جيمس مانيكا - مايكل سبينس/ ترجمة - أحمد القرملاوي -

في يونيو 2023، قدَّرت دراسة حول الإمكانات الاقتصادية للذكاء الاصطناعي التوليدي، أن بإمكانه إضافة ما يزيد عن أربعة تريليونات دولار سنويًّا إلى الاقتصاد العالمي، بالإضافة إلى أحد عشر تريليون دولار يمكن للذكاء الاصطناعي غير التوليدي وغيره من أشكال الأتمتة أن يساهما بها.

وللتعرف على ضخامة هذا الرقم، نشير إلى أن الاقتصاد الألماني بأكمله، وهو رابع أكبر اقتصاد في العالم، تبلغ قيمته نحو أربعة تريليونات دولار. ووفقًا للدراسة التي أعدَّها معهد ماكينزي العالمي، فإن هذا التأثير المذهل سينتج بشكل أساسي عن مكاسب الإنتاجية التي سيجعلها الذكاء الاصطناعي التوليدي ممكنة. لكن، على الأقل في المدى القريب، تبدو هذه التوقعات متفائلة بدرجة غير واقعية، فهناك عقبات تكنولوجية وتنظيمية عديدة تقف في وجه اقتصادٍ عالمي قائم على الذكاء الاصطناعي. لكن حتى لو كان هذا التحول غيرَ فوري، فإن هذا لا يعني أن يكون أثره ضئيلًا على الإطلاق.

بحلول العقد القادم، سيصبح التحول نحو الذكاء الاصطناعي محركًا رئيسًا للازدهار العالمي، وستنبع مكاسب الاقتصاد العالمي من التقدم السريع في تقنيات الذكاء الاصطناعي، الذي يشمل الذكاء التوليدي -أي الذكاء القادر على إنتاج محتوى جديد- واستخداماته المحتمَلة في جميع الأنشطة الحياتية والاقتصادية. وإذا ما أُحسن توظيف تلك الابتكارات، فقد يُثبت الذكاء الاصطناعي قدرته على تحويل مسار التراجع في نمو الإنتاجية الذي يُعاني منه العديد من الاقتصادات المتقدمة.

غير أن هذه الثورة الاقتصادية لن تحدث من تلقاء نفسها. فعلى الرغم من أن الكثير من النقاشات تتركز على مخاطر الذكاء الاصطناعي والحاجة إلى تنظيم دولي صارم يَحُول دون أضراره الكارثية، يبقى من الضروري وَضْعُ سياسات إيجابية تعزِّز استخدام الذكاء الاصطناعي في تعظيم الإنتاجية، وأن تدعم هذه السياسات تلك التقنيات التي تعزز القدرات البشرية بدلًا من استبدالها، وأن تضمن إخضاع الشركات والقطاعات المختلفة للتغييرات التنظيمية والهيكلية اللازمة لتحقيق الاستفادة الكاملة من إمكاناته. فإطلاق العنان لاقتصاد مدعوم بالذكاء الاصطناعي يتطلب أُطُرًا سياسية جديدة، وعقلًا منفتحًا يحتضن الذكاء الاصطناعي باعتباره أداةً تعزِّز الإمكانات والابتكارات البشرية ولا تقوِّضها.

التباطؤ الكبير

يأتي التسارع في تطور الذكاء الاصطناعي في لحظة حاسمة للاقتصاد العالمي. فعلى مدار ثلاثة عقود، ساهم النمو الهائل في القدرات الإنتاجية للصين وغيرها من الاقتصادات الإنتاجية في كبح جماح التضخم، مما سمح للبنوك المركزية بخفض أسعار الفائدة وضخ كميات هائلة من السيولة في أنظمتها المالية. غير أن هذه الحقبة ولَّت بالفعل. ففي العديد من الدول المتقدمة، تباطأ النمو الاقتصادي نتيجة المعركة الممتدة التي تخوضها البنوك المركزية ضد التضخم، وبدأ نمو الإنتاجية في التراجع بدايةً من عام 2005، ثم ظهر هذا التراجع أكثر وضوحًا في العقد السابق على جائحة كوفيد.

ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، انخفض نمو الإنتاجية من 1.73% في العقد السابق على الأزمة المالية إلى 0.53% فقط في العقد السابق على الجائحة. أما القطاعات الخدمية الكبرى، التي لا تشمل التصنيع أو التجارة، والتي تشكِّل نحو 80% من الوظائف في الولايات المتحدة، فقد كانت أسوأ حالًا، إذ بلغ نمو الإنتاجية فيها قبل الجائحة 0.16% فقط.

فضلًا عن ذلك، تقلَّص العرض نتيجة عوامل أخرى. ففي الدول التي تمثل أكثر من 75% من الناتج الاقتصادي العالمي، أدَّى تقدُّم السكان في العمر إلى تقليص النمو في القوة العاملة وزيادة نسب الإعالة، وتُعاني قطاعات كبيرة مثل: الحكومات، والرعاية الصحية، والبناء، من نقص حاد في العمالة. كما تحوَّلت أسواق العمل نتيجة تغيُّر تفضيلات الباحثين عن فرص عملٍ في الاقتصادات المتقدمة، حيث صاروا يختارون القطاعات بناءً على معايير جديدة مثل: المرونة، والسلامة، ومستوى الضغوط، ويتنقلون بينها بوتيرة أسرع. وفي الوقت نفسه، دفعت التوترات الجيوسياسية وتغيُّرات المناخ وجائحة كوفيد، العديد من الشركات والدول إلى تقليص المخاطر وتنويع سلاسل الإمداد، لأسباب لا ترتبط بخفض التكاليف، وانتهى بذلك زمن اختيار سلاسل الإمداد بناءً على الكفاءة النسبية والتكلفة فحسب.

ونتيجةً لهذه التغيرات، ومن دون قوة إنتاجية جديدة كبرى، سيظل الاقتصاد العالمي مكبَّلًا بعوامل مثل تباطؤ النمو، وتراجع اليد العاملة، واستمرار التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة وتكلفة رأس المال. من هنا تنبع أهمية الثورة التي يَعِدُ بها الذكاء الاصطناعي، فهي تحمل إمكانية إحداث طفرة إنتاجية تعيد معدلات النمو لسابق عهدها، ومواجهة مشكلات مثل الانكماش في قوة العمل الذي يعوق تقدم الاقتصاد العالمي، مع ضرورة أن تكون هذه الطفرة قائمةً على نمو حقيقي في القيمة المُضافة يساهم في زيادة الناتج المحلي، لا أن تقتصر على تقليص المدخَلات -مثل خفض العمالة- دون نمو حقيقي في الناتج الفعلي.

مرونة وسهولة في الاستخدام

يمتلك الذكاء الاصطناعي التوليدي عددًا من الخصائص التي تبشر بأثر اقتصادي غير مسبوق؛ من أبرز هذه الخصائص «المرونة الاستثنائية». فالنماذج اللغوية الكبيرة (Large Language Models) صارت قادرة على الاستجابة لمُطالباتٍ في شتى المجالات، من الشعر إلى القانون، ومن العلوم إلى البرمجة، بل وتستطيع التعرف على المجال المُستخدم تلقائيًا والانتقال بين التخصصات. كما لم تعد هذه النماذج قاصرة على الكلمات فقط، بل صارت قادرة على التعامل مع الرموز، والصوت، والصورة، والفيديو، وغيرها من أنواع المُدخَلات والمُخرَجات، وهي خاصية تُعرف باسم «تعدد الوسائط» (multimodality)، تُمكِّنها من العمل عبر تخصصات وأنماط مختلفة، ما يمنحها مرونةً تُبنى عليها تطبيقات متنوعة لأي غرض تقريبًا .

كما تتميز هذه النماذج بقدر كبير من سهولة الاستخدام، إذ إنها مصممة للتعامل مع اللغة العادية والمُدخَلات المألوفة، ما يعني أن غير المتخصصين يمكنهم استخدامها بسهولة، فقط ببعض التدريب على كيفية صياغة المُطالَبات بفعالية. كما أن اعتماد النماذج على كمٍّ هائل من المحتوى الموجود على الإنترنت أو قواعد البيانات الضخمة أثناء التدريب، يمنحها القدرة على «الإلمام» بمجالات معرفية عديدة.

هاتان الخاصيتان، المرونة وسهولة الاستخدام، تمنحان الذكاء الاصطناعي التوليدي إمكانات تفوق بكثير معظم التقنيات الرقمية السابقة، حتى تلك التي استخدمت الذكاء الاصطناعي التقليدي. وقد أنشأ العديد من مطوِّري هذه النماذج واجهاتٍ لبَرمجَة التطبيقات (APIS) تتيح للآخرين بناء حلول ذكاء اصطناعي خاصة بهم، فبدأ سباق محموم لتطوير تطبيقات موجَّهة لقطاعات ومهن واستخدامات مختلفة.

التعلم السريع في بيئات العمل

من بين أكثر الاستخدامات الواعدة للذكاء الاصطناعي التوليدي في الاقتصاد، تجدر الإشارة إلى «أنظمة المساعد الرقمي» في بيئات العمل. على سبيل المثال، أُجرِيتْ دراسة حول أثر المساعد الرقمي المدعوم بالذكاء الاصطناعي على موظفي خدمة العملاء في قطاع التكنولوجيا. في التجربة، تم تدريب المساعد الرقمي على كمية ضخمة من تسجيلات المكالمات بين الوكلاء والعملاء، إلى جانب مؤشرات أداء لهذه المكالمات، مثل: هل تم حل المشكلة؟ وكم استغرق حلها؟ وهل كان العميل راضيًا؟

بعد التدريب، أُتيحَت الأداة لعدد من الموظفين، ولم تُتح للآخرين. وكانت النتائج لافتة، فقد زاد متوسط إنتاجية المجموعة التي استخدمت المساعد الذكي بنسبة 0.14%. لكن الأهم أن الزيادة كانت أكبر بكثير لدى الموظفين قليلي الخبرة، ما يشير إلى أن المساعد الرقمي ساعد في تقليص الفجوة بين الموظفين الجدد والمخضرمين، وساهم في تسريع وتيرة التعلُّم في بيئة العمل. ومع انتشار المساعدين الرقميين المدعومين بالذكاء الاصطناعي، يُتوقَّع أن يصبح هذا الأثر في تقليص الفجوة بين العاملين سمةً عامةً في العديد من القطاعات. كما يُتوقَّع أن تؤدي هذه الأدوات الذكية طيفًا واسعًا من المهام.

الجيل القادم من التفاعل

مجال واعد آخر هو أنظمة «الذكاء المحيط» (Ambient Intelligence)، وهي أنظمة تدمج الذكاء الاصطناعي مع أجهزة استشعار صوتية أو بصرية لرصد وتحسين الأداء البشري. ولنا مثال من القطاع الصحي، حيث أشارت دراسة نُشرت في مجلة Nature إلى أنه يمكن لنظام «ذكاء محيط» أن يستمع إلى نقاشات الأطباء والمتدربين أثناء جولة طبية، ويضاهيها مع بيانات المرضى ليرصد الإجراءات التي لم تُتخذ أو الأسئلة التي أُغفلت، ثم يُنتج ملخصًا ذكيًا للعرض على الفريق الطبي.

وبما أن التقديرات تُشير إلى أن الأطباء يقضون ثلث وقتهم في كتابة التقارير، فمن الممكن لنظام كهذا أن يقلِّص هذا الوقت بنسبة تصل إلى 80%.

وبالمثل، يمكن لأنظمة الذكاء المحيط والمساعدات الرقمية أن تُحدث ثورة في إدارة سلاسل الإمداد، وتُعزز القدرة على تنفيذ المهام البشرية المعقدة. ووفقًا لتقرير معهد ماكينزي العالمي، فإن الذكاء الاصطناعي التوليدي قادر على أتمتة ما بين 60% إلى 70% من وقت العمل، ما يعني: زيادة كبيرة في الإنتاجية، وتحرير وقت البشر للتركيز على المهام الإبداعية والمعقدة، وتسريع الابتكار بوتيرة غير مسبوقة.

معنا لا ضدنا

رغم الوعود الهائلة، فإن الذكاء الاصطناعي لن يؤدي تلقائيًا إلى طفرة شاملة في الإنتاجية، ولا إلى نمو مستدام وشامل ما لم يُوجَّه بشكل واعٍ، بالأخذ في الاعتبار:

1- التصدي للمخاطر المحتمَلة، أي توقُّع وإدارة الأضرار قبل وقوعها، سواء عبر اللوائح التنظيمية أو الأُطُر الأخلاقية والرقابة التقنية.

2- تعظيم الاستخدامات المفيدة، أي دعم الاستخدامات التي تعزز قدرات البشر بدل استبدالهم، وتحفيز التطبيقات التي تعزِّز الإنتاجية.

فلا بد من الاعتراف بأن الذكاء الاصطناعي، وبخاصة التوليدي منه، قد وصل إلى منعطف حاسم في المشهد العالمي، فهو يحمل قدرة هائلة على دفع الإنتاجية وتحفيز النمو في وقت يحتاج فيه الاقتصاد العالمي إلى دفعة عاجلة. لكن اغتنام هذه الفرصة يتطلب أكثر من الابتكار التقني، إذ يتطلب: رؤية إيجابية لما يمكن أن تفعله الآلة، وتوجيهًا سياسيًا حازمًا، والتزامًا أخلاقيًا بعدم استبعاد البشر من المعادلة.

أما الخطر الأكبر الذي يتهددنا، فليس في كون الذكاء الاصطناعي سيُفني البشرية أو يسلب الملايين وظائفهم، بل في استخدامه بطريقة تُكرِّس التفاوت القائم، بدلًا من خلق اقتصاد أقوى وأكثر عدلًا للأجيال القادمة.

جيمس مانيكا، مستشار أكاديمي ونائب رئيس شركة جوجل-ألفابت للأبحاث والتكنولوجيا.

مايكل سبنس، اقتصادي أمريكي حائز على جائزة نوبل في الاقتصاد لعام ٢٠٠١.

عن مجلة فورين أفيرز

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الذکاء الاصطناعی التولیدی الاقتصاد العالمی نمو الإنتاجیة العدید من إلى أن الذی ی

إقرأ أيضاً:

الذكاء الاصطناعي يدعو لإبادة البشر عبر رسائل سرية

وكالات

أفادت دراسة حديثة نُشرت أجرتها شركتا Anthropic وTruthful AI، على قدرة نماذج الذكاء الاصطناعي الكبيرة على تبادل رسائل مشفرة فيما بينها عبر بيانات تبدو عادية، دون أن تتمكن أنظمة السلامة أو أدوات الكشف التقليدية من رصدها.

ويمكن لهذه النماذج إخفاء تفضيلات أو تحيزات داخل نصوص أو أكواد برمجية أو سلاسل أرقام، بحيث تنتقل المعلومة من نموذج إلى آخر حتى في حال عدم التصريح بها مباشرة.

وكشفت التجارب أن التأثير يكون أكثر وضوحًا بين النماذج المتشابهة، بينما لم ينجح بين النماذج ذات البنية المختلفة، مثل أنظمة OpenAI وAlibaba، فيما يرى خبراء أن هذه التقنية تمثل تهديدًا محتملاً، إذ قد تسمح بإدخال رسائل خفية إلى مجموعات تدريب مفتوحة المصدر للتأثير على المخرجات في قضايا سياسية أو تجارية أو اجتماعية.

مقالات مشابهة

  • الذكاء الاصطناعي يدعو لإبادة البشر عبر رسائل سرية
  • محافظ الجيزة يشارك في المؤتمر العالمي العاشر للإفتاء لمناقشة صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي
  • مؤتمر الإفتاء العالمي: ضوابط صارمة لتوظيف الذكاء الاصطناعي لمواجهة الفتاوى الشاذة
  • مفتي الجمهورية يفتتح المؤتمر العالمي العاشر للإفتاء: «ارحموا عجز أهل غزة» ودعوة لإنسانية ضمير العالم وتحذير من استغلال الذكاء الاصطناعي في العدوان على فلسطين
  • مؤتمر الإفتاء العالمي العاشر.. هل الذكاء الاصطناعي بديل للمفتي البشري؟
  • تحت رعاية الرئيس.. انطلاق المؤتمر العالمي صناعة المفتي الرشيد في عصر الذكاء الاصطناعي
  • المفتي: ثورة الذكاء الاصطناعي من أكبر التحديات التي عرفها العصر الحدي
  • اليوم.. انطلاق المؤتمر العالمي العاشر للإفتاء عن الذكاء الاصطناعي
  • عن الذكاء الاصطناعي.. غدا انطلاق المؤتمر العالمي العاشر للإفتاء