المنصب بين الوجاهة والإنجاز
تاريخ النشر: 25th, October 2025 GMT
خالد بن حمد الرواحي
ليس كل من جلس على الكرسي قائدًا، فبعض المقاعد تُبرز أصحابها أكثر مما ترفعهم؛ ففي عالم الإدارة، لا يُقاس المنصب بما يُمنح من صلاحيات؛ بل بما يُصنع به من أثر، غير أنّ بعض المناصب تحوّلت في واقعنا إلى مسرحٍ للوجاهة بدل أن تكون مساحةً للإنجاز؛ فغابت روح الخدمة، وحضرت مظاهر البروتوكول والظهور الإعلامي.
وبينما ينشغل البعض بعدسات الكاميرات، هناك من يختار أن يكون في الميدان، يُصغي للموظف والمواطن، ويحوّل القرار إلى أثرٍ ملموس. وهكذا تتمايز المناصب بين من يرتديها لتُجمّله، ومن يجعلها وسيلةً لتجميل واقع مؤسسته.
وفي بعض المؤسسات، يُختزل المنصب في لباسٍ رسمي ومقعدٍ فخم وتوقيعٍ يحمل أكثر مما ينجز، حتى غلبت الهيبة الشكلية على روح العمل. فتحوّل بعض المسؤولين إلى رموز حضورٍ لا رموز تأثيرٍ، وتحوّلت الاجتماعات إلى تكرارٍ لعباراتٍ منمّقة بلا متابعةٍ حقيقية. غير أنّ جوهر القيادة لا يكمن في حضور الفعاليات ولا في التقاط الصور الرسمية، بل في متابعة التفاصيل الصغيرة التي تصنع الفرق الكبير في حياة الناس. ومن هنا تبدأ المفارقة بين من يقود فعلًا... ومن يكتفي بالظهور.
وفي هذا السياق، فإنّ المسؤول الحقيقي لا يُقاس بعدد المقابلات التي يجريها ولا بعدد اللجان التي يرأسها، بل بما يتركه من أثرٍ يلمسه الناس في حياتهم. إنّه من يراهن على النتائج لا العناوين، وعلى العمل الصامت لا الاستعراض العلني. أمّا المسؤول الباحث عن الوجاهة، فيرى في المنصب جدارًا يحتمي به، لا نافذة يطلّ منها على احتياجات مجتمعه؛ يهوى الأضواء، لكنّه يهرب من الملفات الصعبة، ويتحدّث كثيرًا عن «الرؤية» دون أن يترك أثرًا يليق بها... لأنَّ الرؤية لا تُقال، بل تُرى.
لقد أثبتت التجارب أن المناصب لا تصنع القادة، بل تكشف معادنهم. فهناك من يرى في المنصب فرصةً لتطوير الأنظمة ورفع كفاءة الأداء، فيترك خلفه إرثًا من التحسينات يتناقله الموظفون بإعجاب. وهناك من يكتفي بإدارة الحاضر دون بصمةٍ أو رؤيةٍ للمستقبل. والفرق بين الاثنين أن الأول يعمل بفكر الإنجاز، بينما الثاني يستهلك وقته في تبرير التعثّر. فالمناصب، مهما علت، لا تُخلِّد أصحابها إلا بقدر ما يتركونه من أثرٍ حقيقي يغيّر حياة الناس نحو الأفضل. وحين يغيب هذا الوعي القيادي، تفقد المؤسسات بوصلتها، ويصبح العمل بلا روح ولا اتجاه.
ولعلّ المشهد اليومي في بعض المؤسسات يختصر القصة: اجتماعاتٌ طويلة لا تنتهي، وخططٌ مؤجلة، وقراراتٌ بلا روح. كم من موظفٍ خرج من اجتماعٍ لا يدري لِمَ انعقد، وكم من فكرةٍ وُئدت لأنها لم تحمل بريق الوجاهة في عيني صاحب المنصب. عندها، يغدو الكرسي أكبر من الجالس عليه، وتتحوّل القيادة إلى عبءٍ ثقيل بدل أن تكون أداةً للتغيير والإلهام.
وحين تسود ثقافة الوجاهة داخل المؤسسات، يبهت الحافز ويغيب الشعور بالانتماء. فالموظف الذي يرى مسؤوله يطارد المظاهر أكثر مما يسعى إلى النتائج، يفقد الإيمان بقيمة الجهد، ويتحوّل العمل إلى روتينٍ بلا روح. ومع مرور الوقت، تتآكل الثقة، وتغدو القرارات مجرّد أوراقٍ تُوقَّع ثم تُركن على الرفوف دون أن تُحدث فرقًا. أما المؤسسات التي يقودها أصحاب الرؤية والإنجاز، فهي التي تُعيد للوظيفة معناها، وتزرع في موظفيها الشغف، وتحول المناصب إلى طاقةٍ إنتاجيةٍ لا عبءٍ إداري.
ومن زاويةٍ أوسع، تُؤكد رؤية "عُمان 2040" أن القيادة ليست امتيازًا وظيفيًا، بل التزامٌ وطني ومسؤولية أخلاقية. فالمنصب وسيلةٌ لتجسيد قيم الكفاءة والمساءلة، لا لتكريس المظاهر والشكليات. وكل مسؤولٍ شريكٌ في بناء صورة الوطن أمام مجتمعه، ومقدار ما ينجزه من أثرٍ ملموس هو ما يحدّد مكانته الحقيقية. وعندما تتسق المناصب مع الرسالة الوطنية وتتحرّر من بريق الوجاهة، تتحوّل المؤسسات إلى منصّات خدمةٍ وإنجازٍ تُترجم رؤية الوطن إلى واقعٍ نابض بالحياة، وتجعل من القيادة نموذجًا يُحتذى لا لقبًا يُتداول.
ولعلّ أجمل المناصب هي تلك التي لا تحتاج إلى تعريف، لأن أثر صاحبها يكفي ليتحدث عنه؛ فالمسؤول الذي يسير بين الناس ببساطة، يسمع شكواهم بلا حواجز، ويُعامل الجميع بإنسانية، يغرس فيهم احترام المنصب قبل هيبته. فالقيمة الحقيقية لا تُقاس بالمكاتب الفاخرة ولا بالمواكب الرسمية؛ بل بقدرة صاحب المنصب على أن يبقى قريبًا من الناس، يشعر بتعبهم قبل أن يفرح بإنجازهم؛ لأن القيادة في جوهرها إنسانيةٌ قبل أن تكون إدارية، ورسالةٌ قبل أن تكون سلطة.
في نهاية المطاف، المنصب امتحانٌ للأمانة قبل أن يكون فرصةً للظهور. فمن جعل المنصب وسيلةً للعطاء، خَلّد اسمه في قلوب الناس قبل ملفات المؤسسات؛ ومن جعله طريقًا للوجاهة، مرَّ سريعًا دون أن يترك أثرًا يُذكر. فالزمن لا يحفظ المظاهر؛ بل يُكرِّم أصحاب الأثر؛ أولئك الذين عملوا بصمتٍ فأنجزوا بصدق، وجعلوا من مواقعهم جسورًا نحو خدمة الوطن، لا منصّاتٍ لتلميع الذات؛ فالوجاهة تزول... ويبقى الأثر.
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
عدد من المؤسسات في سلطنة عُمان تفوز بجائزة الكويت للإبداع
العُمانية/ فازت وحدة متابعة تنفيذ رؤية عُمان 2040 بجائزة الكويت للإبداع 2025 عن مبادرة /كل عُمان/ ضمن محور التواصل الحكومي، في إنجاز وطني يُضاف إلى سجل التجارب العُمانية الرائدة في مجال الاتصال المؤسسي والتواصل مع المجتمع.
ويأتي هذا الفوز تتويجًا لجهود وحدة متابعة تنفيذ رؤية عُمان 2040 في تطوير منظومة التواصل الحكومي، وتقديم مبادرات مبتكرة تعكس توجهات الدولة في تعزيز التواصل المؤسسي، وترسيخ خطاب وطني مسؤول يدعم مسيرة التنمية المستدامة.
وتُعد مبادرة /كل عُمان/ إحدى المبادرات التواصلية الوطنية التي أطلقتها وحدة متابعة تنفيذ رؤية عُمان 2040، وتهدف إلى تعزيز الوعي المجتمعي بالرؤية الوطنية، وترسيخ مفهوم الشراكة بين الدولة والمجتمع، من خلال محتوى تواصلي متنوع يُبرز أولويات الرؤية، ويتابع المنجزات الوطنية، ويقرّب السياسات العامة من المواطن بلغة واضحة وأدوات حديثة.
وتسهم المبادرة في تقديم نموذج فاعل للتواصل الحكومي القائم على الشفافية، والتفاعل، والاستماع للمجتمع، بما يعزز الثقة، ويدعم المشاركة المجتمعية، ويواكب التحولات في أنماط الاتصال والإعلام الحديث.
كما فازت إذاعة سلطنة عُمان بجائزة الكويت للإبداع 2025، عن برنامج /استوديو الظهيرة/، وذلك عن محور البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الملتقى الإعلامي العربي بالكويت.
وشهدت الجائزة مشاركة عربية واسعة بلغت نحو 1600 مشاركة من مختلف الدول العربية، توزعت على عدد من المجالات والمحاور الإبداعية، ما يعكس حجم المنافسة وقيمة الجائزة على المستوى العربي.
يُعد برنامج «استوديو الظهيرة» برنامجًا حواريًا يوميًا يُقدمه عبدالله السعيدي عبر أثير إذاعة سلطنة عُمان، ويتناول مختلف القضايا المحلية، ويتابع مستجدات الشأن العام، إضافة إلى مناقشة الموضوعات الاجتماعية والتنموية والاقتصادية، مع تسليط الضوء على القضايا ذات الصلة بحياة المجتمع، واستضافة المختصين والمسؤولين في مختلف المجالات.
ويأتي الفوز تتويجًا لجهود إذاعة سلطنة عُمان في تقديم محتوى إذاعي مهني يواكب تطلعات الجمهور، ويعزز دور الإعلام في خدمة المجتمع، وترسيخ الحوار المسؤول، ومتابعة القضايا العامة بموضوعية واحترافية.
وفاز مركز الشباب بسلطنة عُمان بجائزة الكويت للإبداع الإعلامي في دورتها الثالثة عشرة، والتي أقيمت في دولة الكويت بحضور عدد من المؤسسات الحكومية والإعلامية من مختلف الدول العربية.
وجاء فوز المركز عن فئة الحملات الإعلامية التوعوية، حيث قام المركز بعدد من الحملات التي تستهدف المجتمع وتحديدًا فئة الشباب، منها حملة "هذا وقتك" في شهر رمضان المبارك، وحملة صيفنا شبابي تزامنًا مع البرامج الصيفية التي ينفذها المركز بمختلف محافظات سلطنة عُمان.
وتُعد جائزة الكويت للإبداع من الجوائز العربية البارزة التي تُعنى بتكريم المبادرات والأعمال الإعلامية والإبداعية المتميزة، وتسهم في دعم الإنتاج الاتصالي الهادف وتعزيز التنافس الإيجابي بين المؤسسات الحكومية والإعلامية العربية.
/العُمانية/