تهديدات ترامب و«الصليبية الجديدة» في إفريقيا
تاريخ النشر: 4th, November 2025 GMT
واقع الحال الذي لم يكشف عنه ترامب أن تهديده لنيجيريا لا يستهدف في المقام الأول حماية المسيحيين في نيجيريا التي لا يفرق العنف المتوارث والمتصاعد فيها بين المسلم وبين المسيحي؛ وإنما يؤكد أنه يستخدم الدين كذريعة لإعادة الدّخول إلى إفريقيا، وأن الحرب الذي وجه بشنها، وإن كانت لا تشكل حتى الآن بداية حرب دينية بالمعنى التقليدي للحروب الدينية، فإنها تمثل دون شك خطوة نحو إعادة تشكيل النفوذ الدولي في القارة الأفريقية تحت شعار أخلاقي كاذب.
خطاب ترامب الأخير، الذي صاغه بلغة عاطفية تخاطب العالم المسيحي ومؤطر بمصطلحات تثير الفتن مثل «نصرة المسيحيين»، و«حماية الإيمان»، و«مواجهة الاضطهاد الإسلامي»، يحمل في طيّاته ولعًا أمريكيًا بالحروب، ويُذكِّر العالم بخطابات القرون الوسطى عندما كان ملوك أوروبا يعبؤون شعوبهم تحت راية الدين لخوض «الحروب الصليبية» في الشرق. تلك الحروب لم تكن دينية خالصة، بل كانت مزيجًا من الطموحات السياسية والاقتصادية والتوسّعية، وهو ما يجعل مقارنتها بما يعتزم ترامب القيام به في نيجيريا أمرًا مقلقًا ومهددًا للسلم العالمي.
فعندما يرفع زعيم غربي شعار الدفاع عن طائفة دينية بعينها في قارة بعيدة جدا عنه، فإن هذا يُعيد إلى الأذهان سردية “الإنقاذ المسيحي» التي طالما استخدمتها الإمبراطوريات الأوروبية لتبرير توسعها العسكري. وإذا كانت «الصليبية الجديدة»، إن جاز التعبير، لا ترفع السيوف والصلبان اليوم، فإنها قد تُدار عبر الطائرات المسيّرة والعقوبات الاقتصادية والهيمنة الرقمية. لذلك، فإن تصريحات ترامب، في جوهرها، ليست مجرد تهديد عابر، بل تذكير بأن توظيف الرموز الدينية في السياسة الدولية ما زال قادرًا على إشعال الفتن والحروب، وإحياء صراعات قديمة ظن البعض أنها طُويت إلى الأبد.
تهديد ترامب العلني والنادر من نوعه، يثير تساؤلات عديدة حول دلالات العودة إلى الحروب الدينية ومردوداتها الكارثية على العالم، ولعبة المصالح الكبرى والتنافس الدولي في القارة السمراء. في تقديري أن الإجابة عن هذه التساؤلات تتطلب تفكيك ثلاثة جوانب حتى يمكن الوصول إلى وصفة سياسية تمكن الدول الإفريقية ودول العالم النامي من الهروب من الفخ «الأمريكي» ومنع تحويل أراضيها إلى ساحة لتصفية حسابات القوى الكبرى والصراع الدائر بينها على النفوذ. هذه الجوانب الثلاثة يمكن وضعها في شكل أسئلة، هي: ما الذي قاله ترامب على وجه الدقة؟ وإلى أي مدى يمكن اعتباره مدافعاً صادقاً عن المسيحيين في العالم أم أن الأمر لا يعدو أن يكون مجرد «لعبة مصالح» ورسائل مبطنة وغير مباشرة للقوى العالمية الأخرى الطامعة في موارد إفريقيا؟ وماذا يجب أن يفعل العالم ونيجيريا والدول الإفريقية على وجه الخصوص لتفادي العطش الأمريكي للحروب والتدخل في شؤون الدول الأخرى؟
تحليل رسائل ترامب سواء في تصريحاته لوسائل الإعلام التي نشرتها وكالة أنباء «الاسوشيتدبرس» و«ايه بي سي نيوز»، أو تغريداته على منصته «تروث» بشأن نيجيريا، يكشف قناعاته غير المستندة إلى معلومات دقيقة عن «عمليات قتل واسعة النطاق للمسيحيين» و«انتهاكات لحرية الدين» في نيجيريا، وتأكيده أن «بلاده لن تقبل باستمرار هذا الوضع» وأنه «قد يرسل جنودًا أمريكيين أو يقوم بضربة جوية على أساس أن ما يحدث للمسيحيين يمثل تهديدًا كبيرًا» بالإضافة إلى التهديد «بوقف كل المساعدات الأمريكية لنيجيريا إذا لم يتغير الوضع». تجاهل ترامب عن عمد حقيقة أن العنف الذي تشهده نيجيريا لا يستثني أحدا، وأنه ليس موجها ضد المسيحيين فقط ويعاني منه المسلمون أيضا. وبالتالي ليس هناك، كما قالت الحكومة النيجيرية، «إبادة ممنهجة للمسيحيين فقط». هذا العنف، الذي يطول المسلمين أيضا، مرده الأساسي إلى ضعف إمكانات الأمن الداخلي من جانب بالإضافة إلى النزاعات العرقية وليست الدينية، والصراع على الموارد المحدودة، وكلها عوامل قد يزيد من وطأتها أي تدخل عسكري أمريكي. الغريب في الأمر أن ترامب لم يقدم أية بيانات أو إحصاءات تُثبت أن العنف في نيجيريا موجّه ضد المسيحيين فقط، أو أن الحكومة النيجيرية تدير حملة إبادة ممنهجة ضدهم، واستخدم عبارات مطاطة عن «قتل المسيحيين بأعداد كبيرة جداً»، وذا ما يؤكد أن التهديد «صدر لأغراض سياسية أو انتخابية أو دبلوماسية»، حسب ما قالت مجلة «تايم».
هل يعني ما سبق إمكانية عودة الحروب الدينية؟ واقع الحال أن استخدام ذريعة حماية طائفة دينية من قبل دولة كبرى يفتح الباب أمام دول أخرى لتكرار الأمر، وبالتالي تصدير العنف تحت شعارات زائفة مثل «التدخل الإنساني» أو «الحرب الأخلاقية».
والواقع أن كل المؤشرات في الحالة النيجيرية تؤكد أن الهدف الحقيقي للولايات المتحدة من التدخل العسكري ليس حماية المسيحيين؛ فالتعبيرات التي استخدمها ترامب «قتل المسيحيين»، و«سنذهب هناك بأسلحتنا» تنتمي للغة الحرب، خاصة وأن أفريقيا تُعدّ ساحة للتنافس المحموم بين القوى الكبرى، وتحديدا الولايات المتحدة، والصين، والقوى الأوروبية الاستعمارية التقليدية على النفوذ والموارد. ومن هنا يمكن القول إن تهديد ترامب يمكن أن يندرج ضمن استراتيجية أكبر لإعادة «الحروب الدينية»، واستخدام الدين كغطاء لتدخلات عسكرية أو سياسية في أماكن كثيرة من العالم.
إن السؤال الذي قد تكشف الإجابة عنه النوايا الحقيقية للولايات المتحدة هو: هل يدافع ترامب فعلاً عن المسيحيين، أم أن الأمر لا يعدو أن يكون خطوة متقدمة في لعبة المصالح؟ ويتفرع من هذا السؤال سؤالان على درجة كبيرة من الأهمية، هما: ما مصالح الولايات المتحدة في نيجيريا؟ وما مدى صدق نية ترامب في الدفاع عن المسيحيين؟ الواقع أن الولايات المتحدة تنظر إلى نيجيريا باعتبارها دولة محورية وذات ثقل كبير في القارة الإفريقية في ضوء عدد سكانها الضخم الذي يتجاوز 230 مليون نسمة، ومواردها الطبيعية الكبيرة من نفط وغاز ومعادن نادرة، بالإضافة إلى موقعها الجغرافي المتميز الذي يجعل منها بوابة لغرب إفريقيا. ما يقلق ترامب والولايات المتحدة أن الصين عززت في السنوات الأخيرة حضورها في إفريقيا من خلال استثمارات ضخمة وبنى تحتية متقدمة، وهذا ما يدفع واشنطن إلى محاولة استعادة موقعها ونفوذها الاستراتيجي في القارة الواعدة في مواجهة النفوذ الصيني المتصاعد. وفي هذا الإطار، فإن التسلل إلى الداخل الإفريقي عبر استخدام قضية الاضطهاد الديني يُمكن أن يُسهّل نجاح هذه المحاولة.
إذا اعتبرنا أن التهديد الأمريكي لنيجيريا يمثل تحولا مهما في السياسة الدولية، يمنح الدول الكبرى حق استخدام الدين لتبرير التدخل العسكري في الدول النامية، فإن على هذه الدول، ومنها نيجيريا، أن تبادر إلى رفض هذه السياسات غير العادلة، وتأكيد سيادتها الوطنية، وتعزيز جهود التنمية للحد من الفقر والبطالة والصراعات العرقية التي تمثل الأسباب الحقيقية للعنف، وليس الدين. ويتطلب الأمر من الصحفيين والكُتاب مراقبة وتحليل الخطاب الإعلامي الغربي لفضح أساليب الدعاية التي تستخدم الدين كغطاء للسياسات الاستعمارية والهيمنة الغربية الجديدة.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی نیجیریا فی القارة
إقرأ أيضاً:
ترامب يعيد إحياء أسطورة الحروب الصليبية
2 نونبر، 2025
بغداد/المسلة: ارتجّت المنصات الإلكترونية بعد تهديد الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب لنيجيريا بعمل عسكري “مدجّج بالسلاح”، بدعوى حماية المسيحيين من “إرهابيين إسلاميين”، كما قال في منشور على “تروث سوشل”.
واشتعل الجدل بين من رأى في التصريح محاولة جديدة لإحياء مفردات “الحملة الصليبية”، ومن اعتبره تصعيدا انتخابيا يستثمر المخاوف الدينية لتحقيق مكاسب سياسية.
وغرّد ناشطون غاضبون من “تسييس الدين”، فيما أعاد آخرون نشر صور لضحايا العنف الطائفي في ارجاء العالم، مذكرين بأن جذور الأزمة أعمق من الطائفية، وتتعلق بضعف الدولة وتغلغل الجماعات المسلحة وتنافس الزعامات المحلية على الموارد.
وكتب أحد المدوّنين: “ترامب لا يبحث عن العدالة.. إنه يبحث عن عدو جديد يلمّ حوله أنصاره في موسم الانتخابات”.
وأعاد تصريح ترامب إلى الأذهان ما وصفه المؤرخ الفرنسي فلوريان بيسون بـ“عودة خيال الحملات الصليبية إلى السياسة الحديثة”، إذ يربط المؤرخ بين الخطاب الترامبي وبين نزعة رمزية بدأت منذ تجمعات اليمين المتطرف في شارلوتسفيل عام 2017، حيث استُدعيت رموز الفرسان والأساطير الجرمانية كمفردات تعبئة.
ويرى بيسون أن هذا “الخيال التاريخي” يُستخدم لخلق هوية هجومية تستند إلى فكرة “صدام الحضارات”، بين الغرب “المسيحي” والعالم “الإسلامي”.
واستدلّ بيسون في حديثه لمجلة لونوفيل أوبسرفاتور بأن كثيرين في الدوائر الترامبية يتوشمون رموز الصليب وشعارات “الرب يريد ذلك”، في تعبير واضح عن التحام الرمزية الدينية بالخطاب السياسي.
ويضيف أن هذه الموجة تفرغ التاريخ من معناه، وتعيد توظيفه في حرب ثقافية داخلية، لا ضد “الشرق”، بل ضد “الأعداء من الداخل”، من المثقفين والنساء واليساريين، الذين يصوَّرون كخطر على “نقاء الأمة”.
ويحذر باحثون من أن الخطاب الترامبي يعيد إنتاج “العصر الوسيط” في ثوب انتخابي حديث، مستندا إلى رواية أسطورية عن التفوق الغربي، وهو ما يفسر الحنين الأميركي إلى رموز الفرسان والأبطال القدامى، لا كتاريخ، بل كحلم بالقوة الضائعة.
المسلة – متابعة – وكالات
النص الذي يتضمن اسم الكاتب او الجهة او الوكالة، لايعبّر بالضرورة عن وجهة نظر المسلة، والمصدر هو المسؤول عن المحتوى. ومسؤولية المسلة هو في نقل الأخبار بحيادية، والدفاع عن حرية الرأي بأعلى مستوياتها.
About Post AuthorSee author's posts