التقارب المصري-الإيراني في السياق الراهن
تاريخ النشر: 14th, August 2025 GMT
14 غشت، 2025
بغداد/المسلة:
التقارب المصري-الإيراني في السياق الراهن
ناجي الغزي
في لحظة إقليمية تغلي بالأحداث والصراعات والتحولات، يتقدم مشهد التقارب المصري الإيراني كواحد من أبرز المؤشرات على التحول في بنية العلاقات بين القوى الكبرى في الشرق الأوسط. هذا التقارب، وإن لم يصل بعد إلى مستوى التحالف الاستراتيجي، إلا أنه يحمل في طياته دلالات استراتيجية وجيوسياسية متعددة وعميقة، تتجاوز الحسابات الثنائية إلى أبعاد إقليمية ودولية تعكس حراكا متسارعا في توازنات القوة والاصطفاف.
*أولاً: الجذور التاريخية للعلاقة وصراعات الهوية والموقع*
لم تكن العلاقة بين القاهرة وطهران يوما علاقة مستقرة أو محكومة بالمصالح المجردة. لقد تباينت جذرياً تبعاً لتحولات النظامين السياسيين في طهران والقاهرة وتغير موقعيهما في النظام الدولي. ففي عهد عبد الناصر، حين كانت القاهرة تتبنى مشروعا قوميا مناهضا للغرب، اصطدمت مع نظام الشاه الموالي للولايات المتحدة. ثم ما لبثت أن شهدت تقاربا محدودا إبان حكومة مصدق، ليعود التباعد مع انقلاب 1953 وعودة الشاه. ومع صعود السادات وتحوله نحو الغرب وتوقيعه اتفاقية السلام مع إسرائيل، أصبح الشاه حليفا مقربا، في حين تحولت طهران بعد الثورة الإسلامية إلى خصم عقائدي لنهج “كامب ديفيد”.
من هنا، يتضح أن العلاقات لم تكن يوما مجرد انعكاس لتفاهمات أو خلافات ثنائية، بل كانت مرآة حقيقية لاصطفافات كبرى، تلعب فيها واشنطن وتل أبيب الدور الحاسم. وعليه، فإن أي حديث عن تقارب مصري – إيراني لا يمكن فصله عن خارطة التحالفات الإقليمية والدولية التي تتحكم ببنية القرار السياسي لكلا الدولتين.
*ثانياً: التوقيت والدلالات… لماذا الآن؟*
السؤال الجوهري هنا ليس “هل تتقارب مصر وإيران؟”، بل “لماذا يحدث هذا التقارب الآن؟”. والإجابة تتفرع إلى عدة مستويات:
1. تغير البيئة الإقليمية: منذ انفجار الحرب في غزة في السابع من أكتوبر، والتعاطي الإسرائيلي – الأمريكي مع الصراع بات أكثر انكشافا في طموحاته التوسعية، ليس فقط تجاه الفلسطينيين بل تجاه إعادة تشكيل الإقليم لصالح تسييد إسرائيل كقوة مركزية. تصريحات ترامب على سبيل المثال عن “صغر حجم إسرائيل على الخريطة وضرورة توسعها”، تشير الى ما يُرسم في الكواليس أخطر مما يُعلن. في هذا السياق، تدرك مصر وإيران، رغم خلافاتهما، أنهما مهددتان بدرجات متفاوتة من هذا المشروع الإقليمي الأميركي-الإسرائيلي.
2. الإجهاد الاستراتيجي للطرفين: كما هو معروف أن القاهرة تعاني من أزمات اقتصادية طاحنة، وضغوط داخلية وخارجية متصاعدة، بينما تواجه طهران حصارا وعقوبات، وملفاً نووياً مفتوحاً، وصراعاً مع تل أبيب يمتد من سوريا إلى العراق واليمن. ومن هذا المنظور، يتشكل الوعي بضرورة “تخفيف جبهات العداء”، على الأقل مرحلياً، وتوظيف المشتركات لتقليل حدة التهديدات المشتركة.
3. الوساطات طويلة النفس: مسار التقارب بين طهران والقاهرة لم يأتي فجأة، بل تشكل عبر سنوات من الوساطات الهادئة في بغداد ومسقط، وجرت خلاله محاولات خجولة لبناء الثقة. وصول العلاقات إلى مستوى تبادل تجاري بلغ 17 مليون دولار خلال ثمانية أشهر، وزيادة بنسبة 67% في هذا التبادل، ليست مجرد مصادفة بل مؤشر على رغبة الطرفين في “اختبار إمكانات الانفتاح”.
4. الملفات المشتركة (سوريا، غزة، باب المندب): ليست المصالح الاقتصادية وحدها هي التي تحرك التقارب والعلاقات الثنائية. فالقاهرة، على سبيل المثال، لم تعد متحمسة لإسقاط النظام السوري، وهي تنظر بقلق شديد لأي انفجار في البحر الأحمر قد يهدد قناة السويس، بينما تعتبر طهران باب المندب ساحة اشتباك استراتيجي. أما غزة، فهي القضية التي يمكن أن تشكل مخرجا رمزيا لبناء تنسيق مشترك، لا سيما أن طهران مستعدة لتمويل مساعدات الى غزة تمر عبر القاهرة، دون أن تظهر علانية في الصورة.
*ثالثاً: حدود التقارب ومصادر التعقيد*
مع ذلك، لا يمكننا أن نغفل عن التحديات البنيوية التي تقف في وجه هذا المسار:
• التحالفات الاستراتيجية لمصر: العلاقة العميقة بين القاهرة وواشنطن، والارتباطات الأمنية والسياسية باتفاقية كامب ديفيد، تجعل من الصعب تخيل تحول جذري في سياسة مصر الخارجية دون تنسيق أو على الأقل دون تجاوز للخطوط الحمراء الأميركية.
• الموقف من الحركات المسلحة: القاهرة ترفض من حيث المبدأ دعم الحركات المسلحة أو الميليشيات، بينما تعتبرها إيران أداة مركزية في نفوذها الإقليمي (من حزب الله إلى الحوثيين إلى حماس). هذا التباين البنيوي يجعل من الصعب قيام تحالف استراتيجي حقيقي، لكنه لا يمنع التعاون المرحلي في ملفات محددة.
• الإرث التاريخي والصراعات الرمزية: الشارع الذي يحمل اسم خالد الإسلامبولي في طهران، والمقبرة التي تضم الشاه في القاهرة، ليست مجرد قضايا رمزية، بل شواهد على تعقيد الذاكرة السياسية المتبادلة. ومع ذلك، فإن “السياسة لا تعيش في ظل الذكريات” الجديد يطغى على القديم عندما تقتضي المصلحة.
*رابعاً: سيناريوهات المستقبل*
في ظل التحولات المتسارعة التي يشهدها الشرق الأوسط، يبرز التقارب المصري-الإيراني كمؤشر على تغير في موازين القوى الإقليمية، وكنقطة انطلاق محتملة لإعادة رسم خرائط النفوذ والتحالفات. ومع أن هذا التقارب لا يزال في مراحله الأولى، إلا أنه يطرح عدة سيناريوهات محتملة لمستقبل العلاقة بين البلدين، تتراوح بين التعاون الانتقائي، والتدرج نحو تطبيع شامل، وحتى احتمال التراجع والانكفاء. وتنبع أهمية هذه السيناريوهات من تأثيرها المحتمل على قضايا إقليمية حساسة مثل غزة، وأمن البحر الأحمر، والصراع في سوريا، فضلًا عن انعكاساتها على التوازنات الدولية في المنطقة.
• سيناريو التعاون الانتقائي: وهو الأكثر ترجيحا حاليا، بحيث تنخرط مصر وإيران في تنسيق محدود في ملفات مثل غزة أو البحر الأحمر أو الملف السوري، دون أن يبلغ ذلك مستوى التحالف الكامل أو إعادة العلاقات الدبلوماسية الشاملة.
• سيناريو التدرج نحو تطبيع كامل: إذا تراجعت الضغوط الأميركية، واستمر التنسيق المصري السعودي الإيراني، فقد يشهد العقد القادم إعادة فتح السفارات، وتوسيع الشراكات الاقتصادية، وربما تشكيل محور ثلاثي (مصر-إيران-تركيا) يعيد رسم التوازنات في الإقليم.
• سيناريو الانكفاء والعودة للتوتر: وهو احتمال وارد إذا ما تغيرت القيادة السياسية في أي من البلدين، أو إذا ما تحركت الولايات المتحدة لفرض ضغوط قاسية على القاهرة عبر ملف المساعدات أو صندوق النقد، لمنع أي تقارب قد يضعف النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط.
من خلال هذه القراءة نستنتج أن التقارب بين مصر وإيران اليوم لم يكن صدفة، وليس مجرد تعبير عن رغبة ذاتية في تحسين العلاقات، بل هو نتاج لحظة إقليمية مأزومة، ومحاولة كلا الطرفين للتموضع مجددا في نظام إقليمي ودولي يُعاد تشكيله. إنهما قوتان حضاريتان كبيرتان، تفهمان جيدا أن الغياب عن صياغة معادلات القوة في المنطقة هو تنازل مجاني عن الدور والمصالح.
قد لا يقود هذا التقارب إلى تحالفات شاملة قريبا، لكنه بالتأكيد يفتح نافذة لتحولات أعمق في موازين القوى الإقليمية، خاصة إذا ما أدركت باقي القوى الكبرى – من السعودية إلى تركيا – أن التحدي الأكبر الذي يواجه الجميع لم يعد فقط سياسيا، بل وجوديا.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts
المصدر: المسلة
كلمات دلالية: هذا التقارب مصر وإیران
إقرأ أيضاً:
وفاة الكاتب المصري صنع الله إبراهيم عن 88 عاما
القاهرة - رويترز
قالت وزارة الثقافة المصرية اليوم الأربعاء إن الكاتب المصري صنع الله إبراهيم توفي عن عمر ناهز 88 عاما.
وقال وزير الثقافة أحمد فؤاد هنو في بيان إن الراحل "مثل أحد أعمدة السرد العربي المعاصر، وامتازت أعماله بالعمق في الرؤية، مع التزامه الدائم بقضايا الوطن والإنسان، وهو ما جعله مثالا للمبدع الذي جمع بين الحس الإبداعي والوعي النقدي".
ولد إبراهيم في القاهرة عام 1937 وتشرب حب القصص والروايات من والده الذي يصفه بأنه كان "حكاء بارعا" ويملك مكتبة ثرية بالأعمال العالمية والإصدارات الحديثة.
درس الحقوق لكنه سرعان ما انصرف عنها إلى السياسية والصحافة. انتمى إلى تيار اليسار وكان له نشاط سياسي أدى إلى اعتقاله لفترات قصيرة قبل أن يسجن لخمس سنوات بين 1959 و1964 وهي التجربة التي ألهمته العديد من مؤلفاته لاحقا منها كتاب (يوميات الواحات).
عمل في وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية ثم محررا بالقسم العربي لوكالة أدن الألمانية في برلين التابعة لجمهورية ألمانيا الديمقراطية وبعدها سافر إلى موسكو في منحة لدراسة التصوير السينمائي.
عاد إلى مصر عام 1974 وقرر بعدها التفرغ للأدب والترجمة وتحولت بعض أعماله إلى أعمال تلفزيونية وسينمائية.
من أبرز مؤلفاته (تلك الرائحة) و(67) و(نجمة أغسطس) و(اللجنة) و(أمريكانلي) و(برلين 69) و(بيروت بيروت) و(شرف) و(ذات).
نال جائزة مؤسسة سلطان العويس الثقافية وحصل على جائزة مؤسسة ابن رشد للفكر الحر لكنه في عام 2003 أثار جدلا في الوسط الأدبي حين اعتذر عن عدم تسلم جائزة "ملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي" بسبب موقفه من الحكومة آنذاك.