قصف الدوحة.. من يحاسب نتنياهو على كسر حصانة الوسيط؟
تاريخ النشر: 10th, September 2025 GMT
عصر أمس، لم يكن "حي كتارا" الثقافي في العاصمة القطرية الدوحة مسرحًا لفعالية فنية كما اعتاد، بل اهتزّ على وقع انفجاراتٍ هزّت الخليج والمنطقة معًا. وأعلنت إسرائيل فورًا أنها استهدفت قيادات من حركة المقاومة الإسلامية "حماس" كانوا في اجتماع تفاوضي برعاية قطرية أميركية.
المشهد كان صادماً، ليس لأنه الأول من نوعه فحسب، بل لأنه كسر قاعدة غير مكتوبة في الصراعات الحديثة، وهو أن الوسطاء محصّنون بحكم أدوارهم، والدول التي تستضيف التفاوض تُعامل كأرض محايدة.
بعد الهجوم مباشرة، صبّت قطر غضبها على إسرائيل ووصفت الضربة الجوية بأنها "هجوم غادر" و"إرهاب دولة" ومحاولة لزعزعة الأمن والاستقرار الإقليمي. وقال رئيس الوزراء القطري الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني، إن بلاده لن تتردّد في الرد، معلنًا تشكيل فريق قانوني لإعداد ملف لعرضه في المحافل الدولية. كما شدّد على أن الوساطة القطرية لن تتوقف، مؤكدًا أن "لا شيء سيثني قطر عن مواصلة دورها" في البحث عن اتفاق لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى.
في واشنطن، خرج الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن صمته ليعبّر عن امتعاضه من مكان الضربة، قائلاً إنه لم يوافق مسبقًا على العملية وإن التبليغ الأميركي جاء "متأخرًا جدًا". وأصدر البيت الأبيض بيانًا وصف فيه الهجوم بأنه "غير موفق" من الناحية الدبلوماسية، موضحًا أن إسرائيل لم تُخطر الولايات المتحدة إلا بعد وقوعه، في خطوة نادرة تعكس توترًا بين الحليفين.
في حصيلة المشهد، بدا واضحًا أن الضربة لم تُستقبل كعمل عسكري فحسب، بل كخطوة سياسية فجّرت غضبًا دوليًا متصاعدًا. وبات مؤكدا أن قطر ستخوض معركة قانونية لتثبيت حقها السيادي، فيما تحاول واشنطن امتصاص التداعيات من دون خسارة شريكيها.
إعلانأما الأمم المتحدة فوضعت الملف على طاولة القانون الدولي، بينما أجمعت عواصم عربية وغربية على ضرورة إنقاذ المسار التفاوضي من الانهيار. ومع أن الغبار بالكاد انقشع فوق سماء حي كتارا القطري، إلا أن ارتداداته الدبلوماسية قد ترسم خطوط مواجهة جديدة، تمتد من قاعات التفاوض إلى قاعات المحاكم الدولية.
من منظور القانون الدولي، الإجابة نعم. فتل أبيب ارتكبت خرقًا واضحًا لسيادة دولة مسالمة عضو في الأمم المتحدة، واستهدفت وفدًا سياسيًا، وأظهرت نمطًا من السلوك يرقى إلى وصف "الانتهاك الممنهج".
لكن النظام الدولي الحالي بتوازناته وأحلافه، يفرض مسارا مسيّسا على هذه المحاكمة. فالولايات المتحدة تعارض دوما جرّ حليفتها إلى قفص الاتهام، وأوروبا منقسمة بين مصالحها الأمنية والاقتصادية وأخلاقياتها المعلنة.
ومع ذلك، ما حدث في الدوحة يترك أثرًا بعيد المدى، فالدول المسالمة ستشعر أن دور الوسيط لم يعد آمنًا، وأن استضافة وفود النزاع قد تجرّها إلى قلب الصراع. وهذا بحد ذاته يُضعف قدرة المجتمع الدولي على إدارة الأزمات بالحوار.
المطاردة القانونية لإسرائيل.. الأسس والآفاق والمحاكم الممكنةأثار القصف الإسرائيلي الذي استهدف وفد حماس التفاوضي في الدوحة عاصفة من الإدانات، لكنه فتح أيضًا الباب أمام سؤال قانوني ملحّ: هل يمكن ملاحقة إسرائيل على هذا العمل أمام القضاء الدولي؟ وما هي الأسس التي يمكن أن تستند إليها قطر في معركتها المقبلة؟
من الناحية القانونية، يبدو الملف متينًا. فالميثاق التأسيسي للأمم المتحدة يحرّم في مادته الثانية استخدام القوة أو التهديد بها ضد سلامة أراضي أي دولة أو استقلالها السياسي. وقطر، بوصفها دولة غير محاربة، تعرضت لعدوان مباشر على سيادتها، وهو ما يجعل الضربة خرقًا صريحًا لهذا النص. أما اتفاقيات جنيف لعام 1949 التي تنظّم قوانين الحرب، فهي تحظر استهداف المدنيين والأعيان غير العسكرية.
ومن الواضح أن اجتماع وفد سياسي في عاصمة ثالثة لا يدخل ضمن تعريف "الأهداف العسكرية المشروعة". وبذلك يمكن توصيف العملية باعتبارها "هجومًا غير مميّز" يتجاوز حدود النزاع المسلح. يضاف إلى ذلك تعريف العدوان الذي أقرته الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1974، والذي ينطبق على هذه الحالة بوضوح، وهو استخدام قوة مسلحة ضد سيادة وسلامة إقليم دولة أخرى. ورغم غياب نص صريح يمنح الوفود التفاوضية حصانة خاصة، فإن الأعراف الدبلوماسية والقانون العرفي الدولي يفرضان على الدولة المضيفة حمايتها، مما يجعل استهدافها خرقًا لمبدأ حسن النية في العلاقات الدولية.
لكن أين يمكن مقاضاة إسرائيل أو قادتها؟محكمة العدل الدولية تبدو الخيار الأول، إذ تختص بالنزاعات بين الدول، ويمكن لقطر أن ترفع دعوى بتهمة انتهاك سيادتها. غير أن إسرائيل لم تعترف بالولاية الإلزامية للمحكمة، وهو ما يعني أن الدعوى قد تصطدم برفضها ما لم يتدخّل مجلس الأمن.
أما المحكمة الجنائية الدولية التي تختص بمساءلة الأفراد، فلها ولاية على جريمة العدوان منذ عام 2010. والمشكلة أن إسرائيل ليست طرفًا في نظام روما الأساسي، وقطر أيضًا لم تنضم إليه، مما يجعل الإحالة عبر مجلس الأمن الطريق الوحيد، وهو مسار يصطدم مجددًا بجدار الفيتو الأميركي.
هناك أيضًا خيار القضاء الوطني عبر مبدأ "الاختصاص العالمي"، الذي يمنح بعض المحاكم في دول مثل إسبانيا وبلجيكا وجنوب أفريقيا صلاحية النظر في جرائم الحرب حتى لو ارتُكبت خارج حدودها. ويمكن لقطر أو حلفائها تقديم شكاوى أمام هذه المحاكم، وهو مسار سبق أن استُخدم ضد قادة روانديين، وحاول ناشطون تطبيقه على مسؤولين إسرائيليين في بريطانيا. إلى جانب ذلك، يمكن تفعيل آليات الأمم المتحدة نفسها، فمجلس الأمن قادر من الناحية النظرية على إصدار قرار يصف الهجوم بالعدوان ويحيل المسؤولين إلى المحكمة الجنائية الدولية، في حين تستطيع الجمعية العامة، إذا عُطّل المجلس بالفيتو، اللجوء إلى آلية "الاتحاد من أجل السلام" لإصدار قرار غير ملزم يمنح قطر غطاءً سياسيًا إضافيًا.
إعلانوتظل آفاق المطاردة الواقعية معقّدة. فالفيتو الأميركي يمثل العقبة الأبرز، إذ تلتزم واشنطن بحماية إسرائيل من أي محاسبة دولية. لذلك قد تسعى قطر إلى مسارات بديلة، مثل اللجوء إلى محاكم أوروبية، أو الدفع نحو تشكيل لجنة تحقيق دولية عبر مجلس حقوق الإنسان، أو حتى ممارسة ضغط دبلوماسي واقتصادي على شكل عقوبات ومقاطعة. وحتى لو لم تصل هذه المساعي إلى محاكمات فعلية، فإن تحريك الملفات القانونية بحد ذاته يضع قادة إسرائيل تحت ضغط دائم، ويقيد حركتهم في السفر إلى دول معينة خشية الملاحقة.
الاحتمالات العملية تتفاوت بحسب المدى الزمني. ففي الأمد القصير، من الصعب رؤية محاكمة مباشرة لرئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو -المطلوب أصلا للمحكمة الجنائية الدولية- أو كبار قادة الجيش. لكن على المدى المتوسط، قد تتمكن قطر من استصدار قرار من الجمعية العامة أو تحريك قضايا أمام محاكم أوروبية، مما يحدّ من حرية تحرك القادة الإسرائيليين. وعلى المدى البعيد، قد يشكّل تراكم الملفات والشكاوى أساسًا لمحاكمات إذا تغيّرت موازين القوى الدولية أو تبدّل المشهد السياسي العالمي.
في المحصلة، يبقى الأساس القانوني لمحاسبة إسرائيل متينًا، فثمة انتهاك واضح لميثاق الأمم المتحدة، وخرق لقواعد القانون الإنساني، وتَطابق مع تعريف العدوان الدولي. لكن الطريق مليء بالعقبات السياسية، وعلى رأسها الحماية الأميركية التقليدية، لذلك ستعتمد معركة قطر على مزيج من التحرك القانوني عبر الدعاوى الدولية والضغط الدبلوماسي عبر حشد المواقف، لتثبيت سردية أن إسرائيل دولة مارقة تستحق المساءلة، حتى لو تأجّلت المحاكمة العادلة إلى يوم آخر.
ما تستطيع قطر فعله هو تحويل الضربة إلى ملف قانوني دائم، يُبقي نتنياهو وحكومته تحت ضغط سياسي ودبلوماسي، ويكرّس صورة إسرائيل كدولة مارقة فوق القانون. وهكذا، يبقى الحساب القانوني مؤجّلًا، فيما يظل الاتهام الأخلاقي حاضرًا، أي أن من يجرؤ على قصف طاولة التفاوض قد أفلس من منطق السلام، وأفلس أكثر من حصانة العدالة.
نتنياهو وشركاؤه.. قيادة خارج حدود الدبلوماسيةفي قلب هذه العملية يقف بنيامين نتنياهو، أطول رؤساء الحكومات بقاءً في إسرائيل، الرجل الذي بنى مجده السياسي على خطاب الأمن والقوة. فمنذ عودته إلى الحكم، أحاط نفسه بتحالف هو الأكثر يمينية وتطرفًا في تاريخ الدولة العبرية، إنهم وزراء من أحزاب دينية وقومية يعتبرون القانون الدولي قيدًا يجب كسره، والدبلوماسية ضعفًا يجب تجنبه.
ومنذ عودته الأخيرة إلى رئاسة الوزراء، بدا نتنياهو وكأنه يقود إسرائيل عبر أخطر منعطف في تاريخها. فالرجل الذي وُصف في التسعينيات بـ"الساحر" لقدرته على المناورة السياسية، بات اليوم زعيمًا محاصرًا بملفات الفساد في الداخل، ومعتمدًا على تحالف هو الأكثر تطرّفًا في تاريخ إسرائيل.
في مجلس وزرائه، يجلس وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، الرجل الذي بُنيت مسيرته السياسية على خطاب كراهية العرب وتمجيد إرث جماعة كهانا المتطرفة. ولا يُخفي بن غفير رغبته في طرد الفلسطينيين، ولا يرى في المفاوضات إلا تضييعًا للوقت. ويُمثل بملامحه الحادة وخطابه الشعبوي الوجه الفجّ لليمين الإسرائيلي الذي لا يضع أي وزن للدبلوماسية أو القانون الدولي.
إلى جانبه، يقف وزير المالية وزعيم "الصهيونية الدينية" بتسلئيل سموتريتش، الذي أعلن في أكثر من مناسبة أن "الشعب الفلسطيني وهم"، ودعا إلى محو قرى بأكملها في الضفة الغربية. ويمثّل سموتريتش -الذي يسيطر على مفاصل التمويل والاستيطان- العقل الإستراتيجي لمشروع إحكام القبضة على الأراضي المحتلة، متكئًا على خطاب ديني قومي يَعتبر أن حدود إسرائيل لا تتحدد باتفاقيات وإنما بوصايا التوراة.
إعلانهذا الثنائي، إلى جانب نتنياهو، يضع الجيش أمام خيار واحد: التقدّم بلا هوادة. وفي المؤسسة العسكرية يبرز قادة ميدانيون يتعاملون مع غزة كحقل تجارب لاختبار أحدث التكتيكات. والضربة في الدوحة، بقدر ما هي عملية استخباراتية عسكرية، هي أيضًا انعكاس لرؤية هؤلاء، إنها القوة وحدها تفرض السياسة، وأي قيد قانوني أو دبلوماسي لا يعدو كونه عائقًا يمكن تجاوزه.
هؤلاء القادة مجتمعون يشكلون نموذجًا شاذا، فهم سلطة لا تعترف بحدود الدبلوماسية التقليدية، ولا ترى في القانون الدولي سوى عائق أخلاقي يمكن تجاوزه بذرائع الأمن. فمن الدوحة إلى دمشق، ومن غزة إلى طهران، يتعاملون مع الخارطة السياسية وكأنها مسرح عمليات مفتوح، حيث يُمكِن للصاروخ أن يحل محل المفاوضات، وللاستخبارات أن تسبق الدبلوماسية.
أي دولة هذه؟من زاوية أوسع، يكشف السلوك الإسرائيلي عن ملامح دولة مارقة بالمعنى الكلاسيكي للكلمة، فهي دولة تمتلك أدوات القوة النووية والعسكرية والاقتصادية، لكنها لا تخضع لمساءلة حقيقية في النظام الدولي، وتتصرف وفق الخريطة التالية:
في مجلس الأمن: يحميها فيتو أميركي دائم، فيجعلها بمنأى عن العقوبات. في المحاكم الدولية: ترفض الانضمام إلى آليات المحاسبة مثل المحكمة الجنائية الدولية، وتمنع قادتها من المثول أمام أي هيئة قضائية دولية. في الرأي العام العالمي: تتلاعب بصورة "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، بينما تُمارس في غزة سياسات حصار وقصف وحرمان تتجاوز خطوط القانون الإنساني.وبذلك تبدو إسرائيل اليوم أقرب إلى نموذج "الدولة الاستثناء" التي تفرض قواعدها على الآخرين ولا تسمح لأحد بمحاكمتها. لكن الضربة في الدوحة أخرجت هذا السلوك من سياق الحرب المباشرة إلى فضاء الدبلوماسية العالمية، هنا لم تقصف مواقع عسكرية في غزة، بل استهدفت وفدا تفاوضيا في أرض وسيط. إنها لحظة كاشفة، تفضح أن إسرائيل لم تعد تكترث حتى بالغطاء الدبلوماسي الذي كان يحميها سابقًا.
بقيادة ثلاثية التطرف كهذه، تظهر إسرائيل اليوم كنموذجٍ لدولة مارقة، ليس لأنها تتحدّى خصومها المسلحين في ساحة حرب، بل لأنها تضرب بعرض الحائط مفاهيم السيادة والدبلوماسية. إنها دولة تحظى بغطاء أميركي يمنع محاسبتها في مجلس الأمن، وترفض الانضمام إلى المحكمة الجنائية الدولية، وتتعامل مع القوانين الإنسانية باعتبارها "ترفًا أخلاقيًا" لا مكان له في ميدان الصراع.
ما فعله نتنياهو وحكومته في الدوحة يتجاوز إطار معركة عسكرية؛ إنه تكثيف لرؤية كاملة، فحواها أن العالم ساحة مفتوحة لإرادة القوة، وأنه لا خطوط حمراء إذا كان الهدف ترسيخ الردع والسيطرة. لكن المفارقة أنّ هذه الرؤية، وإن بدت قوة لحظة التنفيذ، قد تُسجّل في التاريخ كفصل جديد في عزلة إسرائيل، وكمحطة تُضاف إلى قائمة الأدلة ضد قادتها في أي محكمة دولية قادمة.
الخروج من الصورةالضربة في الدوحة لم تكن فقط عملية عسكرية؛ بل هي مرآة تعكس طبيعة قيادة إسرائيل الحالية؛ حكومة يمينية لا ترى في القانون الدولي سوى عائق، وجيشًا يترجم القوة إلى سياسة خارجية، ورئيس وزراء يوازن بدماء الآخرين حساباته الداخلية. إن دولة تتصرف على هذا النحو، وتتعامل مع القانون والأعراف بوصفها "اختيارات اختيارية"، لا يمكن أن تُوصف إلا بأنها دولة مارقة، مكانها الطبيعي في قفص المحاسبة أمام العالم.
لكن العالم، حتى اللحظة، يشيح بوجهه.
ومع ذلك، فإن القصف الذي مزّق سماء الدوحة لم يفتح فقط ملف العدالة الدولية، بل أعاد طرح السؤال الذي يتردّد في عواصم الإقليم وعواصم العالم: بعد أن ملأ نتنياهو الشرق الأوسط بالحروب والاعتداءات وانتهاك حرمة الدول المحاورة، ألم يحن الوقت لإخراجه من الصورة؟
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: غوث حريات دراسات أبعاد المحکمة الجنائیة الدولیة القانون الدولی الأمم المتحدة دولة مارقة مجلس الأمن أن إسرائیل فی الدوحة
إقرأ أيضاً:
من هو رائد سعد الذي اغتالته إسرائيل بعد 35 عاما من المطاردة؟
غزة- أعلن جيش الاحتلال الإسرائيلي مساء اليوم السبت اغتيال رائد سعد القيادي في كتائب القسام الجناح العسكري لحركة حماس، باستهداف سيارة مدنية على الطريق الساحلي جنوب غرب مدينة غزة.
وزعم الاحتلال أن اغتيال سعد جاء ردا على خرق لاتفاق وقف إطلاق النار، بتفجير عبوة ناسفة في وقت سابق بقوة من الجيش الإسرائيلي داخل غزة، لكن القناة الـ 12 العبرية قالت إنه "تم استغلال الظروف المواتية لاغتياله دون أي علاقة بأي انتهاك للتهدئة".
وأطلق الجيش الإسرائيلي على عملية اغتيال سعد اسم "وجبة سريعة"، حيث سنحت له الفرصة لاغتيال الرجل الثاني حاليا في الجناح العسكري لحركة حماس، بعد القيادي عز الدين الحداد الذي يقود كتائب القسام.
وباغتيال رائد سعد تكون إسرائيل قد نجحت في الوصول إليه بعد أكثر من 35 عاما من المطاردة، تعرض خلالها للكثير من محاولات الاغتيال.
مسيرة قيادية
ولد رائد حسين سعد في الخامس عشر من أغسطس/آب عام 1972 في مخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، والتحق مبكرا بصفوف حركة حماس، وبدأ الاحتلال يطارده في بداية الانتفاضة الأولى التي اندلعت عام 1987.وعتقلته قوات الاحتلال أكثر من مرة.
حصل على درجة البكالوريوس في الشريعة من الجامعة الإسلامية أثناء وجوده في السجن عام 1993، حيث كان نشطا حينها في الكتلة الإسلامية الذراع الطلابي لحركة حماس، وحصل سعد على شهادة الماجستير في الشريعة من الجامعة نفسها عام 2008.
وبحسب المعلومات الخاصة التي حصلت عليها الجزيرة نت، التحق سعد بالعمل العسكري مبكرا، وعمل مع قدامى المطاردين من كتائب القسام أمثال سعد العرابيد، ويعتبر من أواخر جيل المطاردين في مرحلة انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000.
وتولى سعد منصب لواء غزة الشمالي في كتائب القسام عام 2007، وكان ممن أشرفوا على تأسيس وتأهيل القوة البحرية للكتائب في غزة.
إعلانوفي عام 2015 ترأس ركن العمليات، وكان عضوا ضمن مجلس عسكري مصغر مكون من قيادة كتائب القسام في قطاع غزة، إلى جانب القياديين محمد الضيف ومروان عيسى، وذلك في الفترة الواقعة بين عامي 2012 و 2021.
كيف تناول الإعلام الإسرائيلي عملية اغتيال رائد سعد في غزة؟.. التفاصيل مع مراسلة #الجزيرة فاطمة خمايسي#الأخبار pic.twitter.com/gLL2nMKLsc
— الجزيرة فلسطين (@AJA_Palestine) December 13, 2025
تقول إسرائيل إن سعد كان مسؤولًا عن الخطط العملياتية للحرب، حيث أشرف على خطوتين استراتيجيتين شكّلتا أساس الاستعداد التنفيذي لعملية طوفان الأقصى: الأولى إنشاء كتائب النخبة، والثانية إعداد خطة "سور أريحا"، الهادفة إلى حسم المعركة ضد فرقة غزة في الجيش الإسرائيلي.
وزعم الاحتلال -خلال الحرب الأخيرة على غزة- اعتقاله أثناء اقتحام مجمع الشفاء الطبي في مارس/آذار 2024، ونشر صورته حينها ضمن مجموعة ممن تم اعتقالهم، قبل أن يعترف بأنها وردت بالخطأ مما يشير إلى ضعف المعلومات الاستخبارية المتوفرة عنه لدى الاحتلال الإسرائيلي.
وتعرض سعد أيضا خلال الحرب لعدة محاولات اغتيال، كان أبرزها في شهر مايو/ أيار عام 2024، بقصف منطقة سكنية بمخيم الشاطئ، وعرض الجيش الإسرائيلي مكافأة مالية قيمتها 800 ألف دولار لمن يدلي بمعلومات تؤدي للوصول إليه بعد فشل اغتياله.
ونقلت إذاعة الجيش أن إسرائيل بحثت عن رائد سعد لفترة طويلة جدا، وسعت إلى اغتياله مرتان في الأسبوعين الماضيين، لكن الفرصة لم تكتمل، وبمجرد أن تم التعرف عليه مساء السبت وهو يستقل مركبة برفقة حراسه الشخصيين، نفذت الغارة على الفور.
واقع أمني جديدوأمام اغتيال إسرائيل الشخصية العسكرية الأبرز في المقاومة الفلسطينية منذ سريان اتفاق وقف إطلاق النار في العاشر من أكتوبر/تشرين الأول الماضي، يعتقد الباحث في الشأن الأمني رامي أبو زبيدة أن "الاحتلال لا يتعامل مع التهدئة في قطاع غزة بوصفها حالة توقف عن الحرب، بل كمرحلة عملياتية مختلفة تُدار فيها المعركة بأدوات أقل ضجيجا وأكثر دقة".
وأوضح في حديثه للجزيرة نت أن الاغتيالات والاستهدافات الانتقائية التي نُفذت مؤخرا تكشف بوضوح أن الحرب لم تنتهِ، بل أُعيد تدويرها ضمن نمط جديد يقوم على الضرب المتقطع، وإدارة الصراع بدل حسمه.
ولفت إلى أن الاحتلال يحرص على اختلاق مبررات ميدانية لتسويق عدوانه باعتباره ردا دفاعيا، "غير أن هذا الخطاب لا يخرج عن كونه محاولة مكشوفة لإعادة تعريف مفهوم الخرق نفسه، بحيث يصبح أي حادث أمني أو اشتباك محدود أو اختلاق أحداث غير موجودة -في عمق سيطرته داخل الخط الأصفر- ذريعة كافية لتنفيذ عملية اغتيال".
ويرى أبو زبيدة أن الاحتلال يسعى لفرض معادلة جديدة قوامها "أن التهدئة لا تعني الأمان"، وأنه يحتفظ بحق الضرب متى شاء، ويسعى من خلال هذا السلوك إلى فرض قواعد اشتباك أحادية الجانب، تمنحه حرية العمل الجوي والاستخباراتي داخل القطاع دون التزامات سياسية أو قانونية.
وأشار إلى أن الضربات المحدودة لا تهدف فقط إلى إيقاع خسائر مباشرة، بل إلى الحفاظ على زمام المبادرة، ومنع المقاومة من الانتقال من مرحلة الصمود إلى مرحلة التعافي وإعادة التنظيم، وإبقاء البنية التنظيمية للمقاومة في حالة استنزاف دائم.
إعلانوفي البعد الأمني لفت أبو زبيدة إلى أن كثافة العمل الاستخباراتي تشير إلى أن الاحتلال يستغل فترة الهدوء لتحديث بنك أهدافه استعدادًا لجولات قادمة، وهو ما يفسر عدم تسريح وحدات سلاح الجو والطيران المسيّر، واستمرار عمل شعبة الاستخبارات العسكرية بكامل طاقتها.
ويعتقد الباحث في الشأن الأمني أن "السيناريو الأخطر يكمن في تطبيع هذا النمط من الاستباحة، بحيث تتحول الضربات الخاطفة إلى حالة دائمة، تُنفّذ على مدار الوقت، وإن كانت أقل كثافة من الحرب الشاملة، وهذا يعني عمليًا تكريس واقع أمني جديد في قطاع غزة، تُنتهك فيه التهدئة بشكل مستمر، ويُفتح الباب أمام نزيف دم متواصل بلا سقف زمني أو ضمانات حقيقية".