لماذا لا يثق العوا بتجربة الشرع في حكم سوريا؟!
تاريخ النشر: 20th, November 2025 GMT
المفكر الإسلامي الكبير الأستاذ الدكتور محمد سليم العوا، من الشخصيات التي تثير الإبهار والجدل معا عند حديثه، سواء كان حديثا شفيها أم كتابة، فالرجل لا يتحدث إلا إن كان لديه جديد، وجديده سواء كان متعلقا بالفكر الإسلامي، أو الواقع السياسي، هو مثار جدل وإعجاب، وفي معظم ما يصدر عنه يكون عن تأمل ودرس، ولا يخلو طرحه من النقد المباح، الذي هو موضع ترحيب لديه، ولدى كل عاقل وصاحب طرح فكري حقيقي.
وقد أثار البودكاست الذي أجرته معه الدكتورة رباب المهدي، في حوار امتد لما يقرب من ساعة ونصف، طوفت به في عدة ميادين، ربما ظن البعض أن بعضها يتعلق بقضايا تراثية، لكن العوا بطرحه الذي دائما يستلهم الأصالة من التراث، لينزل بها على واقعنا، مع عدم إغفال تفسير ما كان مرتبطا بمرحلة زمنية، وما هو دائم ثابت يصلح لكل زمان ومكان.
يمتلك العوا رصيدا ليس قليلا، من معرفته بالفرق والجماعات الإسلامية، ومن يقرأ كتابه: المدارس الفكرية الإسلامية، يعي جيدا مدى إلمام العوا بعالمي الأفكار والمشاريع، وبميزان الفقيه السياسي، أنصف كل هذه المدارس، وبين ما أضافوه للفكر الإسلامي، وما يستفاد منهم فيه، وبين ما عليهم من أخطاء يجب علينا تجنبهاوقد نالته سهام عديدة لأجل جملة قالها عن عبد الفتاح السيسي، جاءت في سياق معين، وبهدف محدد، وقد كانت معظم هذه السهام من الرافضين لحكم السيسي، والرافضين لمظالمه، وهو أمر متفهم ومقدر، وإن تجاوز البعض خلقا وشرعا، ولم يكن من رفضوا كلامه من الإخوان المسلمين فقط، بل من شريحة كبيرة من هذا التيار الرافض للسيسي وحكمه وممارساته.
لكن هناك جملة أو فقرة، لم ينتبه إليها وينقد العوا فيها، سوى من شاهد البودكاست كاملا، إذ إن الرافضين لجملته عن السيسي اكتفوا بالفيديو التشويقي للحلقة وهو لا يتجاوز بضع دقائق، الجملة تتعلق برأي العوا في حكم الرئيس السوري أحمد الشرع، وتجربته في الحكم، فكان مما قاله العوا: أنا لا أثق في حكم شخص تلوثت يده بدماء بني وطنه. في إشارة للتوجه الذي كان يتنباه الشرع قبل حكم سوريا، وتخوفه فيما هو قادم.
هذا الكلام المقتضب، أثار بعض المؤمنين بمشروع الشرع لحكم سوريا، وغضوا الطرف عن الأسباب والدوافع التي تجعل العوا وغيره من أهل الفكر يبدون نفس التخوفات والتوجسات، مما قد تؤول إليه تجربة الشرع في سوريا.
هناك عوامل لا يمكن أن تدفع بالعوا سوى لهذا التوجس، وليس العوا فقط، بل إن كثيرا ممن طال تأمله وتبصره بالتاريخ البعيد والقريب لتجارب الحكم، تجعله ينظر بريبة شديدة للشرع وتوجهاته، نعم القلوب كلها تتمنى له التوفيق والنجاح، وتتمنى لسوريا وأهلها كل خير، فالسوريون ذاقوا ويلات الاستبداد والظلم، ومورس عليهم جل أنواع الاستبداد، ولا نكاد نرى شعبا يأتي في الترتيب بين شعوب العرب والمسلمين في المعاناة بعد أهل فلسطين، كأهل سوريا.
لكن هل تمني الخير لسوريا، يكون بالأماني والدعوات الصالحات فقط؟! يصعب على شخصية المفكر والفقيه أن يكون أداة من أدوات التخدير للناس، وهذا ما أبداه العوا، وليس العوا وحده من يتخوف من تجربة الشرع، بل هناك إسلاميون أيضا يختلفون اختلافا جذريا مع العوا وفكره، وقد كانوا أقرب للشرع من العوا، لكنهم بدأوا في بث مخاوفهم، وهناك جهاديون سابقون، ورفقاء سلاح مع الشرع، جل هؤلاء يبدون تخوفاتهم، سواء عن طريق معرفتهم الشخصية بالشرع، أو بتوجهه، لكن الناقمين صبوا جام غضبهم على العوا وحده!
يمتلك العوا رصيدا ليس قليلا، من معرفته بالفرق والجماعات الإسلامية، ومن يقرأ كتابه: المدارس الفكرية الإسلامية، يعي جيدا مدى إلمام العوا بعالمي الأفكار والمشاريع، وبميزان الفقيه السياسي، أنصف كل هذه المدارس، وبين ما أضافوه للفكر الإسلامي، وما يستفاد منهم فيه، وبين ما عليهم من أخطاء يجب علينا تجنبها، ولإنصافه أطلق عليهم: المدارس، ولم يطلق مصطلح: الفرق، لما يوحي الأخير بالنظرة السلبية، وفي خاتمة كتابه كتب فصلا مستقلا عن ما نستفيده من هذه المدارس، وتمنيت عليه أن يخرج هذا الفصل وحده مستقلا، مع شيء من التفصيل لأهميته.
تجربة العوا وجيله من المفكرين مع حملة السلاح، سواء من إسلاميين أو عسكر، ليست مريحة، ولم يجنوا منها سوى المر والعلقم، ولا زلت أذكر جملة قالها العوا في جمعية مصر للحوار في إحدى محاضراته، كان يتكلم عن العسكر، أنه لو قلنا لعسكري متدين: لو سمحت سنترك لك هذه الجمعية تحرسها ليوم، ثم جئنا لنطالبه بردها، لن يردها، وسيحتمي بالسلاح الذي أعطيناه له. مشيرا بذلك إلى أن منطق القوة المسلحة يفرض واقعا مختلفا عما تتصوره أنت. وما قاله العوا قاله شيخنا القرضاوي، حين قال ذات مرة لجمع من الإخوان: أنا لا أثق في عسكري يحكم، ولو كان من الإخوان المسلمين!
مخاوف العوا من تجربة الشرع، تأتي لما مضى من أسباب، ولأسباب أخرى من واقع التجربة السورية حاليا، منها: غياب المجتمع والمؤسسات، فجل الإجراءات التي قام بها الشرع لا وجود للمجتمع فيها، ولا للمؤسسات المدنية والسياسية، بل يريد صنعها على طريقته، وعلى عينه هو، وبشروطه، وما يجبر عليه بحكم الواقع، يفرغه من مضمونه، أو يضم له شخصيات يطرحها هو، ومن يتأمل نموذج مجلس الإفتاء الذي شكله، يجد ذلك بوضوح، فكثير من الذين عينهم، لا علاقة لهم بالفتوى، أو الإفتاء، بل هم إلى الوعظ أقرب.
الفردية ملمح واضح وبارز في سلوك الشرع، وهو سلوك يخيف أي صاحب فكر، أو تجربة فقهية سياسية كالعوا. والعامل الأخطر: هو البراجماتية الواضحة والفجة في سلوك الحكم السوري حتى الآن، فمن يتأمل مواقفه فيما يتعلق بالتطبيع، والعلاقة مع الغرب، وفي جل تصرفاتهم لا يبرز سوى المصلحة ولو على حساب مبادئ وقيم كانت الجماهير السورية والثورية تنال ممن يقترف بعضا منها ولو مضطرا.فالفردية ملمح واضح وبارز في سلوك الشرع، وهو سلوك يخيف أي صاحب فكر، أو تجربة فقهية سياسية كالعوا. والعامل الأخطر: هو البراجماتية الواضحة والفجة في سلوك الحكم السوري حتى الآن، فمن يتأمل مواقفه فيما يتعلق بالتطبيع، والعلاقة مع الغرب، وفي جل تصرفاتهم لا يبرز سوى المصلحة ولو على حساب مبادئ وقيم كانت الجماهير السورية والثورية تنال ممن يقترف بعضا منها ولو مضطرا.
والعامل الأخير المخيف، له علاقة بالجملة الأخيرة، وهي الجماهير السورية، والتي لا يبرز منها سوى المتعصبين للشرع، والرافضين لأي توجه نقدي، والذين أصبحوا لا يقبلون أي جملة تنتقد سلوكا للشرع، تبرز فيه البراجماتية بشكل فج، وباتوا يقبلون ويرحبون بكل ما كانوا يرفضون بعضه من غيرهم، بل يكيلون الاتهامات لمن ينتقد، بأنه كاره لتجربتهم، وتعيير الناقدين، بمرارات الاستبداد التي يعانون منها في بلدانهم، بداعي أنهم فشلوا في إدارة ثورتهم وتجربتهم، ويريدون بذلك إفشال تجربتهم السورية!!
أستطيع أن أتفهم موقف كثيرين من الجماهير السورية، فما تعرضوا له ليس قليلا، وهم لا يملكون من أمرهم حيلة ولا يهتدون سبيلا، فماذا سيفعلون لو كانوا رافضين لسلوك يمارسه الشرع ورفاقه؟ لا شيء، والبديل لديهم ماذا؟ أيضا لا بدائل، وهو ما يجعلنا نعذر بعض العذر، لكن نلوم كل اللوم على التسليم المطلق بذلك، فعواقب ذلك لن تكون على المدى البعيد حميدة، ما لم يدرك المجتمع السوري أن قوته وقوة مؤسساته هي حماية للحكم، وضمانة للشرع في حكمه عن الانجراف نحو الاستبداد، ولو أن الشرع عمل على ذلك، لكان خيرا له، فهذا المجتمع والمؤسسات القوية، هي ظهير وسند كبير له، في كل التحديات التي تواجهه، سواء داخليا أو خارجيا.
[email protected]
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات قضايا وآراء كاريكاتير بورتريه قضايا وآراء العوا حكم سوريا مخاوف سوريا حكم سياسة مخاوف العوا قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء قضايا وآراء مقالات مقالات مقالات صحافة رياضة سياسة مقالات سياسة اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة قضايا وآراء أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الجماهیر السوریة تجربة الشرع وبین ما فی سلوک فی حکم
إقرأ أيضاً:
محمد سليم العوا.. صورة من بعيد!
"نريد عودة العدل الضائع، أما الخلافة فلا نسعى إليها"..
هذه مقولة للدكتور محمد سليم العوا، المفكر المعروف، في حوار صحفي أجريته معه، وكان من الطبيعي أن تكون العنوان الرئيس لهذا الحوار؛ فهي عبارة لا تنقصها الإثارة والجاذبية، والذي كان في الأصل لمناقشة موقفه من الغزو العراقي للكويت. وقد تذكرته بمناسبة الحملة عليه بعد مقابلته مع رباب المهدي في قناتها على يوتيوب!
كنا في عام 1990، وقد كتب الدكتور العوا مجموعة مقالات ضد الغزو نُشرت على ما أتذكر في جريدة "الوفد"، حوّلها صاحب دار الزهراء للإعلام العربي أحمد رائف إلى كتاب (كتيب للدقة)، وهو كان بدوره متحمسا ضد الرئيس العراقي لفعلته، وقبل فعلته، وقد صدر من الدار بعد الغزو عشرات الكتب دفعة واحدة وفي وقت قصير، ذلك بأن الكتب ضد صدام حسين كانت جاهزة لديه تنتظر الإذن بالطباعة، وقبل الغزو كان النظام المصري يسبغ حمايته على الرئيس العراقي، لدرجة اعتقال مصري هارب من حزب البعث، وفكر أن يكتب كتابا عن مرحلة تجنيده، وهو الكتاب الذي صدر وسط هذا الطوفان وحمل عنوان "يوميات بعثي سابق"!
وبسبب الحماس فقد جمع رائف مقالات خالد محمد خالد المنشورة بجريدة "الأخبار" في كتاب طبعه بدون موافقته، والذي أبلغ السلطات لمصادرته، ورفض أي عرض من الزهراء للإعلام العربي لتسوية الموقف والاستمرار في توزيعه.
وكنت متحمسا مثله، فعرضت كثيرا من الكتب التي صدرت، ومنها "يوميات بعثي سابق"، والذي أجريت حوارا مع مؤلفه سليمان فرحات، لكن لم يكن مناسبا عرض كتاب الدكتور العوا، لأنها مقالات منشورة في وقت قريب في صحيفة شقيقة، فكان الحوار لمناقشته في الموقف، بجانب قضايا خاصة بالحركة الإسلامية وقضاياها في هذه الفترة!
العوا.. الفقيه الشاب
ما أتذكره من تقديم الناشر أحمد رائف للدكتور سليم العوا، أنه وصفه بـ"الفقيه الشاب"، وعندما قمت بالوقوف على عمره في ذلك الوقت وجدته (48) عاما، ولا يمكن أن يحسب في زماننا هذا أنه سن يوصف صاحبه بـ"الشاب"، لكنها كانت مرحلة حرق الأجيال، والأجيال التي قرأت اسمها في كتب التاريخ كانت لا تزال تعيش وتتمدد. وكانت الحكومة المصرية من المعمّرين، لذا فقد أطلق على فاروق حسني الوزير الشاب، وقد تجاوز عمره الأربعين عندما عُين وزيرا، وكان جمال الغيطاني قد تجاوز الخمسين، ومع ذلك هو أديب الشباب، وعندما يقارن عمرا بالجيل المعمر مثل نجيب محفوظ وغيره، فإن كرم هذا الجيل الحاتمي يتمثل في الإغداق عليه باللقب!
كان موقف الفقيه الشاب واضحا في الغزو، ومع تحرير الكويت بأي شكل كان، وكان هذا رأيي أيضا، وكان طبيعيا أن نتطرق لموقف الإخوان وكانوا ضد الاستعانة بالقوات الأجنبية في عملية التحرير، فإذا سألت ما العمل والعرب أضعف من هذه العملية؟ لا تستطيع أن تتبين منهم الإجابة!
وبعد نشر الحوار الذي تمدد على صفحة كاملة من القطع الكبير، اتصل بي القيادي بجماعة الإخوان المستشار مأمون الهضيبي، وطلب إجراء حوار معه للرد على ما أثاره الدكتور العوا. وفي دار الجماعة بالتوفيقية التقيته، وعندما قام لصلاة الظهر، نظرت إلى جهاز الكاسيت وكان وقت الحديث يقترب من النصف ساعة، ما يعني قلب الشريط على الناحية الأخرى، كانت المفاجأة أنني نسيت تشغيل الجهاز، فلم نسجل شيئا، وفي تاريخ كل صحفي في جيلنا والأجيال السابقة موقف حرج كهذا!
ولم يظهر على الهضيبي أي ازعاج لإهدار وقته عندما علم بما حدث، وواقف أن يبدأ الحوار من بدايته، فقد كان مهما الرد على ما أثاره الدكتور العوا، والذي كان مؤثرا رغم أنه لا يزال في ريعان الشباب (48 عاما)، وبالقياس بكل أعضاء مكتب الإرشاد آنذاك بمن فيهم المرشد العام الشيخ حامد أبو النصر، فإنه "من دور أبنائهم"، ويمكن أن يكون حفيدا للمرشد!
مناظرة مع فرج فودة
وقيمة العوا أنه متدفق إذا تحدث، سريع البديهة وحاضر الرد، قوي المنطق، متمكن في موضوعات تخصصه، سواء القانونية أو الفقهية. ولعل الناس لا يعلمون أن مناظرة أخرى مع الدكتور فرج فودة كانت في مقر إحدى النقابات المهنية في الإسكندرية بعد قليل من مناظرة معرض الكتاب الشهيرة، وقد تحدث في التوازن الذي افتقدته ندوة المعرض (كانون الثاني/ يناير 1992)، لأن كليهما يملك نفس القدرات تقريبا!
بيد أن هذه المناظرة على أهميتها، لم تحظ بالاهتمام اللائق، لأنها بعيدة عن العاصمة والاهتمام الإعلامي من ناحية، ولأنها الثانية ومن الطبيعي أن تحظى الأولى بالاهتمام، ولأن وجود المستشار الهضيبي في مناظرة معرض الكتاب كان سببا في أن يحشد الإخوان لها هذا الحشد الهائل، الذي عندما رأيته قلت إن فرج فودة لن يستطيع أن ينطق جملة مكتملة من هول الموقف!
في ندوة المعرض، لعب فرج فودة على التناقض في خطاب الدكتور محمد عمارة والشيخ محمد الغزالي، وكان جاهزا بالأرشيف من خلال مقولات للأخير في الصحف، والتي تتناقض مع ما يقوله الدكتور عمارة في المناظرة، مثل حديثه عن الحكم الإسلامي الممتد والذي حقق فتوحات ونجاحات في زمن الخلافة الإسلامية عندما كان الإسلام يحكم، وما جاء في حديث صحفي للشيخ الغزالي من أنه بعد حكم الخلفاء الراشدين انتفت عن الخلافة صفة الرشد!
في مناظرة الإسكندرية لم كن هناك مادة للتناقض، وخطاب الدكتور العوا ليس فيه أي اضطراب منذ أن كان فقيها شابا وإلى الآن، وإن تحفظت على مواقفه السياسية بعد الثورة، فلم أكن مع ترشحه للرئاسة، وإن كانت التجربة أثبتت أنه كان من أكثر الإسلاميين استحقاقا للموقع، لأنه الوحيد من بينهم الذي يمكن يقال عنه إنه رجل دولة، كما أن خطه الفكري يهدئ من روع الخائفين، كما تحفظت على موقفه بعد الانقلاب، ربما لأنه لم يكن بالحدة اللازمة، وحالة الاستقطاب السياسي في هذه الفترة كان لها تأثيرها على الجميع، فتجاهلنا أن كلا ميسر لما خلق له، وقد تجاوز مرحلة "الفقيه الشاب"، فليس من المنطق أن نطلب منه أن يحتفظ بصفاته ومن بينها "التمرد"!
دوره في الثورة:
بيد أني لا أنسى أن الرجل عندما قامت ثورة يناير كان في ميدان التحرير، وعندما وقعت موقعة الجمل في يوم الفزع، عندما أحيط بالثورة من كل جانب، كان في الميدان وكانت مداخلاته في قناة الجزيرة هي الأكثر ثباتا في هذا اليوم، وأكثر نفيرا، ولم تكن تقبل المساومة، بينما الأمر لم يكن كذلك بالنسبة لمداخلات سياسيين محترفين استقر في وجدانهم أن نهاية الثورة هي مسألة وقت، وخلال سويعات سيكون نظام مبارك قد تمكن من الاستيلاء على ميدان التحرير!
وآفة هذا الزمان، أن كلا منا يريد أن يكون الآخر نسخة كربونية منه، وأن فكر التكفير والهجرة انتقل من ميدان التدين إلى مجال السياسة، فإن لم يكن للآخر نفس الموقف تماما فإنه يستباح على قواعد الاستحلال، وكأن دخول السجون هدف، وكأنه لا بد للجميع أن يهاجروا للخارج لإثبات البراءة السياسية، وإن كان كثير ممن يرفعون هذه القواعد ليسوا في السجن وليسوا في الخارج؛ إنهم نائمون على "فيسبوك"، بيد أن واحدا مثل الدكتور العوا مطلوب لذاته لجلسات التشهير والتشويه، وهي أزمة الإنسان المستقل! هذا فضلا عن أن هناك على منصات التواصل الاجتماعي من يرون أن من أهدافهم السامية تشويه كل رمز، واغتيال كل شخصية مهمة، واستباحة كل كبير، وهي فوضى صنعتها السوشيال ميديا حتى عشنا في زمن الرويبضة.. لكنه ليس واحدا.. فما أكثرهم!
مقابلة الدكتور سليم العوا في بودكاست رباب المهدي استمرت ساعة ونصف، بيد أن القوم لم يجدوا فيها إلا عبارة واحدة مارسوا بسببها استباحة الرجل، وهي قوله "السيسي تحمل ما لا يتحمله إنسان في السنتين بتوع حرب غزة"! وهي عبارة يمكن أن تتفق فيها مع العوا ويمكن لك أن تختلف، وقد يكون دافعك ما تعرضت له غزة من حصار وتجويع، وقد تلتمس العذر للنظام وقد قدم دفوعه في هذا الصدد، لكن لماذا لا نسلم في قضية المقاومة بما يقره المقاومون، فهم من يحددون بوصلتهم، وهم يقولون في النظام المصري فيما يختص بقضيتهم كلاما رائعا حتى في الجلسات الخاصة التي تجمعنا ببعض القيادات، ولا نرى بأسا فيما يقولون، فهذه شهادة ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا. وهل نتجاهل أن النظام المصري رفض التهجير، والتقى حركة المقاومة، وكان وسيطا معقولا؟
وبعيدا عن هذا كله، فماذا في العبارة يمكن بها إدانة الدكتور العوا، ولا بد للنظام والحرب على حدوده، والحديث عن فرض التهجير، أن يشعر بالقلق؟ وليس في القول إنه تحمل ما لا يتحمله إنسان ما يعد نفاقا رخيصا! ولنفترض أن العبارة غير دقيقة، وأنها نتيجة اجتهاد خاطئ، فهل الأمر يستوجب اندفاع جماعات التكفير والهجرة للنيل من الرجل بهذه القسوة؟..
فماذا جرى لهذا كله؟!
x.com/selimazouz1