مأساة عظيمة تجري في السودان وفي غربه على الأخص، في إقليمي دارفور وكردفان، كما كان متوقعاً منذ أن اتضح في العام الماضي منحى الحرب الدائرة بين جناحي الطغمة العسكرية التي أورثها عمر البشير للبلاد.
والمأساة لا تني تتفاقم: فقد سقطت مدينة الفاشر في دارفور قبل بضعة أيام وشرعت «قوات الدعم السريع» ومن لفّ لفّها من المنحدرين من ميليشيات الجنجويد، التي ارتكبت الإبادة الجماعية في دارفور قبل عشرين عاماً، شرعت في ارتكاب أشنع المجازر بما ينذر بتشكيل حالة جديدة من الإبادة الجماعية في الإقليم.
وفي هذه الأثناء، مأساة أخرى ترتسم معالمها في جنوب كردفان حيث مدينتا كادوقلي، عاصمة الولاية، والدلنج تخضعان لحصار يشبه الذي تعرّضت له الفاشر حتى سقوطها قبل أيام. في كردفان، تنتمي القوى المهاجمة لـ«الحركة الشعبية لتحرير السودان ـ الشمال»، جناح عبد العزيز الحلو، المتحالف مع «قوات الدعم السريع» التي يقودها محمد حمدان دقلو، الملقب بحميدتي. وفي الحالتين، في دارفور كما في كردفان، يتشكّل الطرف الآخر من «القوات المسلحة السودانية» بقيادة عبد الفتاح البرهان.
وكما هو معلوم، فإن طرفي الحرب الطاحنة الدائرة في السودان منذ سنتين وثمانية أشهر مدعومان خارجياً من أطراف شتى، أبرزها الإمارات العربية المتحدة المسانِدة لـ«قوات الدعم السريع» والنظام المصري الداعم لـ«القوات المسلحة السودانية». وإذ يصوّر قسم من الإعلام العالمي الحالة وكأن الأشرار فيها ممثلون بـ«قوات الدعم السريع» دون سواها، لا بدّ من التأكيد على المسؤولية العظمى التي تقع أيضاً على عبد الفتاح البرهان وقادة «القوات المسلحة السودانية»، الذين قاموا قبل أربعة أعوام، في أكتوبر/ تشرين الأول 2021، بتنفيذ الانقلاب العسكري الذي أطاح بالمسار الديمقراطي الناجم عن الإطاحة بعمر البشير في عام 2019.
كما أن مسؤولية الإمارات المتحدة في دعم «قوات الدعم السريع»، المعروفة بانحدارها من جناة الإبادة الجماعية التي جرت قبل عشرين عاماً، يجب ألّا تستر مسؤولية داعمي «القوات المسلحة السودانية» في تسعير الحرب وتمديدها بدل الضغط بقوة من أجل إيقافها. أما المسؤولية الأكبر في هذا الصدد، فتقع على الولايات المتحدة الأمريكية التي تربطها علاقة وثيقة بالدول الإقليمية المتدخلة في حرب السودان وتحوز على نفوذ كبير لديها. والحال أن الإدارة الأمريكية السابقة، إدارة جو بايدن، لم تعر اهتماماً جدياً للمأساة السودانية، إذ طغى انشغالها بالمشاركة في حرب الإبادة التي خاضتها القوات المسلحة الإسرائيلية في قطاع غزة، واتكالها على معاونة القاهرة وأبو ظبي لها في الجانب السياسي من تلك الحرب.
كأن الولايات المتحدة ليس لديها ما يلزم من أجل إيصال المساعدة الإنسانية إلى شعب السودان، بل من أجل إيقاف المجزرة
أما إدارة دونالد ترامب، فهي أيضاً لا تريد إحراج أحد الطرفين العربيين اللذين تتكل عليهما في تدخلها في غزة وفي سياستها الإقليمية، كما يبدو أنها لم تجد بعد مشروعاً عقارياً أو منجمياً يبعثها على التدخل النشط في الساحة السودانية. فإن مستشار ترامب المختص بالقارة الأفريقية، مسعد بولس، وهو والد صهر ترامب الآخر (بعد جاريد كوشنر) صرّح قبل شهر في مقابلة أجرتها معه صحيفة «لو موند» الفرنسية، قائلاً: «إننا على اتصال مع الطرفين، الجيش وقوات الدعم السريع. والأولوية المطلقة هي الحصول على تقدم في إيصال المساعدة الإنسانية في حين يشكّل السودان اليوم أسوأ كارثة إنسانية في العالم، حتى ولو لم تحظ (هذه الكارثة) بالاهتمام الضروري».
وكأن الولايات المتحدة ليس لديها ما يلزم من أجل إيصال المساعدة الإنسانية إلى شعب السودان، بل من أجل إيقاف المجزرة، بينما يمنّن رئيسها على العالم كل يوم وساعة بقدرته على وقف الحروب وصنع السلام. والحقيقة أن ترامب لا يهتم بالسلام سوى عندما يجد فيه مصلحة اقتصادية شخصية وعائلية، ولا يتردد في شنّ الاعتداءات العسكرية عندما تنسجم مع مصلحته ومصلحة الإمبريالية الأمريكية التي يرأسها، مثلما فعل ضد إيران ويفعل اليوم ضد فينزويلا. والمصيبة أن تملّق العديد من حكومات العالم للرئيس الأمريكي وقصر نظر قسم هام من الإعلام العالمي ساهما في صنع أسطورة ترامب صانع السلام، التي سوف يسجلها المستقبل على أنها إحدى قمم الزور التاريخي.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه السودان الدعم السريع الإمارات المصري ترامب مصر السودان الإمارات ترامب الدعم السريع مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القوات المسلحة السودانیة قوات الدعم السریع من أجل
إقرأ أيضاً:
محمد خميس دودا بطل السودان الذي اغتالته الدعم السريع
منذ سقوط مدينة الفاشر في السودان بيد الدعم السريع الأسبوع الماضي، تكاثرت الشهادات الموثقة والصور التي تشير إلى أن مذبحة تتكشف مجددا في دارفور، حيث قتل السكان أثناء محاولاتهم الفرار، وانتشرت مقاطع تُظهر إعدامات ميدانية بدم بارد، في حين روى الناجون رحلة هروب محفوفة بالخوف والجوع والموت.
وفي تقرير تناول المأساة المتجددة في دارفور، قالت نيويورك تايمز إن "المجزرة" في الفاشر تعيد للأذهان رعب صراع دارفور قبل عقدين، بيد أن الفرق الآن هو أن العالم لا يكترث.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2تايمز: الإنجيليون يدفعون ترامب نحو تدخل عسكري في نيجيرياlist 2 of 2مؤرخ فرنسي: سلام الشرق الأوسط رهن بالإفراج عن مروان البرغوثيend of listووصف مراسل الصحيفة الأميركية في أفريقيا ديكلان والش المجزرة بأنها "صراع جديد في ساحة معركة قديمة"، ولفت إلى أنه على عكس الصراع قبل 20 عاما -عندما حوّل الممثل الأميركي جورج كلوني وشخصيات أخرى دارفور إلى قضية عالمية وأولوية في السياسة الخارجية الأميركية- لا يوجد اليوم سوى القليل من الاهتمام السياسي والنشاط الإنساني بهذا الصراع.
وصاحب ذلك، حسب الكاتب، إفلات من العقاب على الفظائع، التي وصفتها الأمم المتحدة بأنها "جرائم حرب" ووصفها البيت الأبيض بأنها "إبادة جماعية".
وشجب الكاتب رفض المسؤولين الأميركيين انتقاد دور دولة إقليمية علنا، أتاحت أموالها لمليشيات الدعم السريع للانتقال من استخدام الأحصنة والجمال إلى العربات المدرعة والمسيرات والمدافع الثقيلة، ضد الجيش السوداني والمدنيين.
وسلط التقرير الضوء على ما عاناه ربع مليون سوداني من حصار خانق استمر أكثر من عام ونصف، شهدت فيه الفاشر عزلا تاما عن الإمدادات، حيث قتل كل من حاول إدخال الغذاء أو الدواء، واضطر الأطباء إلى إطعام الأطفال المجوعين العلف.
ووسط هذا الخذلان والصمت الدولي، برز صوت المتحدث الرسمي لمخيم زمزم للنازحين محمد خميس دودا، الذي نقل لصحيفة غارديان البريطانية وللعالم وقائع الحياة تحت الحصار في الفاشر دون كلل أو ملل.
إعلانوحسب غارديان، بدأ دودا مهمته منذ أبريل/نيسان الماضي، بعد أن أصيب في مذبحة أخرى وحُمل إلى الفاشر جريحا، فكان ينقل الروايات ويوثق الانتهاكات تارة، ويحاول البحث عن حفنة ذرة أو طحين تسد الرمق تارة أخرى، حتى انتهى به الأمر -مثل غيره- إلى أكل العلف وجلد الأبقار.
ومع نقله المستمر لمعاناة شعبه لأشهر -تتابع غارديان- بدأ الناشط يشعر بأن هناك مسيرات وعيونا تتبعه، فقضى الكثير من الليالي في ظلمة ملجأ بدائي مصنوعٍ من حاوية معدنية مدفونة في الأرض، والصمت والخوف يلازمانه.
رحيل دودا يمثّل خسارة جيل كامل من الشباب والناشطين السودانيين الذين قادوا ثورة 2019 وحملوا قيم السلام والعدالة والحرية.
وقال ذات صباح في أغسطس/آب: "نستيقظ اليوم منهكين من يوم آخر تحت وطأة الجوع والقصف، فأي صوت أو حركة يمكنه أن ينبه المسيرات. نأكل في صمت ثم ننصت فقط لصوت الطائرات والقذائف، ونأمل أن ينتهي هذا الكابوس يوما ما"، وفق ما نقله التقرير.
وكان دودا -طبقا لغارديان التي كانت على تواصل مستمر معه- يختفي لفترات كلما اشتدت الهجمات، ولكنه كان يعود كل مرة وينقل معاناة الناس بشجاعة حتى لا يختفي أثر الضحايا بصمت.
ونقلت الصحيفة قوله في الشهر ذاته: "استيقظت على أصوات الانفجارات شمالي المدينة، قرب مخيم أبو شوك للنازحين. ثم سمعت هديرا قادما من الجنوب الشرقي، وعندما نظرت، رأيت طائرتين مسيرتين".
وتابع: "اندفعت مسرعا إلى المنازل المجاورة وحثثت السكان على الاحتماء، ثم قضينا اليوم بأكمله في صمت نستمع إلى القصف ونيران المدافع لأكثر من 6 ساعات. وأخيرا، جاء الخبر السار بطرد قوات الدعم السريع، بعد أن سقط 60 شهيدا وأصيب 100 أغلبهم نساء وأطفال".
طريق مسدودواقترح دودا على صديقه حينها أن يغادرا المدينة -حسب التقرير- غير أن الأخير أشار إلى مقاطع تظهر تعذيب من حاولوا الهرب، فما كان للناشط إلا أن قال: "إذن سنبقى هنا حتى النهاية".
وبدا أن الأمور بدأت تسوء في 24 سبتمبر/أيلول، مع ظهور بوادر سقوط المدينة في يد الدعم السريع، وكتب دودا حينها: "لا أستطيع مغادرة البيت، فطائرات الدعم السريع تهاجم كل ما يتحرك. أقضي أيامي أحاول إيجاد وسيلة للهرب، لكن لا سبيل لذلك. هم يبحثون عني، ويظهرون صورتي لكل من يتجرأ على مغادرة المخيم ويسألونهم إن كنت لا أزال هنا".
وحث دودا العالم على التحرك، بيد أن شيئا لم يحصل، واستمرت هجمات الدعم السريع، حتى سقطت الفاشر في 26 أكتوبر/تشرين الأول، وأكدت أسرة وأصدقاء دودا للغارديان أنه قُتل.
ونقلت غارديان قول شاينا لويس، من مبادرة "منع وإنهاء الفظائع الجماعية"، إن رحيل دودا يمثّل خسارة جيل كامل من الشباب والناشطين السودانيين الذين قادوا ثورة 2019 وحملوا قيم السلام والعدالة والحرية.
وأكدت أن هذا الجيل يُستهدف بشكل منهجي، مشيرة إلى تقارير عن قوائم تُعدّها قوات الدعم السريع لملاحقة رموز المجتمع المدني.
ووصفت لويس دودا بأنه بطل قدّم حياته ليكشف فظائع زمزم والفاشر، مؤكدة أنه "لا يمكن وصف حجم الخسارة التي يمثّلها رحيله على المجتمع المدني، وعلى السودان بأسره. لقد فقدت البلاد أحد أصدق أبطال هذه الحرب".
إعلان