تقف جورجيا على حافة منزلق خطير، سببه الصراع بين المعسكر الغربي وذاك الموالي لروسيا، وظهر خطره مطلع الشهر الحالي، حينما حاول المتظاهرون دخول القصر الرئاسي بالقوة، محاولين إسقاط الحكومة، وسط اتهامات بالتدخل في شؤون البلاد، أطلقتها الحكومة ضد الاتحاد الأوروبي.

هذه الاتهامات كشف عنها رئيس الحكومة الجورجيّة إراكلي كوباخيدزه، وقال إنّ ما يصل إلى 7 آلاف شخص شاركوا في تلك المسيرة، لكن "محاولتهم للإطاحة بالنظام الدستوري باءت بالفشل".

بروكسل نددت بهذه التهم واعتبر أنها مضللة.

هذه المشهدية برزت بعيد الانتخابات البلدية، لكنّها في ما يبدو لم تعد صراعا داخل صندوق الاقتراع بقدر ما هي صراع على تعريف البلد لنفسه: هل يتصرّف كدولة ذات سيادة ترسم خياراتها وفق توازناتها الداخلية، أم كساحة اختبار لأجندات خارجية تتقدّم تحت شعارات "الديمقراطية" أو "الإصلاح"؟

هنا يظهر الدور الغربي، الذي يدعم خطاب قيم يدّعي "حماية الحريات"، وممارسة سياسية تضغط على المؤسسات لتعيد هندسة الشارع عبر قنوات الإعلام، والمنظمات غير الحكومية. بهذه "الخلطة"، تحوّل الانقسام داخل جورجيا من جدل سياسات إلى سؤال هوية ومرجعية، كادت أن تدفع بالبلاد إلى حافة قطيعة اجتماعية يصعب ترميمها.

ومنذ أشهر، تُدار اللعبة على محورين: في العلن، رسائل وبيانات وتلويح بعقوبات وتأشيرات؛ وفي الظل، رعاية سرديّات وتحالفات محلية تُصوِّر أيّ محاولة لتنظيم الفضاء العام أو ضبط التمويل الخارجي كـ"قمع" و"انتهاك للحريات".

طبعا الأمر ليس دفاعا عن تشدد السلطة أو تبريرا لأيّ خطأ أمني؛ لكنّه قد يكون توصيفا دقيقا لأسلوب غربي مألوف (أمريكي على وجه الخصوص) يربط الدعم والشرعية بسلوك سياسي محدد، ويهدف إلى تحويل المجتمع المدني إلى رافعة ضغط سياسية متقدمة. حينها، تتراجع السياسة كفنّ تسويات محلية، ويعلو صوت "المعايير" المقبلة من خلف الحدود من دون أي حساب لتوازنات الدين، واللغة، والذاكرة الجمعية.

في قلب هذا المشهد تتكرّس رواية لدى جزء واسع من الجورجيين مفادها أن واشنطن لا تبحث عن "جورجيا قوية"، بل عن "جورجيا مطواعة" لا تعترض على خرائط النفوذ حولها، ولا تتشدّد في ملفات الحدود والهويّة، وتبقى على مسافة آمنة من موسكو دون أن تملك قرارها السيادي الكامل. لكنّ النتيجة شارع محتقن، وسلطة أكثر تتشدّدا كلما شعرت بارتفاع منسوب الضغط الخارجي والأموال والضوضاء.

ولا تبدو تلك التُهم بعيدة عن الواقع، إذ تفيد المعلومات بأنّ واشنطن وكذلك بروكسل (عاصمة الاتحاد الأوروبي) تستخدمان سفارتهما في تبليسي لدعم المعارضة بغية تنفيذ ما تسميه "ثورة ملوّنة". هذه الاتهامات لا تأتي من فراغ في بلد عاش ذاكرة 2003 ونمط "التغيير عبر الشارع"؛ لأنّ نمط التمويل المشروط والبرامج المعلّبة على مدى تلك السنوات، لم يُنتج إلا شبكات تأثير أظهرت قادرتها على تحريك موجات احتجاج متزامنة مع أزمات سياسية وتشريعية، ثم تحويلها سريعا إلى خطاب دولي يعزل الحكومة ويمنح شرعية بديلة لخصومها. وعندما تُمنح هذه الموجات غطاء دبلوماسيا وإعلاميا كثيفا، كانت تتحوّل الحدود بين الاحتجاج المشروع ومحاولات الإكراه السياسي إلى منطقة رمادية مليئة بالاستفزاز وسوء التقدير.

أوساط الحكومة تتهم الرئيس الجورجي السابق س. زورابيشفيلي بالمسؤولية الشخصية عن التورّط بعض المراهقين الجورجيين في أعمال المعارضة العنيفة والاستفزازية ضد الشرطة.. هذا تحديدا ما يقوله خصومها بوضوح، معتبرين أنّ بعض الخطابات والتحريض الرمزي سهّل على مجموعات ناشطة استغلال قاصرين في خطوط التماس، حيث تُستدرَج القوات الأمنية إلى ردود فعل تُصوَّر لاحقا كدليل على قمع ممنهج، الغرض منه بحسب الحكومة: فرض نمط أيديولوجي ليبرالي يُقوّض الهوية الجورجية القائمة على الأرثوذكسية والقيم التقليدية، وذلك على حدّ وصف قيادة حزب "الحلم الجورجي" الذي يصف نفسه بأنّه يسعى بكل قوته للحفاظ على علاقات وثيقة مع الكنيسة الأرثوذكسية دفاعا عن القيم الروحية والأخلاقية التقليدية.

بناء على هذه النتيجة، فإنّ الأزمة لم تعد تفصيلا انتخابيا، بل جزء من السردية الوطنية التي يقدّمها الحزب لنفسه: حماية المجتمع من التفكك الثقافي والاختراق السياسي معا.

خصوم الحزب يرون في ذلك "تديينا للسياسة" أو "استغلالا للدين"، لكن قطاعا واسعا من الناس يعتبره عودة إلى مصادر الشرعية في مجتمع يئنّ تحت ضغط الخارطة الدولية والاقتصاد الضعيف والهجرة.

هكذا يبدو الدور الأمريكي سلبيا، لأنّه يضاعف الاستقطاب ولا يخفّف الأزمة: يفرضُ أجندة قيمية لا تراعي الخصوصية الجورجية، ويكافئ اللاعبين الأكثر صخبا في المعارضة، ويُحاصر الحكومة بخيارات "صفرية" تدفعها نحو التشدد بدل الإصلاح المتدرّج.

وعليه، يمكن الاستنتاج، أنّ المطلوب في جورجيا ليس "وصاية جديدة"، بل صفقة اجتماعية داخلية تُعيد تعريف العلاقة بين الدولة والمجتمع، وتفصل بين النقد المشروع ومشاريع "الهندسة السياسية" المقبلة من وراء البحار.

جورجيا دولة صغيرة يمكن أن تكون جسرا لا متراسا: تربط ولا تقطع، تتوازن ولا تُستنزف. وكل تدخل خارجي يزيد من حدّة الكسر داخل البيت الجورجي، ويفتح الباب أمام نزعات أكثر تشددا على الجانبين، حين يصبح كل تنازل ثقافيا أو سياديا ثمنه اتهام بالخيانة أو بالارتهان.

عندها، لن ينفع ضجيج السفارات ولا صمت الكنائس، بينما المطلوب والأجدى سوف يكون: ترك جورجيا لتعيد كتابة توازناتها بنفسها، بعيدا عن هندسة "الثورات الجاهزة"، وعن قوالب الليبرالية الفوقية.

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مدونات مدونات جورجيا الغربي امريكا احتجاجات روسيا الغرب جورجيا قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مدونات مدونات مدونات سياسة سياسة صحافة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة

إقرأ أيضاً:

مصر تعاملت مع القضية الفلسطينية والتهجير بحنكة سياسية

التعليم حجر الزاوية ومن خالله تحل جميع المشاكلالخطاب الدينى المتشدد أدى لظاهرة العنف ضد المرأةأعتبر نفسى كاتبة هاوية تلعب مع العالملدينا أزمة أداء فى المشهد الثقافى

 

هكذا دلفت إلى المكان محملة بشعور المتعطش لرى تساؤلات شتى تسكننى، وبودٍ نادر استقبلتنى مرحبة..

اتخذت مكاناً قريباً ووجدتنى أرقب قسمات وجهها وردود فعل عينيها تجاه عبارات الاحتفاء والامتنان والاعتراف بجمال روح يخفى عن قرائها..

فى زحام من الجمال راح الجميع ورحت معهم نهنئ الأديبة الكبيرة والمبدعة سلوى بكر، ونحن نشعر بأننا إنما نهنئ أنفسنا أولاً بفوزها بجائزة البريكس الأدبية، فى دورتها الأولى التى انطلقت هذا العام، بينما تأكد شعورنا عبر حديثها بأن هذا الفوز إنما يعد انتصاراً للكتابة العربية ولزمرة المبدعين العرب كافة.

كدت أنسى مأربى وهدفى الثانى بعد الاحتفاء بسلوى بكر، ذلك الحوار الذى جرى اتفاقنا على إجرائه عقب الندوة، والذى رحت أعد له كامل عدتى طوال الليل، وأنتقى من الأسئلة أهمها ومن المحاور أكثرها دقة..

جلستُ وذاكرتى تطوف بأعمالها التى طالت بشهرتها بلادا شتى وترجمت للغات تجاوزت عدد أصابع اليدين..

تنتمى الروائية والقاصة سلوى بكر لحى الزيتون فى القاهرة، حصلت على بكالوريوس إدارة الأعمال من كلية التجارة بجامعة عين شمس عام 1972، كما حصلت على ليسانس النقد المسرحى من المعهد العالى للعلوم المسرحية عام 1976، وفى عام 2001 عملت أستاذة زائرة بالجامعة الأمريكية، تنوع إبداعها بين الروايات والمجموعات القصصية والمسرحيات، تُرجمت أعمالها إلى العديد من اللغات، واختار اتحاد الكتاب العرب روايتها «البشموري» كواحدة من أفضل 100 رواية عربية، وحصلت على جائزة «دويتشه فيله» للأدب عن قصصها القصيرة عام 1993، وجائزة الدولة التقديرية عام 2021، وأخيرا ومنذ أيام حازت على جائزة الـ«بريكس» للأدب لعام 2025، كأول شخصية أدبية تنال الجائزة فى دورتها الأولى.

والـ«بريكس الثقافية» جائزة دولية أُطلقت فى نوفمبر 2024 خلال منتدى «القيم التقليدية» الأول لدول الـ«بريكس» فى موسكو، ترجع فكرة تأسيسها وإطلاقها للكاتبة المصرية ضحى عاصى، وتدعم الجائزة الكُتّاب المعاصرين الذين تعكس أعمالهم القيم الثقافية والروحية لدول المجموعة.

هكذا حملتُ أسئلتى ومعها فضولى لأتحدث إلى الأديبة المصرية الكبيرة سلوى بكر...

* ماذا يمثل لك فوزك بجائزة البريكس؟

بالتأكيد فإن الفوز بجائزة يعد خبراً مفرحاً، ولكن عندما تكون الجائزة بحجم جائزة البريكس، المعبرة عن مجموعة من الدول الكبرى، والتى لها وزنها الثقافى وذات باع طويل فى الأدب، مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل، فهو أمر مفرح جدا، فهى تؤكد أن أدبنا المصرى والعربى يستحق التكريم وأن يكون له موضع قدم راسخ فى الأدب العالمى.

فالأدب المصرى أدب راسخ وأحدث تراكماً قوياً على مدى أزمان، وأحدث بصمات وقفزات مهمة توج ذلك بمنح محفوظ جائزة نوبل.. لكنه لم يأخذ حظه على خارطة الأدب العالمى وذلك بسبب وجود قصور شديد فى ترجمة الأدب العربى للغات الأخرى، فهناك إجحاف أصاب الأدب المصرى تحديدا، فقد راكم خبرات وكماً كبيراً من الكتابات التى تضاهى ما يكتب عالميا.

** هل هناك فجوة فى كيفية إدارة وتنظيم الجوائز العربية وبين الجوائز العالمية؟ وما الذى ينقص الجوائز المصرية؟

الجوائز عموماً هناك جدل واسع حولها، لكن أهميتها تكمن فى كونها تلفت النظر إلى كاتب ما أو عمل ما، إذن فهى تضيء الكتابة، ولكن ملابسات هذا الالتفات يشوبها أحيانا عوار يتعلق بالميول الخاصة لمن يمدحون الجوائز وحسابات تتعلق بإعلاء شأن نوع أدبى على حساب نوع آخر، إذن فالجوائز غالبا ما تكون محل انتقاد وجدل.

الجوائز بمصر لها قيمتها بالفعل، ولكن قد يخيل للبعض أن القيمة المادية هى المعيار الأهم فى كون هذا الأدب يستحق التقدير أم لا، فهناك فى المنطقة العربية بعض الجوائز التى تكون قيمتها مبالغ كبيرة جدا تكون محل تنافس كبير، إلا أن بعضها يشوبها شوائب وصراعات ذات طابع إقليمى ويعبر عن هوى وهيمنة إقليم ما على الأدب العربى، ولكن السؤال الأهم هنا هو ما قيمة ما يقدم من أدب، ومن هنا أرى أن جائزة البريكس تبحث عن القيمة فى المقام الأول، وقد منحت لجنة التحكيم الجائزة وفقا لما أعلنته الجائزة من قبل وهو الرغبة فى إعلاء القيم الثقافية لمجتمعات دول البريكس.

ورغم ذلك فهناك جوائز تتميز بالموضوعية الشديدة مثل جوائز الدولة وجوائز معرض الكتاب، وقد حكمت فى أكثر من جائزة.

أيضا فالقيمة المادية للجوائز المصرية تكون منخفضة لكونها خاضعة لميزانية الدولة وميزانية وزارة الثقافة، وهى بالطبع محدودة جدا مقارنة بالجوائز الأخرى، لأن مصر بثقلها الثقافى والحضارى تصبح لجوائزها قيمة تتخطى القيمة المالية للجوائز الأخرى.

** هل لدينا فى عالمنا العربى أزمة فى الحركة النقدية؟ وهل هناك مجاملات على حساب القيمة الأدبية؟

النقد فى العالم العربى الآن هو فى مجمله نقد أكاديمى ومدرسى، فهو يستخدم نظريات مسبقة ويطبقها على النص الأدبى، إلا أننا هنا يجب أولا أن نسأل ما الإبداع؟ قاموسا تعريف الإبداع هو الإنشاء على غير مثال، إذن فالنقد بالتالى هو إبداع منشأ على إبداع بمعنى أن ترى عين الناقد ما لا ترى العين العادية، والنقد المبدع هو النقد الذى ينبه المتلقى أو القارئ والكاتب وكل من يتعامل مع النص بمستويات من الوعى بالنص سواء الوعى الجمالى أو الوعى الخطابى أى الخطابات المقدمة فى النص والتى قد لا تتم ملاحظتها لدى القارئ العادى أو فى القراءة الأولى. هذا النوع من النقدربما نفتقده بدرجة أو بأخرى، كما أن هناك أسبابا أخرى مثل وجود جماعة تنتصر لكاتب ما لأسباب أيديولوجية وأسباب اجتماعية، فهناك ناقد ينتصر لكاتب ربما لوجود علاقة بينهما، أى أن كلها حسابات بعيدة عن القيمة الفعلية الموجودة فى النص الإبداعى.

** هل سلوى بكر عانت من النقد؟

ربما أنا لا أتعامل مع الإبداع بشكل يجعلنى ألتفت لذلك، فأنا طوال الوقت أعتبر نفسى كاتبة هاوية، بمعنى أننى أكتب لأننى أستمتع بالكتابة، أستمتع بعملية خلق عوالم وتتحدد مصائرها عبر العوالم التى أتخيلها، إذن أنا أتعامل مع الكتابة كنوع من اللعب، فلا أصنف نفسى ككاتبة محترفة ولا أعتبر الكتابة مهمة يجب أن أقوم بها، لذلك لا أهتم مثلا أن يكون لى كتاب كل عام فى معرض الكتاب ولا أهتم عندما يصدر لى كتاب أن أسعى لعقد ندوات أو نشر أخبار وغيرها.

**ما الذى يشعر سلوى بكر بالتحقق والتشبع النفسي؟

ربما يشعرنى تعليق أو حديث من إنسان عادى جداً عن كتاب لى بالسعادة أكثر من كتابات ناقد مرموق مع احترامى وتقديرى للنقاد الذين تناولوا أعمالى، فمثلاً عندما تحولت قصة نونة الشعنونة إلى عمل تلفزيونى كان بعض الناس يستوقفوننى فى الشارع ويثنون على العمل، هذا يسعدنى كثيرا، كل هذا يشعرنى بالتحقق ربما أكثر من التحقق الذى يتيحه مقال نقدى مادح.

** كيف ترى سلوى بكر المشهد الثقافى المصرى خاصة والعربى بشكل عام؟ هل نحن أمام فقدان للثقافة وقيمتها وما أسباب ذلك فى رأيك؟

فى رأيى الشخصى أن الثقافة مازالت تمثل قيمة فى المجتمع المصرى، فهناك تقدير من العامة للمثقفين وللمتعلمين حتى فى طريقة حديثهم إليهم وفى طريقة مخاطبتهم لهم.

المشكلة فى المشهد الثقافى هى مشكلة فى الأداء نفسه، فنحن لدينا إنتاج كبير لا يستهان به فى كل العصور وكل الأزمان والأجيال، ولكن أى هذا الإنتاج سيبقى وسيجد التحقق فى صدور العامة، هنا يجب أن نسأل عن الأداء الثقافى.

نعم، هناك صفحات ثقافية فى كافة الجرائد، هناك برامج ثقافية فى الإعلام المرئى والمسموع، لكن تكون الصفحة الثقافية هى أولى الصفحات التى يتم التضحية بها إذا ما وجد إعلان يحتاج مساحة، إلى جانب أن معظم الصفحات الثقافية فى الصحافة المكتوبة لا تدار بمثقفين أو مبدعين حقيقيين.

ففى فترة من الفترات كان المسئول عن الصفحة الثقافية فى الأهرام هو لويس عوض، لذلك فقد أثار معركة الشعر الحديث بين العقاد وصلاح عبدالصبور، وكانت الصحافة الورقية طوال الوقت لديها مساحات للشعر والقصة القصيرة، ولا أنسى صفحات الجمهورية التى قدمت كل جيل الستينيات الذين تركوا بصمات واضحة فى الكتابة الإبداعية، كذلك لا أنسى أخبار الأدب التى ما زالت صامدة حتى الآن، ولولا جمال الغيطانى المبدع الجميل ما كانت هناك أخبار الأدب.

إذن، فنحن نفتقد للأداء الثقافى الجيد والإيجابى القادر على إبراز هذا المشهد بوجهه الجميل.

** هل ترين أن هناك وسائل خبيثة لبث الفرقة بين العرب من خلال استحداث مصطلحات أدبية مثل الرواية الإسلامية وغيرها، وإلى أى مدى ترين قدرة تلك الأسلحة على التفريق؟

أنا أعتقد أن تلك الأسلحة قادرة على التفريق، وخصوصاً فى غياب الوعى، فالوعى الثقافى هو حائط الصد الذهبى، أما تلك الأسلحة فهى تستند إلى الطائفية والإقليمية والمذهبية والأيديولوجيات السياسية، كذلك إلى وجود المال السياسى الذى يضخ فى المشهد الثقافى لتكريس كل هذه المصطلحات وهذه النظريات.

الأمر يحتاج إلى جماعة ثقافية قادرة على مواجهتها، ونحن نفتقد إلى ذلك لأننا نفتقد إلى الوعى بصفة عامة، وإلى جماعة ثقافية قادرة على المواجهة.

** المرأة لها نصيب الأسد فى كتابات سلوى بكر، ما أسباب ظاهرة العنف ضد المرأة التى استشرت فى الفترة الأخيرة، ومتى تنتهي؟

بحكم التجربة والسن، أنا أعتقد أن هذه الظاهرة متفاقمة بسبب الخطاب السياسى الدينى وهيمنة خطاب الإسلام السياسى على المشهد، بكل ألوانه، وهو طوال الوقت ينتقص من قدر المرأة ويضعها فى إطار وظائف الجنس والحمل والإنجاب فقط، ويتعامل مع المرأة طوال الوقت باعتبارها مواطنا من الدرجة الثانية أو باعتبارها مواطنا قاصرا يحتاج إلى الولى ويحتاج إلى الرجل فى كل مراحله. من هنا بدأت تظهر ظواهر لم نكن نعرفها من قبل، مثل أن يقتل الشاب فتاة لمجرد أنها قد رفضت الارتباط به، أو أن يقتل أحدهم طليقته لمجرد أنها تزوجت آخر.

إذن فنحن أمام خطاب دينى متشدد فى غياب الخطابات التنويرية ومهاجمتها، كل هذه الأمور أدت إلى تفاقم أنواع محددة من الجريمة، وهى الجريمة شديدة الارتباط بهذا الخطاب.

** إلى أى مدى ترين أهمية استدعاء التاريخ كحدث أساس أو حتى كخلفية فى العمل الأدبى، وهل تعتقدين أن للكاتب حرية تناول الأحداث والتغيير فيها حسب رؤيته الفنية أم أن هناك ضوابط؟

أنا لا أستدعى التاريخ، أنا أكتب رواية عن التاريخ، ولكن ما هو التاريخ؟ التاريخ هو جملة من الوقائع التى جرت فى زمن محدد وتم تدوينها، ومن هنا تبدأ إشكاليات التاريخ. فيكون السؤال الأول: هل كل الوقائع التى حدثت دونت؟ وهل كل الوقائع التى دونت دونت وفقاً لأهميتها؟ ألم تكن هناك وقائع مسكوت عنها فى التاريخ؟ بل أن المؤرخ الذى يكتب التاريخ يمتلك أيديولوجيا خاصة به ومرجعية خاصة وموقفاً من العالم وموقفاً من الأحداث، فيكتب بتأثير كل هذه العوامل. ومهمة الرواية هى إعادة النظر فى المرويات التاريخية واستدعاؤها لمنطقة البحث والتمحيص والتساؤل. إذن فمهمة الرواية هى إعادة النظر فى العلاقة بين المتون والهوامش التاريخية، فما كان هامشاً قد يكون هو فى الحقيقة المتن والعكس صحيح.

وإذا لم نؤمن بالعين النقدية فى هذا التاريخ وطرح الأسئلة، ربما لن نستطيع أن نضع أيدينا على مواطن القوة والضعف.

** فى رأيك، هل يجب أن يعبر الكاتب عن مواقف تجاه القضايا والأزمات الكبرى أم عليه أن يكتفى بالكتابة الإبداعية؟

الكاتب يتعامل مع القضايا الكبرى باعتباره مواطناً وإنساناً، أما عندما يكتب بعدها عن تلك القضايا فيكتب من منظور الكاتب ومن رؤيته الخاصة للشخصيات والعوالم وغيرها، لكن كونه كاتباً يجعل مسئوليته أكبر لأنه يمتلك مساحة أخرى من الوعى لها طابع خاص ولها تميزها الذى يدفعه لأن يكون له مواقف منحازة طوال الوقت لكل ما هو إنسانى وجميل.

** على ذكر المواقف الإنسانية، ما رأيك فى الموقف المصرى تجاه أزمة التهجير؟

أنا أعتقد أنه لم يقدم بلد من بلدان المنطقة العربية للقضية الفلسطينية مثلما قدمت مصر منذ بداية القضية وحتى الآن، هذه واحدة، المسألة الأخرى هى موقف الدولة المصرية منذ ما حدث فى ٧ أكتوبر وحتى الآن، وهو موقف حكيم وعبر عن حنكة سياسية عالية وعن تفكير إنسانى كبير، لأن مصر أولا، ومنذ اللحظة الأولى، أدركت أن ما حدث كان يستهدف جرها إلى مناطق من الإشكاليات التى لا يعلم غير الله مداها.

أما موقفها من التهجير، فأنا أظن أن هذا الموقف تاريخى لمصر، لأنه حرص على ألا تضيع القضية الفلسطينية. فمصر كانت حكيمة فى كونها لم تنجر إلى مهاترات مع حماس ومع الجانب الإسرائيلى، فالدولة المصرية أثبتت أنها بالفعل دولة واعية محنكة سياسياً قادرة على صدد أى هجوم أيا كان مستواه على الحدود والخريطة المصرية، حافظت على الخريطة المصرية وحافظت على القضية الفلسطينية.

لم تتوقف مصر عن مد يدها إلى القضية الفلسطينية وتقديم المساعدات طوال الوقت، فكانت إذا ما فتح المعبر ترسل المساعدات، هذا هو موقف مصر، والذى لن يتوقف، إلا أن الإسلام السياسى والإخوان المسلمين وغيرهم مازلوا يشوهونه بكل الطرق الممكنة.

** كان لك تصريح مهم عن كيفية تدريس مناهج التربية الدينية فى المدارس، هل ترين أن لذلك انعكاساً على السلوكيات العامة للشباب والمجتمع؟

فى الماضى كانت حصة الدين ممتعة وجميلة، يقدم خلالها الدين بطريقة بسيطة ورائعة، تتلاءم مع المرحلة العمرية للطلاب، وكان يقدم القصص الدينى بطريقة رائعة نتعلم من خلالها الكثير من المبادئ، حتى المدرسون أنفسهم كانوا يدرسون الدين بطريقة هادئة ومحبة، فعرفنا على أيديهم أن الدين المعاملة، وهذا ما جعلنا نحب إخواننا المسيحيين، فنشأنا جميعاً أحباباً وأصدقاء، للأسف لم نعرف التعصب الحالى وهذا العنف إلا عندما تم تدريس جانب من الدين يتحدث عن النار والسعير وعذاب القبر، فنحن بهذا ندفع الأطفال لكره ما يدرسون، المشكلة ليست فى الدين، المشكلة فى طريقة تدريس الدين وفى المناهج الموضوعة والتى لا تتلاءم مع المراحل العمرية للأطفال.

** لدىَّ خمسة مصطلحات أريدك أن ترتبيها حسب احتياج المجتمع لها: الثقافة، الصحة، الدين، التعليم، تحسين المستوى المعيشي؟

أولاً التعليم، ثانياً الصحة، ثالثاً الثقافة، رابعاً الدين، وإذا تم الاعتناء بالتعليم العناية الواجبة فإن 90% من المشاكل الاقتصادية سوف يتم حلها، فالتعليم هو حجر الزاوية وكلمة السر فى كل المجتمعات، انعدام التعليم يعنى ألا يكون هناك وعى وبالتالى تتدهور جميع جوانب المجتمع، فالاستنارة والوعى يصنعهما التعليم.

أما ذلك «الكوكتيل» الذى ينتشر فى مصر من تعليم حكومى وخاص وإنترناشونال وغيره فهو أولاً يصنع فجوة كبيرة بين الجيل الواحد ويفقدنا الهوية، فلا يكون هناك تفاعل بين أبناء الجيل الواحد، مما أظهر ما سمى بمصر وإيجيبت، فأصبحنا مجتمعاً متشظياً، فى الماضى كان طه حسين ابن الفقراء يذهب فى بعثات علمية ليتعلم فى السوربون، وهو ما جعله عميدا للأدب العربى، هذا ما يفعله التعليم فى المجتمعات، وفى رأيى الشخصى فإن مصر تتعرض لمؤامرة كبيرة، وأخطر مؤامرة تعرضت لها مصر هى مؤامرة تدهور التعليم.

هكذا لملمت أوراقى واحتضنت إجاباتها، وأنا أودع الكاتبة الكبيرة سلوى بكر.

 

مقالات مشابهة

  • اليوم العالمي لحقوق الإنسان.. مرصد عراقي يطالب بإعادة تعريف مصطلحات سياسية مبهمة
  • النائب العام ونظيره الجورجي يبحثان تعزيز التعاون القضائي والقانوني
  • مصر تعاملت مع القضية الفلسطينية والتهجير بحنكة سياسية
  • للسنة الثانية.. 89 طفلًا مصريًا يتوجون مصر بالكأس الذهبية في جورجيا
  • النائب العام يستقبل نظيره الجورجي لبحث تعزيز التعاون القضائي والقانوني بين البلدين
  • وليد المصري: اليوم العالمي لمكافحة الفساد محطة وطنية لتعزيز النزاهة وترسيخ سيادة القانون
  • محلل سياسي: أجهزة مخابرات غربية تتعاون مع الإخوان.. ومصر واجهتهم بشرف
  • أحمد رفعت: أجهزة مخابرات غربية تتعاون مع الإخوان.. ومصر تواجه التنظيم بشرف.. فيديو
  • أحمد رفعت: أجهزة مخابرات غربية تتعاون مع الإخوان.. ومصر تواجه التنظيم بشرف
  • جورجيا.. وجهة سياحية غنية بسحر الطبيعة وعمق الحضارة والتنوع الثقافي