في جبال عسير وسهولها، لم تكن الزراعة مجرد نشاط موسمي لتأمين الغذاء، بل كانت ثقافة متكاملة تمثل روح التعاون والتكافل بين أفراد المجتمع، فقد ابتكر الأهالي عبر الأجيال وسائل فريدة لحفظ محاصيلهم من الحبوب كالقمح والذرة والشعير، بطرق تراعي الظروف المناخية الصعبة، وتحافظ على الغذاء لفترات طويلة دون تلف.ويشير الباحث الدكتور غيثان جريس في كتابه “أبها.

. حاضرة عسير” إلى أن المزارعين في كل قرية كانوا يجمعون جزءًا من محاصيلهم يعرف بـ”العُشر” – أي معشار المحصول – إذ يُخصص هذا الجزء لمالية الجماعة، ويخزن في بيوت محكمة البناء تُسمى”المدافن”، تؤدي وظيفة شبيهة بما تقوم به اليوم صوامع الغلال الحديثة.
ويبين الدكتور جريس أن هذه المدافن صُممت بعناية لحماية الحبوب من الحرارة والرطوبة والحشرات، بحيث تُغلق بأقفال متعددة لا تُفتح إلا بحضور جميع الأمناء الذين يختارهم الأهالي، حفاظًا على المال العام، ويُصرف ما يُجمع من “العُشر” في أغراض اجتماعية تكافلية مثل مساعدة المحتاجين، وسداد ديون من أثقلهم الزواج أو البناء، أو إعانة من يتحمل دية دفاعًا عن النفس أو العرض، في تجسيدٍ صادق لروح التعاون التي ميزت القرى.

وفي قرية “آل ينفع” التراثية الواقعة جنوب شرق أبها، ما زالت آثار تلك الثقافة باقية، فقد نُحتت منذ قرون مدافن تحت الأرض، بعمق يزيد على مترين وعرض يقارب المتر والنصف لتكون صوامع طبيعية تحفظ الحبوب سنوات.وتشير الروايات الميدانية لكبار السن إلى أن القرية كانت مكتفية ذاتيًّا بفضل هذه المدافن التي تُملأ وقت الحصاد بجزء من المحصول وفق نظام “العُشر”، ثم تُستخدم محتوياتها لاحقًا لإكرام الضيوف ومساعدة الفقراء والمحتاجين. ويبرز في القرية ما يُعرف بـ”بيت الجماعة”، وهو غرفة كبيرة تحت المجلس الرئيس تضم سبعة مدافن كبيرة تُملأ بالحبوب سنويًا، وتُدار بشفافية واتفاق بين الأهالي لتلبية حاجات المجتمع المحلي، سواء في فترات القحط أو عند مواجهة النفقات الطارئة.

9

 

اقرأ أيضاًتقاريرالرميحي : أمن الخليج يتطلب منظومة ردع خليجية وسوقاً مشتركة

أما في تهامة عسير، وتحديدًا في جبل «أحد ثربان» غرب محافظة المجاردة، فتأخذ مدافن الحبوب شكلًا مختلفًا يناسب طبيعة المكان، فهناك تنتشر المباني الحجرية المعروفة محليًّا باسم “المُغلَّقة”، وهي بيوت حجرية صغيرة مشيدة فوق الصخور النارية الصلبة، تُستخدم لحفظ محاصيل الذرة والشعير والسمسم بعد الحصاد. وتتميز هذه “المُغلقة” بباب صغير محكم الإغلاق يمنع تسرب الرطوبة، ولا تحتوي عادة على نوافذ، لضمان بقاء الحبوب في بيئة جافة ومحفوظة لفترات طويلة، وهو ما جعلها تؤدي دور الصوامع الطبيعية منذ مئات السنين.
وتمثل طرق تخزين الحبوب القديمة في عسير إرثًا حضاريًّا يجسد ذكاء الإنسان في التعامل مع بيئته، فهذه المدافن – سواء كانت تحت الأرض أو على قمم الجبال- لم تكن مجرد مخازن طعام، بل كانت رمزًا للتكافل الاجتماعي والاستدامة الغذائية التي وُلدت من رحم الحاجة وعبقرية التكيّف.
واليوم، مع ازدياد الاهتمام بالتراث غير المادي، تُعد هذه النماذج من التخزين التقليدي شاهدًا على حضارةٍ زراعيةٍ متجذرة، تستحق التوثيق والحفاظ لتبقى حاضرة في ذاكرة الأجيال القادمة.

المصدر: صحيفة الجزيرة

كلمات دلالية: كورونا بريطانيا أمريكا حوادث السعودية الع شر

إقرأ أيضاً:

ترميم 3 محطات تزود الأهالي بالمياه الصالحة للشرب في غزة

غزة - صفا

استأنفت مؤسسة روستروبوفيتش فيشنفسكايا (RVF) الدولية، نشاطاتها في مدينة غزة وشمالها، بعد عودة النازحين إليها مجدداً، لتزويد السكان بالمياه الصالحة للشرب في ظل النقص الحاد الشديد الذي تعاني منه عشرات الآلاف من العائلات التي عادت لبعض تلك المناطق في الآونة الأخيرة، مع تواصل ديمومة عملها في المحافظات الأخرى من وسط وجنوب القطاع وتقديم الخدمات لمئات الآلاف من السكان الذين حرمتهم الحرب من أبسط حقوقهم في الحياة.

خلال الأيام القليلة الماضية، أعادت المؤسسة ترميم أكثر من 3 محطات في مدينة غزة، تضررت بفعل العدوان الإسرائيلي الذي تجدد على المدينة قبل وقف إطلاق النار الأخير، فيما لا زالت الأوضاع الميدانية تحرم المؤسسة من القدرة على ترميم مزيداً من المحطات الموجودة في مناطق شمال القطاع.

وتملك المؤسسة أكثر من 13 محطة موزعة على مختلف محافظات قطاع غزة، وتقدم قدرة إنتاجية من 25 إلى 200 كوب من المياه الصالحة للشرب يومياً، حيث تم توزيعها بناءً على احتياجات السكان، كما أن المؤسسة تعكف على زيادة أعداد المحطات في مناطق أخرى من مدينة غزة، وشمال القطاع في الفترة المقبلة، ومناطق أخرى من مختلف المحافظات التي تعاني من أزمة حادة في توفر المياه الصالحة للشرب.

يشار إلى أن أكثر من نصف مليون فلسطيني من سكان مدينة غزة، عادوا إلى بعض مراكز الإيواء وما تبقى من مدارسهم، بعدما اضطروا في الفترة التي سبقت وقف إطلاق النار للنزوح منها تحت نار القصف والعدوان.

وتنفذ مشاريع المؤسسة بدعم كريم من دولة الإمارات العربية المتحدة، وبجهود جبارة من المؤسسة التي تعمل على توفير مستلزمات محطات التحلية والطاقة الشمسية في ظل عدم توفر طاقة مستدامة بالقطاع بعد تدمير الاحتلال الإسرائيلي للبنية التحتية، وحاجة السكان الماسة لتوفر آبار للمياه، وكذلك للمياه الصالحة للشرب.

وتسعى المؤسسة بكامل كادرها الفني والتقني من 23 مهندساً ومتخصصين، للحفاظ على هذا العمل وجودته، كما تسعى المؤسسة إلى جانب السكان في قطاع غزة لأن يستمر دعم هذه المؤسسة بشكل أكبر للمحافظة على ما تقدمه من خدمات مهمة للسكان.

كما تسعى المؤسسة لأن توفر هذه المياه المحلاة وفق المعايير الدولية، لأصحاب مرضى الكلى في مختلف المناطق والتي يستفيدون منها كما باقي السكان في قطاع غزة ممن يواجهون خطر الأمراض المختلفة.

مقالات مشابهة

  • لعنة الفراعنة بين الأسطورة والعلم .. حكاية بدأت من جدار مقبرة توت عنخ آمون
  • “ما بنختلفش”
  • ترميم 3 محطات تزود الأهالي بالمياه الصالحة للشرب في غزة
  • عسير.. القبض على مخالف لتهريبه أكثر من 16 ألف قرصًا طبيًا
  • فوز حزب “الديمقراطيين 66” في الانتخابات الهولندية
  • هذا برنامج سير القطارات على خط “زرالدة – الثنية– زرالدة” و”العفرون– الثنية– العفرون”
  • زغدود: “لم نطبق طريقة اللعب التي حضّرناها لمواجهة الوفاق”
  • زغدود: “لم نطبق طريقة اللعب التي حضرناها لمواجهة الوفاق”
  • الملكة: “أحلى رحلة عبر الزمن مع حبيبتي”