يصف عبدالرحمن منيف مدينة عمّان في كتابه سيرة مدينة (ص 395) وصفًا ينطبق على المُدن الكبيرة بوجه عام، قائلاً: «المدينة هي الحياة بتعددها وتنوعها، هي الأمكنة والبشر والشجر ورائحة المطر، وهي التراب أيضًا، وهي الزمن ذاته، ولكن في حالة حركة. المدينة هي طريقة الناس في النظر إلى الأشياء، وطريقة كلامهم، كيف تجاوزوها.
وتطفو بعد تأمل هذا الوصف أسئلة عديدة: كم عدد المدن التي سكنت في داخلنا، وتركت أثرًا لا يُمحى؟ كيف نتعامل معها إذا عدنا بعد غياب؟ ما الذي يحرّك ذاكرتنا؟ أهي ذاكرة السعادة أم الألم؟ من الوجوه التي نتذكّر صعوبتها، أو مرونتها معنا؟ ما مذاقات الطعام المختلفة، أكانت لاذعة أم باردة؟ ما الروائح الأثيرة؟ ما الأمثال الشعبية والأغاني والأناشيد التي شكلت وجداننا؟ ما الحراك المدني الذي خضناه وصاغ تكويننا؟ ما أول عنوان شدّنا إليه عنوان جريدة أو غلاف مجلة ملونة على الأسفلت؟ ما أول سيارة أجرة أو حافلة أو سرفيس أو دلمش؟
تنبع أهمية المكان من مجموع الإحالات التاريخية والمرجعيات الثقافية التي يختزنها؛ فلا قيمة لأي مكان في بعده الجغرافي إلا بمقدار ما يحدثه في داخل المرء من اتصال أو انفصال، وهو فعل يشبه التناصّ.
سكنتني مدينة عمّان منذ أن قررت دراستي الجامعية فيها، بعد حوار طويل مع والدي - رحمه الله - الذي قال إنه لا يمانع دراستي خارج عُمان شريطة ألا تكون في مجال السياسة ناصح ألا أتجاذب فيها أي شكل من أشكال الجذب.. وافقته على مضض، لكن حين سجّلت في عمادة القبول والتسجيل بالجامعة الأردنية كان تخصص العلوم السياسية هو هدفي الحقيقي؛ إذ فعلت كل ما بدا ممكنًا للهروب من دراسة ما لا أريده.
سجّلت المواد المطلوبة، وشققت طريقي كقطار يشق قلب المدينة ــ وهذا التشبيه لم أكن لأكتبه عن عمّان التي ليس فيها قطار لولا أني شاهدت القطارات وركبتها في دول أجنبية. فلماذا أعود إلى الذكرى اليوم؟
لماذا أعود إلى الذكرى اليوم؟ لم أقطع وعدًا على نفسي بالكتابة عن عمّان، لا كتابة سردية ولا مسرحية، لكن هناك ما يشدّني إليها؛ المدينة التي تأتي في المقام الثاني بعد بلدي عُمان. غبت عنها بعد التخرج من البكالوريوس والماجستير، وعدت إليها في مناسبات متباينة: مرة للعلاج برفقة الأهل، وأخرى عضوة في لجنة تحكيم الدورة السادسة لمهرجان المسرح الحر الدولي عام 2011م، وثالثة للمشاركة في الدورة (12) لمهرجان الهيئة العربية عام 2020م
في مهرجان الهيئة العربية للمسرح. لكن زيارات العلاج كانت الأوفر، وهي الملاحظة التي أكدها أخي النمير حين ردّ على سائق الأجرة الذي سألنا عن الأماكن السياحية التي زرناها.
في كل زيارة تمنحني عمّان وجوهًا مختلفة، بعضها جديد وبعضها ينتمي إلى الذاكرة. أظنّ ذلك مرتبطًا بما لا أستطيع نسيانه أو محوه من عقلي تمامًا؛ لأن المرء لا يمكن أن يتحدث عن الجديد إلا بالعودة إلى أشيائه القديمة، فهي وحدها القادرة على منحه الطلاقة في الحديث بأريحية مع الآخرين.
لا أنسى سكن الرابطة للطالبات المغتربات في الجبيهة، مقابل البوابة الشمالية للجامعة الأردنية، الذي أقمتُ فيه قبل أن أغيره إلى آخر، حيث تعلّمتُ ورأيت النور ونضج وعيي. ولا أنسى مقر نادي طلبة سلطنة عمان القابع على ربوة عالية في الجبيهة، يحيل منظره إلى قلعة عُمانية شامخة. كما لا أنسى دورة الانتخابات الأولى والأخيرة التي خضناها كطالبات لتشكيل مجلس إدارة النادي، ولا تلك الصديقات اللواتي رافقنني وما زلن حتى اليوم. وفي عمّان أخرجتُ للمرة الأولى مسرحيتي الطعنة عام 1995 في مدرج سمير الرفاعي، وهي تجربة شكّلت منعطفًا مهمًا في مساري الفني وأسهمت في تعميق صلتي بالمدينة.
تسكن ذاكرتي الطرق المؤدية إلى مدينة ملاهي الجبيهة الترويحية، وصويلح، والزرقاء، ومَعان، ودور النشر والمكتبات وأقربها إلى قلبي مكتبة الطليعة العلمية في وسط البلد، وكذلك الفعاليات الثقافية والمسرحية التي حضرتها في المركز الثقافي الملكي، ورحلات الطلبة العمانيين إلى العقبة والقاهرة. هذه الذكريات تكوّنت في مشاهد اجتماعية، فكوّنت تاريخًا شخصيًا نحو المدينة.
فهل هذه هي عمّان حقًا؟ هل هذه الذكريات هي كل ما سكنني منها وسكنته فيها؟ المدينة التي أحببتني وأحببتها؟ ثمة شعور أعمق وغائر جدا أحاول فهمه في جوهر العلاقة بالمكان، وهو ما يدفع إلى تخليده بالكتابة.
تغيّرت عمّان في تفاصيلها كلها؛ ازدادت كثافتها السكانية، وانتشرت المجمعات السكنية والفنادق والمجمعات التجارية، وتعددت المطاعم والمقاهي، وتنوعت أطعمتها ومشاربها، وظلّت أكشاك القهوة المغلية أو «الصَب» علامة بارزة تتعاقبها الأجيال. في سيارة الأجرة يمكنك أن تقف أمام أي كشك أو محطة بنزين وتطلب قهوتك. تغيّرت الذائقة وتبدّل الناس، كَثُرت الارتباطات وتداخلت شبكة العلاقات وتعقّدت، وتضخّمت الهموم السياسية، وكان للمتغيرات الديمغرافية أثر هائل على الاقتصاد.
هل يمكن تأطير ذلك كله في قصيدة، أو رواية، أو مسرحية، أو فيلم درامي، أو وثائقي؟ أو كتابة نقدية؟ هل ما زال هناك مكان لأفكار التنوير؟ وهل بقي لرسالة التعليم والجامعات أثر إزاء المتغيرات العالمية الكاسحة للقيم والمبادئ؟ وماذا عن اللغة التي نتكلم بها؟ أهي الأخرى خضعت لإغراءات الزمن السهل؟
مثلما للتداعيات والاستذكارات حنينٌ خاص، فإن لها لغة ووظيفة. فعند مروري صباحًا نحو المخبز، تعلق في أنفي رائحة خبز الحَمَام الطازج، وهي رائحة يمكن التقاطها في أي مكان في العالم، كأنها لغة كونية. الحنين بمفرداته التي يستخدمها وعناصره التي يستدعيها يؤدي وظيفة الوسيط أو المترجم؛ كأن الماضي بمرجعياته وإحالاته يتحول إلى لغة ثانية غير مفهومة في العصر الحديث، ما يجعلنا بعُدَاتنا القديمة عصيّين على الاستسلام التام لأفكار الجيل الجديد، بما يملكه من طاقة لاستقبال كل شيء بشكل سلس.
إن التداعيات التي توقظها المدينة يقف خلفها ما أشار إليه منيف من «الأحلام والخيبات التي ملأت عقول الناس وقلوبهم، التي تحققت وتلك التي طاشت ثم خابت، وكم تركت من العلامات والجروح».
في سيارة الأجرة، وأثناء الانتقال من دُوار إلى جبل إلى ضاحية في عمّان، دار حديث عن دوريات الشرطة الراصدة لحركة المرور. انبعثت رسالة تحذيرية من الهاتف تنبّه إلى وجود شرطة بعد مسافة معينة، فسألتُ السائق: هل كانت هناك صيغة متفق عليها بين السائقين قبل وجود هذا الاختراع التقني؟ قال: نعم، كنّا نقول لبعضنا: هناك طبق كنافة!
ضحكت وعلّقت: ونحن في عُمان نقول: هناك حريم يبعن خبزًا!
ذلك الاتفاق الشعبي بين السائقين يدخل في باب علم اللغة والدلالة؛ إذ اتفقت الجماعات في عمّان وعُمان على توظيف لغة رمزية تحذيرية، لكنها في جوهرها لغة محبة للحياة... لغة تشبه المدينة ذاتها: متعددة، متحركة، لا تكفّ عن خلق المعاني.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: المدینة هی
إقرأ أيضاً:
جوتيريش: هناك 700 مليون شخص يعانون من الفقر المدقع حول العالم
عرضت فضائية “القاهرة الإخبارية” خبرا عاجلا، حيث قال الأمين العام للأمم المتحدة جوتيريش، إن هناك 700 مليون شخص يعانون من الفقر المدقع حول العالم.
وأوضح أن الدول النامية لا تحصل على مستوى الدعم المطلوب، متابعا: “نحن بعيدون حتى الآن عن تحقيق أهداف التنمية المستدامة”.
في سياق آخر، كشف موقع أكسيوس أن الولايات المتحدة أرسلت إلى أعضاء مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة مسودة قرار لإنشاء قوة دولية في غزة لمدة لا تقل عن عامين، ويمنح واشنطن ودولا أخرى حكم غزة خلال هذه المدة.