يفتتح رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو مشهداً سياسياً واضحاً، يبرز فيه تحويل توقُّف العمليات العسكرية إلى مرحلة انتقالية تُبقي على عناصر القوة الإسرائيلية موضعيةً ومرنةً، في إدارة ما بعد الحرب على غزة. هذا الخيار لا يهدف فقط إلى إنهاء حالة الاقتتال المؤقتة، بل إلى إعادة إنتاج ترتيب يضمن لإسرائيل حق التدخّل الأمني، احتفاظها بمواقع تأمين استراتيجية، وربما قوة إشرافية دولية لا تلغي القدرة الإسرائيلية على التحرك عند الضرورة وهو ما يشترطه صانعي السياسات الإسرائيلية كنموذج مقبول عملياً وسياسياً.

 
وعند محاولة استقراء منهجية نتنياهو والتي تتمحور في استراتيجية تقوم على مفاهيم استراتيجية محدّدة: إدارة الصراع لا حله، حرب منخفضة الوتيرة بدل مواجهة شاملة، والردع المتآكل عبر عمليات موقوتة ومراقبة ميدانية. بهذا الأسلوب يمكن تحويل وقف النار إلى «مرحلة انتقالية» تتيح لإسرائيل الاحتفاظ بقدرة التدخل، واشتراط انسحابها بمتطلبات أمنية وسياسية أبرزها نزع سلاح حماس وإعادة تشكيل إدارة القطاع.
الانسحاب الإسرائيلي من القطاع صار ورقة قابلة للتصريف سيتم فقط «عندما يتحقّق نزع السلاح»، وفق الرواية الرسمية. هنا تتجسّد معادلة مركزية: نزع السلاح مقابل الانسحاب مقابل إعادة الإعمار. هذه المعادلة تُستخدم لتحويل قضايا إنسانية (الجثامين، الإعمار، فتح المعابر) إلى أدوات ابتزاز تفاوضي. فتح المعبر—خصوصاً رفح—مُلزم بشروط إسرائيلية مرتبطة بتقدم التسليم في ملف الجثث والأسرى، ما يضع ملف المساعدات الإنسانية تحت سقف أمني بحت.
وفي المقابل ومن جانب فصائل المقاومة، تبقى مسألة تسليم الجثامين والأسرى ورقة تفاوضية مركزية تُستخدم لحسابات معنوية وميدانية وقانونية. أما الوسطاء مصر، قطر، الولايات المتحدة ودول أوروبية فمضطرون لخلق ضمانات تنفيذية تمنع استغلال الأزمات الإنسانية كذريعة لإطالة حالة القتال أو الإبقاء على احتلال فعلي لمساحات مدنية. هنا يظهر دور الضمانات الدولية المقترحة، سواء عبر مراقبين أمميين أو قوة دولية مقترحة، لكن نجاح أي ترتيب يعتمد على وضوح تفويض هذه الآليات وحدود صلاحياتها وطريقة تعاطيها مع ملف نزع السلاح. 
وبالتالي تكتيك نتنياهو في هذه المرحلة مزدوج: داخلياً يسعى إلى تحويل وقف النار إلى مكسب سياسي عبر رواية «صانع السلام الأمني»؛ لكنه في الوقت نفسه يبقي على أدوات ضغط عسكرية وسياسية لتفادي اتهامات الضعف أمام قواعده اليمينية المتشددة. هذا التوازن الهشّ يضعه بين ضغط الشارع القومي المتطلب لردع دائم، والضغوط الدولية والإقليمية الداعية إلى ضمان دخول المساعدات والإشراف على إعادة الإعمار بآليات مؤسسية. التوتر بين هذين المسارين يفسر تذبذب الخطاب الرسمي الإسرائيلي بين إعلانه عن تقدم تفاوضي وتهديده بعودة العمليات عند كل تعثّر بتنفيذ بنود الاتفاق. 
وهو ما يعيد أحياء ”نموذج التسوية مع حزب الله” باعتباره أحد أهم المحددات التي تحكم سلوك إسرائيل التفاوضي في الملفات الإقليمية الحساسة، وفي مقدمتها الوضع في غزة. فهذا النموذج الذي برز بوضوح عقب توقيع اتفاق وقف إطلاق النار على الجبهة اللبنانية ، لم يكن مجرد ترتيب ميداني محدود، بل كان صيغة لإدارة الصراع دون حسمه، عبر تثبيت قواعد اشتباك جديدة تسمح لإسرائيل بالاحتفاظ بهوامش تدخل عسكري وأمني من دون تحمّل كلفة حرب شاملة. وقد تضمن اتفاق لبنان ثلاث ركائز أساسية: انسحاب حزب الله شمال نهر الليطاني، انسحاب إسرائيلي كامل خلال 60 يوماً، وتوقف العمليات الهجومية. لكن إسرائيل تحايلت على الاتفاق عبر تثبيت “حق التدخل” العسكري عند الضرورة، والإبقاء على خمسة مواقع استراتيجية في الجنوب اللبناني بذريعة الضرورات الأمنية، فضلاً عن استمرار الضربات الجوية على الأراضي اللبنانية مع المحافظة شكلياً على إطار وقف إطلاق النار. وبذلك رسخت إسرائيل نموذج “الأمن الوقائي المتقدم” القائم على ضبط التهديد بدلاً من استئصاله.
هذا النموذج هو ما يسعى بنيامين نتنياهو إلى استنساخه في غزة تحت غطاء ما يسمى “مبادرة ترامب للتسوية”، إذ تشير تقديرات عديدة إلى أن قبول نتنياهو بالخطة الأميركية لا يعكس تحولاً استراتيجياً في موقفه، بل محاولة لإعادة إنتاج النموذج اللبناني مع تعديلات تتناسب مع خصوصية غزة. فنتنياهو يدرك أن كلفة استمرار الحرب باتت مرتفعة داخلياً وخارجياً، لكنه في المقابل لا يريد تسوية نهائية تنهي حالة الصراع، بل ترتيباً يسمح بإعادة تعريف المشهد الأمني في غزة. ومن هنا يركز على ثلاث قضايا: أولاً، ضمان الاحتفاظ بحق التدخل العسكري “المشروع” بذريعة منع إعادة تسلح حماس أو استئناف قدراتها الهجومية. ثانياً، تكليف طرف ثالث بقوة استقرار دولية أو ترتيبات أمنية متعددة الأطراف بمهمة نزع سلاح حماس بصورة تدريجية، بما يسمح لإسرائيل بإدارة الصراع عن بُعد. ثالثاً، ربط الانسحاب وإعادة إعمار القطاع بسقف زمني مشروط وبآليات تحقق استخبارية، تضمن لإسرائيل القدرة على إعادة فرض التفوق الميداني متى أرادت.

وعليه، فإن جوهر مقاربة نتنياهو ليس وقف الحرب أو إنهاء المواجهة مع حركة حماس، بل إعادة صياغة البيئة الأمنية في غزة عبر تسوية تُظهر أنها “اتفاق تهدئة”، لكنها عملياً إعادة هندسة للصراع تتيح لإسرائيل الاحتفاظ بأدوات الضغط الميداني وتفادي أي التزامات سياسية نهائية. ومن ثم، فإن أي قراءة لمستقبل غزة دون فهم “نموذج حزب الله” ستبقى قراءة قاصرة عن استشراف موازين القوى الفعلية في معادلة ما بعد الحرب.
وهذا الوضع من الممكن أن يحيل الترجيحات والسيناريوهات المتوقعة إلي 1) تحويل التهدئة إلى وقف نار مؤسّس بإشراف دولي فعّال ونزع سلاح جزئي يترك مساحات للسيادة الفلسطينية  وهو الأفضل سياسياً وإقليمياً؛ (2) تطبيق «نموذج حزب الله»  خاصة ما يتعلق بحق التدخّل والاحتفاظ بآليات أمنية ميدانية تؤدي إلى هدوء طويل الأمد لكن هشّ سياسياً؛ (3) فشل التفاهمات وعودة تدريجية إلى عمليات محدودة أو شاملة نتيجة تراكم الإخفاقات التنفيذية والابتزاز المتبادل حول ملفات إنسانية مثل الجثث والإعمار. الخيار الثاني والثالث سيكلفان المنطقة أمنياً وسياسياً، بينما يبقى الخيار الأول مرهوناً بإرادة دولية حقيقية لفرض آليات حوكمة وإعمار متصلة بآليات سياسية تُعيد الشرعية الفلسطينية كطرفٍ أساسي في الإدارة.

طباعة شارك بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي العمليات العسكرية

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: بنيامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي العمليات العسكرية حزب الله فی غزة

إقرأ أيضاً:

اليمن.. «أنصار الله» التسوية السياسية لم تعد ممكنة وواشنطن تسعى لإدامة الصراع

قالت جماعة “أنصار الله” اليمنية، إن حل الصراع في اليمن عبر التسوية السياسية لم يعد ممكنًا، متهمة الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا بمحاولة إدامة الأزمة اليمنية عبر ما وصفته بـ”جرعات أمل كاذبة”.

وفي سلسلة تدوينات على منصة “إكس”، صرح عضو المكتب السياسي للجماعة، محمد البخيتي، بأن “القرار لم يعد بيد من وصفهم بالمرتزقة، نظرًا لارتباط مصالحهم المالية والاقتصادية باستمرار الأزمة”.

وأضاف: “استمرار الحروب الداخلية والإقليمية يمثل مصلحة استراتيجية واقتصادية لواشنطن ولندن، وهما تحاولان خداع الشعب اليمني بمزاعم السعي لتحقيق السلام، كما تفعلانه منذ عقود مع الشعب الفلسطيني”.

واعتبر البخيتي أن خيار الحسم العسكري، رغم كلفته العالية، بات مطروحًا، مشيرًا إلى أن “السبيل الأنسب يكمن في وعي الشعب وتحركه الشعبي من صعدة إلى المهرة لتحرير البلاد من الاحتلال واستعادة ثرواتها المنهوبة”، بحسب تعبيره.

كما دعا إلى ما وصفه بـ”حرب تحرير” وطنية شاملة، محذرًا من محاولات تحويل الصراع إلى حرب أهلية داخلية.

ويأتي هذا التصعيد في لهجة “أنصار الله”، بعد يوم واحد من دعوة المبعوث الأممي إلى اليمن، هانس غروندبرغ، جميع الأطراف إلى اغتنام فرصة التهدئة الحالية في غزة لتعزيز الاستقرار الإقليمي، وتجديد الزخم نحو تسوية سياسية شاملة في اليمن.

وكان غروندبرغ قد أعلن في ديسمبر 2023 عن التوصل إلى اتفاق بين الأطراف اليمنية يشمل وقفًا شاملًا لإطلاق النار، وتدابير لتحسين الأوضاع المعيشية، بما في ذلك دفع رواتب الموظفين، واستئناف تصدير النفط، وفتح الطرق، وإجراء تبادل للأسرى، تمهيدًا لاستئناف مفاوضات سياسية برعاية الأمم المتحدة.

ورغم هذه الاتفاقات، تعيش البلاد حالة تهدئة هشة منذ تمديد الهدنة الأممية في أكتوبر 2022، دون التوصل إلى تسوية نهائية تنهي الصراع المستمر منذ نحو عقد.

آخر تحديث: 18 أكتوبر 2025 - 13:46

مقالات مشابهة

  • أستاذ سياسة: ترامب لا يدير حربا بل يجهز لصفقة كبرى تعيد رسم ملامح الصراع الأوكراني
  • سياسي فلسطيني: إسرائيل تتعامل بمزاجية وترامب يريد وقف الحرب من أجل "نوبل"
  • محللون: تصعيد إسرائيل بغزة تكتيك سياسي هربا من اتفاق وقف الحرب
  • يُقاتِلون فيَقتلون ويُقتلون
  • مستقبل الصراع ما بعد انتصار غزة:قراءة في كلمة السيد القائد عبدالملك بدرالدين الحوثي
  • نتنياهو: نهاية الحرب في غزة مرهونة بنزع سلاح حماس  
  • فيينا تنتفض من أجل فلسطين.. مظاهرة حاشدة تندد بانحياز النمسا لإسرائيل
  • محلل سياسي إسرائيلي: نتنياهو ترك العصابات التي موّلها في غزة تواجه مصيرها
  • اليمن.. «أنصار الله» التسوية السياسية لم تعد ممكنة وواشنطن تسعى لإدامة الصراع