راشد بن عبدالله بن محمد الشيذاني -

عندما نسمع عن مصطلح السياسات عموما يتبادر إلى أذهاننا مباشرة أنّ هناك إجراءات متخذة للتأثير على تحقيق مصلحة معيّنة أو للتعامل مع حالة معينة بهدف تغيير الوضع العام، والأمر لا يختلف إطلاقا عند الحديث عن السياسات الاقتصادية فهي مجموعة من الإجراءات التي تتخذها الدول للتأثير على اقتصاداتها عبر مجموعة من الأدوات والقرارات الاقتصادية والمالية؛ بهدف تحقيق نموٍّ مستدام والوصول إلى مرحلة الاستقرار الاقتصادي، وبالتالي انعكاس ذلك على مستوى الرفاه المعيشي للمواطنين، لكن من خلال متابعتي المستمرة لأغلب النقاشات والأطروحات عن السياسات الاقتصادية سواءً في وسائل الإعلام أو وسائل التواصل الاجتماعي وحتى النقاشات المجتمعية، يلاحظ تعرّض المتلقي إرباكا من حيث المفاهيم المرتبطة بالسياسات الاقتصادية.

ويعتقد الكثير من الأفراد أن السياسات الاقتصادية مختلفة تماما عن السياستين النقدية والمالية التي تشرف عليها كل من البنك المركزي العُماني ووزارة المالية، وفي حقيقة الأمر أن كلتا السياستين هي أعمدة السياسات الاقتصادية التي تتخذها الدولة وتشرف عليها وزارة الاقتصاد وترصد مؤشراتها وتتابع موقفها التنفيذي، وبالتالي نجاح السياسات الاقتصادية يعتمد كليا على نجاح تفعيل أدوات السياستين المالية والنقدية؛ بهدف الوصول إلى مستوى آمن من الاستقرار الاقتصادي من خلال الحفاظ على التوازن في الأسعار واستقرارها عبر السيطرة على التضخم المرتفع أو ما يعرف بـHyperinflation الذي ربما يسبّب ركود تضخّمي وهي حالة من التباطؤ في معدلات النمو الاقتصادي؛ نتيجة الارتفاع الكبير في معدلات التضخم، وهنا من الجيد الإشارة إلى أن التضخم ليس كما يروّج له البعض بأنه ارتفاع سعر سلعة أو عدد محدود من أسعار السلع، الحقيقة والصواب أن التضخم هو الارتفاع العام للأسعار، فمثلا إذا حدث ارتفاع في أسعار سلع معينة لكن رافقه انخفاض في سلع أخرى فإن الفارق بين السلع هو يمثّل التضخم، على سبيل المثال لا الحصر ارتفاع أسعار الفواكه والخضراوات مع انخفاض أسعار الإيجارات والسيارات والكماليات فلا يعدّ تضخما في هذه الحالة، لكن في حال حدوث ارتفاع في مجمل السلع والخدمات، حينها نستطيع أن نعطي مؤشرا لمستوى التضخم، أيضا تهدف السياسات الاقتصادية إلى تحقيق التوازن في الميزان التجاري، ويوجد مثال على هذه الممارسة الاقتصادية وهي قيام رئيس الولايات المتحدة الأمريكية دونالد ترمب بفرض رسوم جمركية بنسب متفاوتة على سلع مستوردة من الدول؛ بهدف إيجاد توازن عادل في الميزان التجاري للولايات المتحدة الأمريكية. تطبيق أدوات السياسات الاقتصادية (المالية والنقدية) بفاعلية مثل فرض الضرائب بمختلف أنواعها، وتجويد الإنفاق الحكومي وحوكمته بحيث يتم ضمان تدوير الأموال والانتفاع منها مستقبلا بدلا من إنفاقها على الجوانب الاستهلاكية التي أرهقت الميزانية العامة للدولة في فترة ما عبر زيادة حجم الاستثمارات الأجنبية والمحلية، والسيطرة على التضخم بمعدل لا يتجاوز 2%، هذه العوامل جميعها إضافة إلى العزم الحكومي للسيطرة على الدين العام للدولة واقترابه من المستويات الأمنة بنحو 35% من الناتج المحلي الإجمالي والذي بلغ مستويات قياسية من الارتفاع مقارنة بحجم الناتج المحلي الإجمالي لسلطنة عُمان، كان لها دورٌ كبير في تحقيق يحقّق نمو اقتصادي مستدام، وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة شريطة ضمان تحقيق التوازن بين الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية وكذلك البيئية، فاستخدام الموارد الطبيعية بكفاءة وتعظيم الاستفادة من إيراداتها مع الحفاظ عليها، سيضمن تحقيق منافع اقتصادية وإيرادات مالية باستمرار طبعا في حال بذل جهود أكبر في البحث والتطوير والاستكشاف وتنمية الموارد البشرية، وكذلك قيام الدولة بتوزيع عادل للدخل بين أفراد المجتمع، وهو ما تقوم به سلطنة عُمان حاليا من خلال إطلاق منظومة الحماية الاجتماعية؛ بهدف التوزيع العادل للثروة وتعزيز التكافل الاجتماعي بين المواطنين من خلال تخصيص مبلغ لمنافع الحماية الاجتماعية؛ بهدف حمايتهم من الإجراءات المالية المتخذة للقيام بمعالجات مالية واقتصادية طارئة؛ بسبب تفعيل أدوات السياستين المالية والنقدية، وكذلك وفّرت فرص عمل للباحثين عن عمل والمنهاة خدماتهم بأعداد كبيرة رغم التحديات التي تواجه القطاعات الاقتصادية؛ نتيجة الصدمة الاقتصادية التي سببها وباء كوفيد19، وبالتالي نستطيع القول بأنّ سلطنة عُمان رغم تفعيل غالبية أدوات السياسات الاقتصادية، إلا أنها أخذت في الحسبان في قراراتها المالية والاقتصادية الموازنة بين الأبعاد الثلاثة الرئيسة وهي الاجتماعية والاقتصادية والبيئية،

وبالتالي نستطيع القول بأن نجاح السياسات الاقتصادية في سلطنة عُمان وتطبيقها بفاعلية وبالتزام تام وكفاءة عالية، ساعدت كثيرا في تحقيق نمو اقتصادي بلغ 1.7% في عام 2024 مع رصد ارتفاع في الناتج المحلي الإجمالي لسلطنة عُمان بالأسعار الثابتة إلى نحو 38 مليار ريال عُماني عام 2024م؛ بسبب نمو الأنشطة غير النفطية بمعدل 3.9% في عام 2024 وارتفاع القيمة المضافة للأنشطة غير النفطية إلى 27.9 مليار ريال عُماني في عام 2024.

إن السياسات الاقتصادية لا تتضمن فقط السياستين النقدية والمالية، وهناك سياسات أخرى تكوّن السياسات الاقتصادية لكنها لا يهتم الكثير لأمرها، وربما يعود ذلك إلى عدم تأثيرها المباشر على أفراد المجتمع ولا يتلمّس أثرها على مستوى الرفاه المعيشي ولا تؤثر على توفير متطلبات الحياة الاجتماعية اليومية، لكنها تؤثر على منظومة الاقتصاد الكلي، مثل السياسات التجارية التي تشمل التعريفات الجمركية بين الدول مثل ما أشرنا إليه في مقدمة المقال عن فرض الرسوم الجمركية الأمريكية، لكنها تستخدم لتنظيم التجارة الدولية وإبرام الاتفاقيات التجارية، إضافة إلى السياسات الهيكلية وهي في رأيي من أهم أنواع السياسات الاقتصادية؛ لدورها في تحسين الأداء الاقتصادي للقطاعات الاقتصادية على المدى الطويل، مثل السياستين الماليتين التوسعية والانكماشية، هاتان السياستان تظهران وفقا للحالة الاقتصادية التي تكون عليها الدولة، فمثلا عند استشراف المخططين والباحثين الاقتصاديين احتمالية حدوث ركود اقتصادي وإن كان جزئيا أو بنسبة متواضعة، فإنه في هذه الحالة يتم تفعيل أدوات السياسة المالية التوسعية من خلال زيادة الإنفاق الحكومي وتحفيز النمو الاقتصادي من خلال إقرار الإعفاءات الضريبية أو تأجيل تطبيقها في حال كان مقررا تطبيقها في فترة التنبؤ بحدوث ركود اقتصادي، أما السياسة المالية الانكماشية فهي عكس السياسة المالية التوسعية، وهي في مجملها تسعى إلى السيطرة على التضخم مع تخفيض أسعار الفائدة على الاقتراض للتشجيع عليه؛ بهدف تحفيز الإنفاق وتشجيع الاستثمار، وزيادة المعروض النقدي ودعم الصادرات من خلال رفع مستوى تنافسية المنتجات المحلية في الأسواق العالمية، لكن ينبغي الانتباه جيدا لمعدل التضخم خلال فترة تفعيل أدوات السياسة المالية الانكماشية؛ تفاديا لارتفاعه.

إنّ فهم آليات التفكير في تطبيق السياسات الاقتصادية مع القدرة على تحليل الفرص المحققة من خلال استخدام الأدوات التحليل الاقتصادي والإحصائي مثل أداة E-view في الاقتصاد القياسي (Econometrics) والنماذج الاقتصادية الأخرى، إضافة إلى فهم الأهداف الاقتصادية التي دفعت المخططين الاقتصاديين إلى تفعيلها، يعد ضرورة في رأيي لمواصلة تسجيل نمو واستقرار اقتصادي وبالتالي تحقيق التنمية المستدامة، وكذلك يضمن الفهم الكافي والصحيح لضرورة اتخاذ السياسات الاقتصادية؛ خاصة أنها أثبتت نجاحها في سلطنة عُمان للتعامل مع التحديات الاقتصادية والمالية، ونتج عنها نمو اقتصادي بنسب مرضية مع ضرورة الاشتغال على ابتكار أساليب جديدة في تطبيقها بحيث لا تؤثر على المشهد الاجتماعي العام للمواطنين، وكذلك من الجيد أن نفهم بأنه لا توجد حلول مثالية لا تتضمن آثار جانبية للتعامل مع المشهد الاقتصادي، فعلم الاقتصاد قائم على التنبؤ واستنباط النتائج من الدراسات واستشراف المستقبل.

راشد بن عبدالله بن محمد الشيذاني/ باحث ومحلل في الشأن الاقتصادي

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: السیاسات الاقتصادیة الاقتصادیة التی السیاسة المالیة تفعیل أدوات من خلال

إقرأ أيضاً:

وزير المالية الأسبق يكشف مفتاح النمو المستدام لمصر

قال الدكتور سمير رضوان، وزير المالية الأسبق، إن الدين الخارجي لمصر وصل إلى 161.2 مليار دولار، وخدمة الدين تستوعب من 45 إلى 60% من الإيرادات العامة، ما يشكل عبئاً كبيراً على الموازنة.

الرقابة المالية تُلزم صناديق التأمين الحكومية بالاستثمار بأسهم البورصة عبر صناديق الاستثمار المفتوحة وزير المالية: شغلنا الشاغل تحسين حياة الناس «بقدر المستطاع»

وأكد رضوان في لقائه مع الإعلامي أحمد سالم، ببرنامج كلمة أخيرة الذي يذاع عبر قناة أون، أن الأموال الساخنة المستخدمة في فترات سابقة معرضة للسحب المفاجئ، مشيراً إلى تأثير الأزمة العالمية في حرب روسيا وأوكرانيا على تراكم الديون.

وأضاف أن المرحلة الحالية تمثل فرصة ذهبية لإعادة النظر في نموذج التنمية الحالي، والانتقال من إدارة الأزمات إلى إدارة المستقبل، مع التركيز على القطاعات الإنتاجية والبنية الأساسية.

التركيز على القطاعات الإنتاجية والخدماتية لتحقيق نمو مستدام

أكد  وزير المالية الأسبق، على أهمية التركيز على القطاعات الإنتاجية والخدماتية لتحقيق نمو مستدام، مشيراً إلى أن السياحة يمكن أن تكون قطاعاً قائداً سريع النمو إذا تم استغلال البنية التحتية والموارد بشكل أمثل، فيما تحتاج الصناعة والزراعة إلى وقت أطول للتطور.

وأوضح  وزير المالية الأسبق أن زيادة تحويلات المصريين بالخارج والاستقرار الاقتصادي يجب توجيهها نحو دعم القطاعات الإنتاجية لتقليل الاعتماد على الواردات، مشدداً على ضرورة وضع سياسات صناعية متكاملة لضمان معدلات نمو مستمرة وتحقيق الاستفادة الكاملة من الموارد المتاحة.

وأكد سمير رضوان أن معدل النمو الاقتصادي في السنوات العشر الأخيرة بلغ حوالي 3.5%، وأن هناك حاجة لطفرة حقيقية في النمو لضمان استدامة الاقتصاد وتخفيف عبء الديون، مع الإشارة إلى أن تحسن الصادرات غير البترولية وتحويلات المصريين في الخارج يُظهر مؤشرات إيجابية لكنها غير كافية.

 

مقالات مشابهة

  • البنك المركزي الكيني يخفض سعر الفائدة للمرة التاسعة على التوالي لدعم النمو
  • الصين تتعهد بإبقاء النمو الاقتصادي ضمن النطاق المعقول
  • معلومات الوزراء يرصد تطورات المشهد الاقتصادي العالمي خلال عام 2025
  • الأردن يعزز صادراته ويواصل النمو الاقتصادي المستدام
  • البنك الدولي: النمو الاقتصادي في 2025 خالف التوقعات المتشائمة
  • كجوك: السياسات المالية لابد أن تستهدف زيادة الإنتاجية والصادرات بجانب تحسين مؤشرات المديونية
  • وزير المالية: النمو الاقتصادي يتسارع بالربع الأول من العام ويتجاوز 5.3%
  • البنك الدولي: النمو الاقتصادي في عام 2025 يخالف التوقعات المتشائمة
  • وزير المالية الأسبق يكشف مفتاح النمو المستدام لمصر
  • تنسيق حكومي مصرفي لتعزيز الاستقرار المالي ودعم النمو الاقتصادي في مصر