الجزيرة:
2025-10-26@22:00:21 GMT

المهرج الرقمي والمغرور على منصات التواصل

تاريخ النشر: 26th, October 2025 GMT

المهرج الرقمي والمغرور على منصات التواصل

إن المنظور الذي يقيس نجاح الرسالة الإعلامية في مواقع التواصل بناء على مؤشر التفاعل السطحي، وأبرزها "الإعجاب"، يمثل خللا بنيويا عميقا يجب معالجته فورا من زاوية التربية الإعلامية والمعلوماتية.

لقد تحول زر "اللايك" من إشارة بسيطة للاستحسان إلى عملة رمزية تسير سلوك صانع المحتوى، وتضلل فهمنا للأثر الحقيقي، مانحا قيمة زائفة لا تتناسب أبدا مع القيمة المعرفية للمحتوى.

القيمة الجوهرية للرسالة لا تكمن في كمية التصفيق العلني الذي تحصده في ساحات المنصات المفتوحة، بل في عمق الاختراق المعرفي الذي تحدثه في الوعي الجمعي؛ وهو ما يتجسد بصدق في ظاهرة الاستهلاك الصامت أو المشاهدة الواعية.

إن التحدي الذي نواجهه اليوم لا يقتصر على مجرد فهم الأدوات، بل يتعداه إلى تحرير صانع المحتوى الجاد والمستنير من إدمان "مقاييس الغرور" (Vanity Metrics)، والتركيز على ما يحدث في عقل المتلقي.

أرقام المشاهدات الهائلة التي يمكن أن يحققها المحتوى المؤثر هي البرهان العملي الذي يثبت أن الرسالة قد تخطت ضوضاء الخوارزميات، متفوقة بعشرات الأضعاف على مؤشرات التفاعل المعلن والمتقلب.

لفهم عمق هذه الظاهرة، يجب علينا أولا تفكيك سيكولوجية الاستهلاك الصامت وقوته الكامنة. المشاهدة تعني أن الرسالة قد نجحت في تجاوز حاجز "الضوضاء الرقمية"، واحتلت حيزا فعليا في مجال الوعي للمتلقي، ما يمثل نجاحا حاسما في مرحلة الاستقبال المعرفي للمعلومة.

أما الإحجام عن الإعجاب، فهو في كثير من الأحيان ليس دليلا على عدم الاهتمام، بل هو آلية دفاع سيكولوجية واجتماعية متطورة؛ فالقضايا العميقة التي تتناولها التربية الإعلامية، والتي تتطلب تفكيرا نقديا وتحديا للمسلمات، تمس الجوانب الأيديولوجية أو المعتقدات العصبوية للمتلقي.

التعبير العلني عن القناعة أو الاستحسان لهذا النوع من المحتوى قد يحمل تكلفة اجتماعية أو فكرية عالية قد لا يرغب الفرد في دفعها، خاصة في المجتمعات الرقمية التي تمارس رقابة اجتماعية صارمة على الآراء المعلنة.

إعلان

يلجأ المتلقي إلى المشاهدة الصامتة كملاذ آمن يضمن له تلقي المعلومة ومعالجتها داخليا، بعيدا عن ضغط القبول أو الرفض الجمعي. هذا السلوك يضمن أن بذرة المعلومة قد وُضعت في الوعي، لتبدأ عملها البطيء والتراكمي في تشكيل المفاهيم، ليصبح الاستهلاك الصامت هو الضامن لعملية التفكير النقدي المستقل الذي نسعى إليه، وهو ما يثبت أن الأثر المعرفي بطبيعته تراكمي وبطيء، ولا يمكن أن يقاس بسرعة ضغطة زر.

إن الأثر التدميري لثقافة الإعجابات لا يتوقف عند تضليل قياس الأثر، بل يمتد ليؤثر بشكل سلبي ومباشر على صانع المحتوى نفسه. عندما يتحول الإعجاب إلى معيار أساسي للنجاح، يتحول صانع المحتوى، حتى لو كان خبيرا أو متخصصا، إلى ضحية لـ"إدمان التقييم الخارجي" (External Validation Addiction).

يسعى العقل البشري بشكل غريزي إلى المكافأة الفورية (Instant Gratification)، والمتمثلة هنا في صدى "اللايكات" وتضاعفها، وهذا السعي يخلق ضغوطا نفسية ومهنية هائلة؛ فشعور صانع المحتوى بالإهمال الرقمي أو تدني أرقام التفاعل لا يترجم لديه فقط إلى فشل للمحتوى، بل غالبا ما يترجم إلى حكم على قيمته الذاتية وكفاءته المهنية.

هذا الإحساس بالنقص وعدم الجدوى يدفعه نحو التنازل المعرفي والمهني (Content Compromise)، فيجد الكاتب نفسه مضطرا لكتابة ما يطلبه المستمعون، أو ما يضمن له التفاعل العاطفي السريع، حتى لو كان ذلك المحتوى سطحيا، شعبويا، أو مناقضا لرسالته التخصصية والأخلاقية التي يؤمن بها.

وهكذا، نرى المحتوى العميق والموجه للوعي يفسح المجال للمحتوى المثير للجدل أو الترفيهي المفرط، لمجرد ضمان استمرار تدفق الإعجابات، وبذلك تنهار جودة الخطاب العام، ويتحول الخبير إلى مجرد مهرج رقمي يسعى لإرضاء غرور الخوارزمية.

ولزيادة تعميق التحليل، لا يمكن فصل الإعجابات عن عوامل التضخيم الخارجية التي تشوهها تماما. التفاعل المعلن يتأثر بقوة الولاء للرمز، حيث ينفصل الجمهور عن تقييم الرسالة ليصبح الإعجاب طقسا من طقوس الدعم والاحتفاء بالشخص نفسه.

كما تتأثر الإعجابات بديناميكية القطيع؛ فالأفراد يميلون إلى محاكاة السلوك الجماعي، فيضغطون زر الإعجاب؛ لأنهم رأوا كثرة فعلت ذلك، فتصبح العملية ميكانيكية وتفقد دلالتها الحقيقية كقناعة فكرية.

لكن التأثير الأعمق يأتي من القوة المادية والتقنية؛ حيث يتمتع المشاهير والكيانات الكبرى بقدرة هائلة على التلاعب البارد بأرقام التفاعل عبر الترويج المدفوع وشراء الإعلانات الموجهة التي تضمن الوصول وتوليد التفاعل، أو استغلال التقنيات المعقدة لتحسين خوارزميات الانتشار.

هذه العوامل تجعل الإعجاب دالة للقدرة المالية والتقنية، وليس دالة للأصالة المعرفية للمحتوى، مما يكرس ظلم المحتوى المستقل والجريء الذي يعتمد على قوة فكرته، لا على ضخامة ميزانيته.

هنا يبرز الدور الجوهري والإنقاذي للتربية الإعلامية والمعلوماتية كأداة علاجية وتحصينية لهذه الظاهرة السلبية. إن مهمة التربية الإعلامية تتجاوز بكثير مجرد تعليم الجمهور كيفية استخدام الأدوات؛ بل تهدف إلى بناء "المرونة الإعلامية" (Media Resilience) لدى كل من المتلقي وصانع المحتوى على حد سواء.

إعلان

يجب تعليم الجمهور أن يقيِم المحتوى بناء على جودته المعرفية، عمقه، ومنطقيته، لا بناء على عدد الإعجابات أو شهرة ناشره، وهذا يتطلب تفعيل مهارات التفكير النقدي لفصل الرسالة عن ضجيج الإحصائيات الخارجية والتركيز على عمق الأثر وليس سرعة التفاعل.

وفي الوقت ذاته، يجب توجيه كتّاب المحتوى والمتخصصين لإعادة تعريف النجاح بالارتكاز على "مؤشرات الأثر" (Impact Metrics) الأكثر صدقا، مثل تحليل مدة المشاهدة الفعلية ومعدلات الانتهاء من المحتوى، بدلا من التفاعل السطحي.

يجب عليهم تبني فلسفة أن النجاح الحقيقي يكمن في خدمة الرسالة والالتزام بالمعيار المهني، حتى لو أدى ذلك إلى استهلاك صامت، بدلا من التضحية بالرسالة من أجل مكافأة نفسية زائلة. هذا التحول الفكري هو الضمان الوحيد لخلق جيل من صناع المحتوى ملتزم بالمعرفة لا بالتسويق، ومتمسك بالصدق لا بالشعبوية.

الرسالة الأصيلة، التي تسعى إلى بناء الوعي وخدمة الحقيقة، يجب أن تتبنى فلسفة الأثر التراكمي. فالمشاهدات الكبيرة دليل على أن بذرة الحقيقة قد وصلت إلى التربة المناسبة، أي وعي المتلقي. إن هذه البذرة ستنمو وتثمر في الوقت المناسب، حتى وإن بقيت الأصوات الداعمة خافتة؛ علينا أن ندرك أن الاستهلاك الصامت ليس دليلا على عدم الاهتمام، بل هو غالبا دليل على الانشغال بالتفكير والتأمل، ما يجعله الصوت الأكثر صدقا والأهم في مسيرة التربية الإعلامية، وعليه يتم قياس التأثير النوعي للخطاب الإعلامي المستنير.

الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.

aj-logo

aj-logo

aj-logo إعلان من نحنمن نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطبيان إمكانية الوصولخريطة الموقعتواصل معناتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتناشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتناقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+

تابع الجزيرة نت على:

facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineجميع الحقوق محفوظة © 2025 شبكة الجزيرة الاعلامية

المصدر: الجزيرة

كلمات دلالية: غوث حريات دراسات التربیة الإعلامیة صانع المحتوى

إقرأ أيضاً:

الدراية الإعلامية.. وتطوير الإعلام

أسبوع الدراية الإعلامية بدأ أمس الجمعة ويستمر حتى نهاية الشهر الجارى وهو الأسبوع الذى يحتفل به العالم سنويا منذ إقراره من الجمعية العامة للأمم المتحدة فى عام 2021 مع التطور الهائل فى تكنولوجيا المعلومات ووصول أدوات الذكاء الاصطناعى إلى قمة عملها لذا أعلنت الأمم المتحدة واليونسكو إطلاق هذا الأسبوع. 
والدراية الإعلامية مثلما عرفتها الأمم المتحدة واليونسكو «هى القدرة على الوصول إلى المعلومات، تقييمها بشكل نقدى، استخدامها ومشاركتها بمسئولية وفهم كيفية عمل وسائل الإعلام وتأثيرها. تتضمن هذه المهارة مجموعة واسعة من الكفاءات والمعارف والمواقف والقيم، وتشمل تحليل الرسائل الإعلامية، والتعرف على مصادرها، وفهم كيفية عمل الأدوات الرقمية والذكاء الاصطناعى».
وجاء فى قرار الأمم المتحدة أن الأسبوع جاء «استنادًا إلى الحاجة إلى نشر معلومات واقعية وفى الوقت المناسب وموجهة وواضحة وسهلة الوصول ومتعددة اللغات ومستندة إلى العلم. ويقرّ القرار بأن الفجوة الرقمية الكبيرة وتفاوت البيانات بين الدول وداخلها يمكن معالجتها جزئيًا من خلال تحسين قدرات الأفراد على البحث عن المعلومات وتلقيها ونقلها فى المجال الرقمى.
وفى ظل المنظومة الراهنة التى تتشابك فيها الرسائل والمعانى المعقدة والمتناقضة أحيانًا، يصعب تصور تحقيق الصالح العام إذا بقى الناس عاجزين عن التعامل مع الفرص والتحديات. لذا، يحتاج كل فرد إلى امتلاك كفاءات التربية الإعلامية والمعلوماتية لفهم القضايا القائمة، والمساهمة فى الفرص المتاحة فى ميدان المعلومات والاتصال والاستفادة منها».
ويأتى أسبوع الدراية الإعلامية هذا العام حول الجدل الدائر حول تطوير الإعلام المصرى وتشكيل لجنة ضخمة لوضع خطة لتطوير الإعلام على الأقل المملوك للحكومة بشقيه الرسمى وغير الرسمى، ولأن اللجنة الضخمة انبثقت عنها لجان فرعية لوضع الخطة كما جاء فى قرار رئيس الحكومة الانتهاء منها خلال شهرين، وهو أمر يشك كل الإعلاميين فى تحقيقه وإلا سنخرج بخطة إنشائية مثل كل الاستراتيجيات الوطنية التى أقرت فى السنوات الأخيرة، لأنها بلا أهداف محددة أو جدول زمنى للتنفيذ يلزم جميع الجهات ذات الصلة بالقيام بدورها فى الخطة ولا آلية محددة للتقييم سواء المرحلى أو البعدى. 
ويأتى الاحتفال هذا العام مع محاولات شيطنة أدوات الذكاء الاصطناعى ومحاولة بعض الدول تقييدها والحد منها تحت مزاعم الأخلاق وحماية الخصوصية.. وهذه الدول التى ترفع هذا الشعار لا يوجد لديها أى قوانين حرية تداول المعلومات ومنع تضارب المصالح ومكافحة الفساد.. وترفع شعار رفع الوعى بدون تقديم أى برامج لتمكين الناس من الدراية الإعلامية والتى تتضمن تقييم المعلومات وفهم وسائل الإعلام واستخدام التقنيات والقدرة على المساهمة فى المحتوى الإعلامى ومشاركته بمسئولية، مع الوعى بالجوانب الأخلاقية. 
حرية تداول المعلومات هى السلاح الأهم والأسرع فى مواجهة المعلومات المضللة التى تشكو منها الأنظمة المغلقة الرافضة لحرية الإعلام وممارسة حق النقد ووجود خطوط حمراء حول شخصيات رسمية وغير رسمية وفرض الرقابة المسبقة على وسائل الإعلام واحتكارها وهى أسهل طريق لتطوير الإعلام.
الدراية الإعلامية تحمى المجتمع لكن لو طبقنا الالتزامات والمعايير التى تضمنها قرار الجمعية العامة والبرامج التى وضعتها اليونسكو الذى ستقوده مصر بعد أيام قليلة.

مقالات مشابهة

  • فلكيون للجزيرة نت: التقطنا الأثر الأخير لبحيرة اختفت من المريخ
  • منصات إعلامية نحو الإقفال
  • أمير سعودي “شيف” يثير تفاعلا واسعا على منصات التواصل
  • تفاصيل خدمة “الواتساب الذكي” التي اطلقتها القنصلية المصرية في نيويورك لتسهيل حصول الجالية على الخدمات
  • موجة حجب غير مسبوقة للمنشورات العراقية على منصات التواصل
  • «القرني»: التسويق وإدارة الحملات الإعلامية والسمعة الرقمية ضرورة استراتيجية في عصر التحول الرقمي
  • مستقبل وطن يوفر شقة إيجار لـ عم غريب المسن الذي صفعه أحد الملاك بالسويس
  • تحذير عاجل.. احذف الرسالة التي قد تسرق كل أموالك على واتساب
  • الدراية الإعلامية.. وتطوير الإعلام