسلح ـ فمعاهدة خفض الأسلحة الاستراتيجية الجديدة (ستارت الجديدة) توشك على الانتهاء في فبراير 2026.

والدول الموقعة على معاهدة حظر الانتشار ملزمة بموجب «حسن النية» بنزع أسلحتها تدريجيا، ولكنها بدلا من ذلك تسارع من وتيرة التسلح. وأنظمة الذكاء الاصطناعي اللاإنسانية قد تزيد خطر قيام قيامة بالصدفة. والدول المارقة من قبيل إسرائيل وكوريا الشمالية تتجاوز الحدود باستمرار. وتهور ترامب، وجنون بوتن، يزيدان الإحساس بأننا نعيش في ساحة عالمية للرماية.

لعل الأمر كان بالغ الاختلاف من قبل. في يونيو من عام 1945 قال فريق من علماء الفيزياء النووية بجامعة شيكاغو بقيادة جيمس فرانك للرئيس هاري ترومان إن هجمة مفاجئة بقنبلة ذرية على اليابان أمر «لا يشار به». وتنبأوا بأن يؤدي تفجير سلاح جديد سباق تسلح عالميا لا يمكن السيطرة عليه. وقوبلت تحذيراتهم بالرفض. والآن تحاول الأمم المتحدة من جديد. وتماشيا مع معاهدة 2021 التي تحظر الأسلحة النوية، تم تكليف لجنة دولية رفيعة المستوى في الشهر الماضي بدراسة «الآثار المادية والعواقب المجتمعية» للحرب النووية على «نطاق محلي وإقليمي وكوكبي».

التحدي هائل، والنتيجة غير مضمونة. لكن شخصا ما في مكان ما بطريقة ما لا بد أن يدعو إلى إيقاف الجنون. ولا يزال ممكنا أن نرجو، خلافا لحال عام 1945، أن يسود رأي الحكماء.

سيمون تيسدال من كتاب أعمدة الرأي ومتخصص في الشؤون العالمية

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأسلحة النوویة القوات النوویة النوویة متوسطة

إقرأ أيضاً:

أكثر من 21 مليار دولار تدفقت من واشنطن لتسليح إسرائيل منذ اندلاع حرب غزة

كشفت وكالة "أسوشييتد برس" في دراسة جديدة، الثلاثاء، بالتزامن مع الذكرى الثانية لهجمات حركة المقاومة الفلسطينية "حماس" على الأراضي المحتلة في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023، أن الولايات المتحدة قدمت لإسرائيل مساعدات عسكرية بقيمة لا تقل عن 21.7 مليار دولار منذ بداية الحرب على غزة قبل عامين.

وأوضحت الدراسة أن هذه المساعدات تم تقديمها خلال إدارتي الرئيس السابق جو بايدن والحالي دونالد ترامب، في إطار الدعم العسكري الأمريكي المتواصل لتل أبيب خلال حربها على القطاع.

وأضافت "أسوشييتد برس" أن دراسة أخرى نشرها "مشروع تكاليف الحرب" في كلية واتسون للشؤون الدولية والعامة بجامعة براون، أشارت إلى أن الولايات المتحدة أنفقت نحو 10 مليارات دولار إضافية على المساعدات الأمنية والعمليات في منطقة الشرق الأوسط الأوسع خلال العامين الماضيين.




وأوضحت الوكالة أن هذه الدراسات اعتمدت على مصادر مفتوحة، لكنها قدّمت من أكثر التقديرات شمولًا لحجم المساعدات العسكرية الأمريكية لإسرائيل، حليفتها الوثيقة، إلى جانب تقديرات تكلفة التدخل العسكري المباشر للولايات المتحدة في الشرق الأوسط.

ولفتت "أسوشييتد برس" إلى أن وزارة الخارجية الأمريكية لم تُصدر تعليقا فوريا بشأن حجم المساعدات المقدمة لإسرائيل منذ تشرين الأول/أكتوبر 2023، فيما أحال البيت الأبيض الاستفسارات إلى وزارة الدفاع الأمريكية التي تشرف على جزء فقط من تلك المساعدات.

وبالتزامن، كشف موقع القناة الرابعة البريطانية٬ في تقرير أعده قسم التحقق، أن قيمة الأسلحة والذخائر التي استوردها الاحتلال الإسرائيلي من المملكة المتحدة بلغت مستوى قياسيا غير مسبوق خلال عام 2025، وفقاً لتحليل خاص استند إلى بيانات رسمية صادرة عن هيئة الجمارك الإسرائيلية.




فقد أظهرت البيانات أن الاحتلال الإسرائيلي استورد ما يقرب من مليون جنيه إسترليني من الأسلحة والذخائر البريطانية خلال الأشهر التسعة الأولى من العام، أي أكثر من ضعف الكمية التي تلقتها في أي من الأعوام الثلاثة السابقة.

وفي حزيران/يونيو الماضي٬ وحده، استورد الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 400 ألف جنيه إسترليني من الأسلحة البريطانية وهو أعلى مبلغ شهري يتم تسجيله منذ بدء رصد هذه البيانات في كانون الثاني/يناير 2022.

مقالات مشابهة

  • أكثر من 21 مليار دولار تدفقت من واشنطن لتسليح إسرائيل منذ اندلاع حرب غزة
  • سلوفاكيا توقّع اتفاقا مع الولايات المتحدة لإنشاء وحدة طاقة نووية جديدة
  • الأمم المتحدة: نرحب بأي جهود للرقابة على الأسلحة النووية
  • القوات الأوكرانية تقصف محطة زابوريجيا للطاقة النووية
  • الخارجية الإيرانية: لا نخطط لاستئناف المحادثات النووية مع الدول الأوروبية
  • ترامب يُبدي استعداده لتمديد اتفاقية الحد من الأسلحة النووية مع روسيا
  • رد ترامب على تمديد معاهدة خفض الأسلحة النووية مع موسكو.. ماذا قال؟
  • ترامب يكشف عن موقفه من معاهدة ستارت النووية مع روسيا
  • ترامب يحدد موقفه من معاهدة "ستارت النووية" مع موسكو
  • ترامب يلمح إلى احتمال تمديد معاهدة الأسلحة النووية مع روسيا