تقف جورجيا على حافة منزلق خطير، سببه الصراع بين المعسكر الغربي وذاك الموالي لروسيا، وظهر خطره مطلع الشهر الحالي، حينما حاول المتظاهرون دخول القصر الرئاسي بالقوة، محاولين إسقاط الحكومة، وسط اتهامات بالتدخل في شؤون البلاد، أطلقتها الحكومة ضد الاتحاد الأوروبي.

هذه الاتهامات كشف عنها رئيس الحكومة الجورجيّة إراكلي كوباخيدزه، وقال إنّ ما يصل إلى 7 آلاف شخص شاركوا في تلك المسيرة، لكن "محاولتهم للإطاحة بالنظام الدستوري باءت بالفشل".

بروكسل نددت بهذه التهم واعتبر أنها مضللة.

هذه المشهدية برزت بعيد الانتخابات البلدية، لكنّها في ما يبدو لم تعد صراعا داخل صندوق الاقتراع بقدر ما هي صراع على تعريف البلد لنفسه: هل يتصرّف كدولة ذات سيادة ترسم خياراتها وفق توازناتها الداخلية، أم كساحة اختبار لأجندات خارجية تتقدّم تحت شعارات "الديمقراطية" أو "الإصلاح"؟

هنا يظهر الدور الغربي، الذي يدعم خطاب قيم يدّعي "حماية الحريات"، وممارسة سياسية تضغط على المؤسسات لتعيد هندسة الشارع عبر قنوات الإعلام، والمنظمات غير الحكومية. بهذه "الخلطة"، تحوّل الانقسام داخل جورجيا من جدل سياسات إلى سؤال هوية ومرجعية، كادت أن تدفع بالبلاد إلى حافة قطيعة اجتماعية يصعب ترميمها.

ومنذ أشهر، تُدار اللعبة على محورين: في العلن، رسائل وبيانات وتلويح بعقوبات وتأشيرات؛ وفي الظل، رعاية سرديّات وتحالفات محلية تُصوِّر أيّ محاولة لتنظيم الفضاء العام أو ضبط التمويل الخارجي كـ"قمع" و"انتهاك للحريات".

طبعا الأمر ليس دفاعا عن تشدد السلطة أو تبريرا لأيّ خطأ أمني؛ لكنّه قد يكون توصيفا دقيقا لأسلوب غربي مألوف (أمريكي على وجه الخصوص) يربط الدعم والشرعية بسلوك سياسي محدد، ويهدف إلى تحويل المجتمع المدني إلى رافعة ضغط سياسية متقدمة. حينها، تتراجع السياسة كفنّ تسويات محلية، ويعلو صوت "المعايير" المقبلة من خلف الحدود من دون أي حساب لتوازنات الدين، واللغة، والذاكرة الجمعية.

في قلب هذا المشهد تتكرّس رواية لدى جزء واسع من الجورجيين مفادها أن واشنطن لا تبحث عن "جورجيا قوية"، بل عن "جورجيا مطواعة" لا تعترض على خرائط النفوذ حولها، ولا تتشدّد في ملفات الحدود والهويّة، وتبقى على مسافة آمنة من موسكو دون أن تملك قرارها السيادي الكامل. لكنّ النتيجة شارع محتقن، وسلطة أكثر تتشدّدا كلما شعرت بارتفاع منسوب الضغط الخارجي والأموال والضوضاء.

ولا تبدو تلك التُهم بعيدة عن الواقع، إذ تفيد المعلومات بأنّ واشنطن وكذلك بروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي) تستخدمان سفارتهما في تبليسي لدعم المعارضة بغية تنفيذ ما تسميه "ثورة ملوّنة". هذه الاتهامات لا تأتي من فراغ في بلد عاش ذاكرة 2003 ونمط "التغيير عبر الشارع"؛ لأنّ نمط التمويل المشروط والبرامج المعلّبة على مدى تلك السنوات، لم يُنتج إلا شبكات تأثير أظهرت قادرتها على تحريك موجات احتجاج متزامنة مع أزمات سياسية وتشريعية، ثم تحويلها سريعا إلى خطاب دولي يعزل الحكومة ويمنح شرعية بديلة لخصومها. وعندما تُمنح هذه الموجات غطاء دبلوماسيا وإعلاميا كثيفا، كانت تتحوّل الحدود بين الاحتجاج المشروع ومحاولات الإكراه السياسي إلى منطقة رمادية مليئة بالاستفزاز وسوء التقدير.

أوساط الحكومة تتهم الرئيس الجورجي السابق س. زورابيشفيلي بالمسؤولية الشخصية عن التورّط بعض المراهقين الجورجيين في أعمال المعارضة العنيفة والاستفزازية ضد الشرطة.. هذا تحديدا ما يقوله خصومها بوضوح، معتبرين أنّ بعض الخطابات والتحريض الرمزي سهّل على مجموعات ناشطة استغلال قاصرين في خطوط التماس، حيث تُستدرَج القوات الأمنية إلى ردود فعل تُصوَّر لاحقا كدليل على قمع ممنهج، الغرض منه بحسب الحكومة: فرض نمط أيديولوجي ليبرالي يُقوّض الهوية الجورجية القائمة على الأرثوذكسية والقيم التقليدية، وذلك على حدّ وصف قيادة حزب "الحلم الجورجي" الذي يصف نفسه بأنّه يسعى بكل قوته للحفاظ على علاقات وثيقة مع الكنيسة الأرثوذكسية دفاعا عن القيم الروحية والأخلاقية التقليدية.

بناء على هذه النتيجة، فإنّ الأزمة لم تعد تفصيلا انتخابيا، بل جزء من السردية الوطنية التي يقدّمها الحزب لنفسه: حماية المجتمع من التفكك الثقافي والاختراق السياسي معا.

خصوم الحزب يرون في ذلك "تديينا للسياسة" أو "استغلالا للدين"، لكن قطاعا واسعا من الناس يعتبره عودة إلى مصادر الشرعية في مجتمع يئنّ تحت ضغط الخارطة الدولية والاقتصاد الضعيف والهجرة.

هكذا يبدو الدور الأمريكي سلبيا، لأنّه يضاعف الاستقطاب ولا يخفّف الأزمة: يفرضُ أجندة قيمية لا تراعي الخصوصية الجورجية، ويكافئ اللاعبين الأكثر صخبا في المعارضة، ويُحاصر الحكومة بخيارات "صفرية" تدفعها نحو التشدد بدل الإصلاح المتدرّج.

وعليه، يمكن الاستنتاج، أنّ المطلوب في جورجيا ليس "وصاية جديدة"، بل صفقة اجتماعية داخلية تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتفصل بين النقد المشروع ومشاريع "الهندسة السياسية" المقبلة من وراء البحار.

جورجيا دولة صغيرة يمكن أن تكون جسرا لا متراسا: تربط ولا تقطع، تتوازن ولا تُستنزف. وكل تدخل خارجي يزيد من حدّة الكسر داخل البيت الجورجي، ويفتح الباب أمام نزعات أكثر تشددا على الجانبين، حين يصبح كل تنازل ثقافيا أو سياديا ثمنه اتهام بالخيانة أو بالارتهان.

عندها، لن ينفع ضجيج السفارات ولا صمت الكنائس، بينما المطلوب والأجدى سوف يكون: ترك جورجيا لتعيد كتابة توازناتها بنفسها، بعيدا عن هندسة "الثورات الجاهزة"، وعن قوالب الليبرالية الفوقية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات جورجيا الغربي امريكا احتجاجات روسيا الغرب جورجيا قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

تحقيق أميركي: روسيا حصلت سرا على تكنولوجيا غربية لحماية غواصاتها

في تحقيق استقصائي مثير نشرته صحيفة واشنطن بوست، كشف الصحفي غريغ ميلر أن روسيا تمكنت من الحصول سرا على تكنولوجيا غربية متقدمة لبناء شبكة مراقبة تحت سطح البحر بهدف حماية أسطول غواصاتها النووية في القطب الشمالي من الرصد.

وأوضح التحقيق، استنادا إلى وثائق قضائية ألمانية وسجلات مالية ومصادر استخباراتية غربية، أن روسيا أنشأت سرا شبكة مراقبة بحرية متطورة تُعرف باسم "هارموني" باستخدام معدات تكنولوجية عالية الحساسية، حصلت عليها موسكو بطرق خاصة من شركات أميركية وأوروبية عبر منظومة معقدة من الشركات الوهمية.

اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2روسيا تجري تدريبات نووية ضخمة وتعلن السيطرة على مواقع جديدة بأوكرانياlist 2 of 2خبير نووي: العالم في خطر أعظم من أزمة الصواريخ الكوبيةend of list

وتتألف شبكة "هارموني" -وفق التحقيق الصحفي- من أجهزة استشعار وأرصاد صوتية مزروعة في قاع البحر، وأنظمة سونار متقدمة، وطائرات مسيّرة تحت الماء، وكابلات ألياف ضوئية تنقل البيانات إلى محطات تحليل سطحية.

رصد الغواصات الأميركية

وتهدف المنظومة إلى رصد الغواصات الأميركية عند اقترابها من "قلاع" الأسطول الروسي في بحر بارنتس، وهي مناطق تحتمي بها الغواصات الروسية الحاملة للصواريخ الباليستية العابرة للقارات، والتي تمثل ركيزة أساسية لقدرة الردع النووي الروسية.

ومن خلال هذه المنظومة تستطيع الغواصات الروسية الدخول إلى قواعدها في القطب الشمالي والخروج منها دون أن تُكتشف، مما يزيد من صعوبة مهمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في تعقّبها خلال الأزمات.

وتتوسط العملية شركة "موستريلو كوميرشيال المحدودة" المسجلة في قبرص، والتي تبين أنها كانت واجهة تابعة للمجمّع الصناعي العسكري الروسي.

وبحسب التحقيق الصحفي، فإن السجلات المالية تُظهر أن تلك الشركة أنفقت عشرات ملايين الدولارات على معدات بحرية حساسة من شركات غربية، بينها أجهزة سونار للكشف عن الأجسام تحت الماء أو في البيئة المحيطة، وتحديد مسافاتها واتجاهاتها من شركتي "إيدج تيك" (EdgeTech) و"آر2 سونيك" (R2Sonic) الأميركيتين، وأنظمة تموضع صوتي عالية السرعة من شركة كونغسبرغ النرويجية.

من خلال "هارموني" تستطيع الغواصات الروسية الدخول إلى قواعدها في القطب الشمالي والخروج منها دون أن تُكتشف، مما يزيد من صعوبة مهمة حلف شمال الأطلسي (ناتو) في تعقّبها خلال الأزمات.

محاكمة بألمانيا

وعلى الرغم من تأكيد تلك الشركات التزامها بالقوانين، فإنه قد تبيّن أن بعض العقود المبرمة تضمنت بنودا باللغة الروسية وعناوين لشركات مقرها موسكو، مما كشف حجم الارتباط الحقيقي بالجهات الروسية.

إعلان

وجاء الكشف عن الدور الروسي خلال محاكمة في ألمانيا للمواطن الروسي ألكسندر شنياكين، الذي أُدين بانتهاك قوانين التصدير عبر شراء تقنيات حساسة لصالح شركة موستريلو كوميرشيال.

وأفاد الصحفي ميلر بأن السلطات الألمانية تدخلت بعد أن حذّرتها وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية (سي آي إيه) عام 2021، مما أدى لاحقا إلى مداهمات واعتقالات وفرض عقوبات أميركية على الشركة والشبكة المرتبطة بها. وعندما زار صحفيون مقر الشركة في قبرص في سبتمبر/أيلول المنصرم، وجدوه مهجورا وفي حالة من الفوضى.

وأبانت واشنطن بوست أنها أجرت التحقيق الصحفي ضمن مشروع دولي استقصائي بعنوان "أسرار روسيا"، بالتعاون مع العديد من المؤسسات الإعلامية الأوروبية واليابانية، تتبعت من خلاله معاملات شركة موستريلو على مدى عقد من الزمن شملت دولا أعضاء في حلف الناتو، بينها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج وإيطاليا والسويد.

فشل غربي

وأكدت العديد من الشركات الغربية المعنية أنها لم تكن على علم بالاستخدامات العسكرية للمعدات، بعدما تلقت ضمانات بأن الغرض منها مدني أو بحثي.

ويقول خبراء ومسؤولون بحريون حاليون وسابقون إن فشل الحكومات والشركات الغربية في منع روسيا من الحصول على مثل هذه التكنولوجيا البحرية الحساسة قد قوّض أمن الولايات المتحدة وحلفائها في الناتو.

وفي الوقت نفسه، حذر خبراء الدفاع من أن نظام "هارموني" يعزز القدرات الإستراتيجية الروسية بشكل كبير. ونقلت الصحيفة عن براين كلارك من معهد هدسون في واشنطن، أن النظام يسمح لروسيا "بإخراج غواصاتها النووية ودخولها إلى الموانئ دون اكتشافها أو اعتراضها".

وتشير المعلومات إلى أن نطاق الشبكة يمتد شرقا من مدينة مورمانسك في أقصى شمالي غربي روسيا عند الدائرة القطبية الشمالية، وشمالا حتى أرخبيل فرانس يوزف لاند، ليشكل بذلك حاجزا دفاعيا يقي مواقع الأسطول الشمالي الروسي من رصد الدول الغربية لها.

شبكة "هارموني"، التي تم تشييدها بتكنولوجيا غربية وبسرية تامة، تمثل اليوم رمزا لتحدٍّ متصاعد يواجه حلف الناتو أمام صعود قوة عسكرية روسية أكثر تطورا في أعماق القطب الشمالي.

كما تساعد أجهزة الاستشعار قادة الغواصات الروسية على معرفة ما إذا كانت غواصاتهم تتعرض للملاحقة، ومن ثم القيام بمناورات مراوغة تُعرف في المصطلح البحري باسم "إزالة التتبع".

وطبقا للصحيفة، فإن هذا المشروع يكشف كيف استغلت موسكو الابتكارات الغربية لتعزيز قدرتها على الردع النووي، في وقت كانت فيه أنظمة الرقابة على الصادرات في الغرب متأخرة عن مواكبة ذلك.

ويخلص تحقيق ميلر إلى أن المشروع يُظهر بوضوح قدرة روسيا على استغلال الثغرات القانونية والتقاعس الغربي لتعزيز قوتها النووية.

فشبكة "هارموني"، التي تم تشييدها بتكنولوجيا غربية وبسرية تامة، تمثل اليوم رمزا لتحدٍّ متصاعد يواجه حلف الناتو أمام صعود قوة عسكرية روسية أكثر تطورا في أعماق القطب الشمالي.

مقالات مشابهة

  • من حكم الانتداب إلى وصاية ترامب
  • تحقيق أميركي: روسيا حصلت سرا على تكنولوجيا غربية لحماية غواصاتها
  • العراق أولاً في مأزق.. رؤية غربية: السوداني أمام فوز بلا سلطة
  • حريق مدمر يلتهم حضانة أطفال في ولاية جورجيا والشرطة ترجح تعمد إشعاله
  • حركة موفدين بين لبنان وفرنسا وتحذيرات غربية من مرحلة خطرة جداً وبالغة الدقّة
  • الميدان الدمشقي.. الحيّ الذي قاوم حتى اخترقوه بالجسر
  • “الديمقراطية”: قانون ضم الضفة إعلان حرب إبادة سياسية وانقلاب على الشرعية الدولية
  • تحيّزات غربية متأصلة يكشفها ملف الأسرى والجثامين
  • «غرفة دبي» تنظِّم 294 اجتماعاً ثنائياً لشركات محلية في جورجيا