جريدة الرؤية العمانية:
2025-10-25@16:56:17 GMT

المنصب بين الوجاهة والإنجاز

تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT

المنصب بين الوجاهة والإنجاز

 

 

 

خالد بن حمد الرواحي

ليس كل من جلس على الكرسي قائدًا، فبعض المقاعد تُبرز أصحابها أكثر مما ترفعهم؛ ففي عالم الإدارة، لا يُقاس المنصب بما يُمنح من صلاحيات؛ بل بما يُصنع به من أثر، غير أنّ بعض المناصب تحوّلت في واقعنا إلى مسرحٍ للوجاهة بدل أن تكون مساحةً للإنجاز؛ فغابت روح الخدمة، وحضرت مظاهر البروتوكول والظهور الإعلامي.

وبينما ينشغل البعض بعدسات الكاميرات، هناك من يختار أن يكون في الميدان، يُصغي للموظف والمواطن، ويحوّل القرار إلى أثرٍ ملموس. وهكذا تتمايز المناصب بين من يرتديها لتُجمّله، ومن يجعلها وسيلةً لتجميل واقع مؤسسته.

وفي بعض المؤسسات، يُختزل المنصب في لباسٍ رسمي ومقعدٍ فخم وتوقيعٍ يحمل أكثر مما ينجز، حتى غلبت الهيبة الشكلية على روح العمل. فتحوّل بعض المسؤولين إلى رموز حضورٍ لا رموز تأثيرٍ، وتحوّلت الاجتماعات إلى تكرارٍ لعباراتٍ منمّقة بلا متابعةٍ حقيقية. غير أنّ جوهر القيادة لا يكمن في حضور الفعاليات ولا في التقاط الصور الرسمية، بل في متابعة التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق الكبير في حياة الناس. ومن هنا تبدأ المفارقة بين من يقود فعلًا... ومن يكتفي بالظهور.

وفي هذا السياق، فإنّ المسؤول الحقيقي لا يُقاس بعدد المقابلات التي يجريها ولا بعدد اللجان التي يرأسها، بل بما يتركه من أثرٍ يلمسه الناس في حياتهم. إنّه من يراهن على النتائج لا العناوين، وعلى العمل الصامت لا الاستعراض العلني. أمّا المسؤول الباحث عن الوجاهة، فيرى في المنصب جدارًا يحتمي به، لا نافذة يطلّ منها على احتياجات مجتمعه؛ يهوى الأضواء، لكنّه يهرب من الملفات الصعبة، ويتحدّث كثيرًا عن «الرؤية» دون أن يترك أثرًا يليق بها... لأنَّ الرؤية لا تُقال، بل تُرى.

لقد أثبتت التجارب أن المناصب لا تصنع القادة، بل تكشف معادنهم. فهناك من يرى في المنصب فرصةً لتطوير الأنظمة ورفع كفاءة الأداء، فيترك خلفه إرثًا من التحسينات يتناقله الموظفون بإعجاب. وهناك من يكتفي بإدارة الحاضر دون بصمةٍ أو رؤيةٍ للمستقبل. والفرق بين الاثنين أن الأول يعمل بفكر الإنجاز، بينما الثاني يستهلك وقته في تبرير التعثّر. فالمناصب، مهما علت، لا تُخلِّد أصحابها إلا بقدر ما يتركونه من أثرٍ حقيقي يغيّر حياة الناس نحو الأفضل. وحين يغيب هذا الوعي القيادي، تفقد المؤسسات بوصلتها، ويصبح العمل بلا روح ولا اتجاه.

ولعلّ المشهد اليومي في بعض المؤسسات يختصر القصة: اجتماعاتٌ طويلة لا تنتهي، وخططٌ مؤجلة، وقراراتٌ بلا روح. كم من موظفٍ خرج من اجتماعٍ لا يدري لِمَ انعقد، وكم من فكرةٍ وُئدت لأنها لم تحمل بريق الوجاهة في عيني صاحب المنصب. عندها، يغدو الكرسي أكبر من الجالس عليه، وتتحوّل القيادة إلى عبءٍ ثقيل بدل أن تكون أداةً للتغيير والإلهام.

وحين تسود ثقافة الوجاهة داخل المؤسسات، يبهت الحافز ويغيب الشعور بالانتماء. فالموظف الذي يرى مسؤوله يطارد المظاهر أكثر مما يسعى إلى النتائج، يفقد الإيمان بقيمة الجهد، ويتحوّل العمل إلى روتينٍ بلا روح. ومع مرور الوقت، تتآكل الثقة، وتغدو القرارات مجرّد أوراقٍ تُوقَّع ثم تُركن على الرفوف دون أن تُحدث فرقًا. أما المؤسسات التي يقودها أصحاب الرؤية والإنجاز، فهي التي تُعيد للوظيفة معناها، وتزرع في موظفيها الشغف، وتحول المناصب إلى طاقةٍ إنتاجيةٍ لا عبءٍ إداري.

ومن زاويةٍ أوسع، تُؤكد رؤية "عُمان 2040" أن القيادة ليست امتيازًا وظيفيًا، بل التزامٌ وطني ومسؤولية أخلاقية. فالمنصب وسيلةٌ لتجسيد قيم الكفاءة والمساءلة، لا لتكريس المظاهر والشكليات. وكل مسؤولٍ شريكٌ في بناء صورة الوطن أمام مجتمعه، ومقدار ما ينجزه من أثرٍ ملموس هو ما يحدّد مكانته الحقيقية. وعندما تتسق المناصب مع الرسالة الوطنية وتتحرّر من بريق الوجاهة، تتحوّل المؤسسات إلى منصّات خدمةٍ وإنجازٍ تُترجم رؤية الوطن إلى واقعٍ نابض بالحياة، وتجعل من القيادة نموذجًا يُحتذى لا لقبًا يُتداول.

ولعلّ أجمل المناصب هي تلك التي لا تحتاج إلى تعريف، لأن أثر صاحبها يكفي ليتحدث عنه؛ فالمسؤول الذي يسير بين الناس ببساطة، يسمع شكواهم بلا حواجز، ويُعامل الجميع بإنسانية، يغرس فيهم احترام المنصب قبل هيبته. فالقيمة الحقيقية لا تُقاس بالمكاتب الفاخرة ولا بالمواكب الرسمية؛ بل بقدرة صاحب المنصب على أن يبقى قريبًا من الناس، يشعر بتعبهم قبل أن يفرح بإنجازهم؛ لأن القيادة في جوهرها إنسانيةٌ قبل أن تكون إدارية، ورسالةٌ قبل أن تكون سلطة.

في نهاية المطاف، المنصب امتحانٌ للأمانة قبل أن يكون فرصةً للظهور. فمن جعل المنصب وسيلةً للعطاء، خَلّد اسمه في قلوب الناس قبل ملفات المؤسسات؛ ومن جعله طريقًا للوجاهة، مرَّ سريعًا دون أن يترك أثرًا يُذكر. فالزمن لا يحفظ المظاهر؛ بل يُكرِّم أصحاب الأثر؛ أولئك الذين عملوا بصمتٍ فأنجزوا بصدق، وجعلوا من مواقعهم جسورًا نحو خدمة الوطن، لا منصّاتٍ لتلميع الذات؛ فالوجاهة تزول... ويبقى الأثر.

رابط مختصر

المصدر: جريدة الرؤية العمانية

إقرأ أيضاً:

والي غرداية يدشّن دار الصحافة .. مكسب إعلامي طال انتظاره

في أجواء احتفالية مميزة شهدت ولاية غرداية افتتاح دار الصحافة بحضور والي الولاية عبد الله أبي نوار، مرفوقا بالسلطات الأمنية والعسكرية والمدنية، إلى جانب الأسرة الإعلامية من مختلف المؤسسات المحلية والوطنية.

الحدث شكل لحظة تاريخية طال انتظارها من قبل الصحفيين والمراسلين الذين عبروا عن سعادتهم بهذا المكسب الجديد، الذي يجسد التفاتة نوعية نحو مهنة المتاعب ودعما حقيقيا لدور الإعلام في مرافقة مسار التنمية المحلية.

وقد لقيت المبادرة إشادة واسعة من الصحفيين، معتبرين أن إنجاز هذا الفضاء هو ثمرة حرص ومتابعة شخصية من والي الولاية، الذي أولى أهمية خاصة لتجسيد هذا المشروع بعد سنوات من الانتظار.

تضم دار الصحافة مرافق عصرية مهيأة لاحتضان مختلف الأنشطة الإعلامية، منها قاعة للندوات، ومكاتب للصحفيين، وفضاءات للتبادل والتنسيق بين المؤسسات الإعلامية.

وبافتتاح هذا الصرح، تؤكد ولاية غرداية مكانتها كقطب إعلامي نشط، وتفتح صفحة جديدة في مسار التواصل بين السلطات والأسرة الإعلامية، عنوانها الاعتراف، الشراكة، والاحترافية.

مقالات مشابهة

  • تعاون بين "جامعة التقنية" و"حماية المستهلك" لتعزيز التكامل بين المؤسسات
  • المرعاش: الحكومة الليبية فقدت صبرها تجاه البعثة الأممية التي تتجاهل المؤسسات الشرعية
  • الإغلاق الحكومي في أمريكا.. من يتحمل شلل المؤسسات الفيدرالية؟
  • صالح الفوزان ومسار الإفتاء بالسعودية.. فتاوى قديمة تثير جدلا
  • شبه التزام بالإضراب في المؤسسات العامة بزحلة
  • نساء في القيادة.. المساواة المؤجلة بأوروبا
  • والي غرداية يدشّن دار الصحافة .. مكسب إعلامي طال انتظاره
  • الصفدي يجري محادثات مع القيادة الفلسطينية حول ملفات استراتيجية
  • بيان لـ70 نائب يطالبون بإعادة تشكيل وتوحيد المناصب السيادية والتنفيذية كاملة حزمة واحدة