صحيفة الاتحاد:
2025-12-06@23:57:15 GMT

«بيتهوفن».. موسيقار الصمت الجارح

تاريخ النشر: 7th, December 2025 GMT

علي عبد الرحمن

فيينا، مدينة القصور التي يعج هواؤها بالألحان، كانت تخفي في أحد أركانها صمتاً أشد وطأة من أي سيمفونية، في غرفة ضيقة تغمرها ظلال الشموع المتساقطة، جلس رجل مطأطئ الرأس بين كفيه، يطارده طنين لئيم يلتف حوله كأفعى لا تهدأ. لم يكن ذلك مجرد عارض جسدي، بل نذير هاوية تتسع في داخله، وحين انسابت أصابعه فوق مفاتيح البيانو، انفتح أمامه كون آخر، كأن النغمات تُولد من العدم لتعيد إليه حريته لحظة بلحظة، ذلك الرجل هو لودفيغ فان بيتهوفن، المولود في بون عام 1770، الذي خط أعظم موسيقاه لا بما تسمعه الأذن، بل بما تصرخ به الروح في وحدتها.

نشأ بيتهوفن في بيتٍ تتناوب فيه القسوة والصمت كمعزوفة نشاز لا تنتهي، أب غارق في إدمان يلهب مزاجه بالغضب، يطارده بعصا الصرامة، وأم أنهكها المرض فرحلت مبكراً، تاركة الطفل وحيداً أمام فراغ لا يلتئم، ووسط هذه العتمة، لم يجد ملاذاً سوى الموسيقى، لم تكن بالنسبة له تسلية عابرة ولا مجرد مهارة يتدرب عليها، بل كانت شريان بقاء يربطه بالحياة.
حين حط بيتهوفن رحاله في فيينا، كان شاباً مثقلاً بجراح الطفولة، لكنه يقف في قلب مدينة تضج بالموسيقى حتى لتكاد أنفاسها تُقاس بالألحان، وجلس إلى الموسيقار النمساوي جوزيف هايدن يتعلم القواعد، وأصغى إلى ميراث موزارت المتدفق، لكنه سرعان ما أدرك أن البقاء في ظل هؤلاء العظام يعني أن يخنق صوته قبل أن يولد، فرفض أن يكون تابعاً، وبدأ بحثه عن لغة لا تشبه إلا نفسه. فيينا كانت عاصمة العظمة، لكن بيتهوفن أراد أن يكون عاصمتها الداخلية، وقلب يصرخ بلغة جديدة، لغة تقول ما يعجز الكلام عن حمله، ومن هنا بدأ ميلاد بيتهوفن الحقيقي، الموسيقار الذي جعل من الفن مرآة للنفس ونافذة للعالم في آن واحد.
في مطلع العشرينيات من عمره، بدأ بيتهوفن يفقد أثمن حواسّه، ولم يعد يسمع العالم كما هو، بل أخذ الفراغ يتسلل مكان الأصوات، والطنين يطغى على النغم، بالنسبة لموسيقار، كان ذلك حكماً بالإعدام، فالموسيقى وُلدت لتُسمع، ولحنها لا يكتمل إلا بالإنصات، وفي لحظة انكسار، كتب وصيته في هايلغنشتات، معترفاً بأنه فكّر في الانتحار، وكأن الحياة لم تعد تحتمل بلا موسيقى مسموعة.
لكن المأساة التي كادت أن تطفئه، أعادت إشعاله من جديد. قرر أن يجعل من الصمت أداة للإبداع، ومن الفراغ مسرحاً واسعاً ينساب فيه الخيال، ولم يعد يسمع بأذنيه، بل بروحه التي باتت أكثر حدة من أي سمع، وكأن السيمفونيات التي تلت صممه لم تكن موجهة للأذن أصلاً، بل للقلب مباشرة.
هكذا وُلد بيتهوفن الثاني، موسيقار يكتب من الداخل لا من الخارج، يجعل من صمته قوة لا ضعفاً، وفي كل لحن صاغه بعد ذلك، نسمع ليس فقدان الصوت، بل ولادة صوت آخر، أكثر صفاء وجرأة، ولقد حوّل الصمت من قبر للنغمة إلى رحم يلد موسيقى جديدة، وجعل من الحرمان بدايةً لخلود.
 رغم عظمته، لم يعرف بيتهوفن دفء الاستقرار العاطفي، ولم يتزوج، وظلّت حياته الخاصة عالماً مليئاً بالفجوات العاطفية، ورسائله إلى «الحبيبة الخالدة»، لا تزال لغزاً يحيّر الباحثين حتى اليوم؟ أياً تكن، فإن حضورها الغائب ظل يلوّن موسيقاه، وأصبحت مؤلفاته تشبه رسائل حب لم تصل أبداً، ألحانها مشبعة بشوق لا يخمد، وبحثٍ عن حب ظل بعيداً عن متناول يديه، وكان عزفه في هذه الأعمال أشبه ببوح رجل يكتب إلى قلب لا يقرأ، يناجي غياباً لا يجيبه، ومع ذلك استطاع أن يحوّل هذا الغياب ذاته إلى موسيقى خالدة لا تفنى.

حضور

أخبار ذات صلة عائشة الغيص: الأدب الشعبي مرآة للذاكرة الجماعية جميري: أعمالي فصول سردية تستكشف الذات

لم تبقَ موسيقى بيتهوفن حبيسة المسارح، بل وجدت طريقها إلى الشاشة الكبيرة، حيث تحولت سيمفونياته إلى لغة سينمائية قائمة بذاتها، صرخات الأوتار وضربات القدر في السيمفونية الخامسة صارت مرادفاً للدراما الكونية والصراع مع المصير، بينما انسابت أنغام ضوء القمر في عشرات الأفلام كرمز للوحدة والحنين، أما السيمفونية التاسعة، فقد غدت أيقونة للانتصار الإنساني في لحظات المصالحة أو الاحتفال.

موسيقى لا تغيب 

حين أسدل الموت ستاره عام 1827، خرجت فيينا كلها خلف بيتهوفن، كأنها تودّع إنساناً صار رمزاً لكرامة الروح في مواجهة المعاناة، ولم يكن رحيله صمتاً، بل بداية لصوت آخر يتردّد عبر الأجيال، لقد ترك لنا درساً فلسفياً نادراً، وهو أن الجمال ليس زخرفاً للهروب من الألم، بل ثمرة مواجهة عارمة معه، وأن العبقرية قد تولد من أعماق الفراغ حين يتحوّل إلى لغة إنسانية مشتركة.
هكذا علّمنا أن الصمت قد يكون أكثر امتلاءً من الضجيج، ولم يقهر بيتهوفن صممه فقط، بل حوّله إلى موسيقى، وفي ذلك الانتصار صار صوته أبديّاً.

المصدر: صحيفة الاتحاد

كلمات دلالية: بيتهوفن الموسيقى الثقافة

إقرأ أيضاً:

مسار الأحداث يناقش العقبات التي تواجه المرحلة الثانية من اتفاق غزة

وشارك في الحلقة المسؤول السابق في وزارة الخارجية الأميركية توماس واريك، الأمين العام للمبادرة الوطنية الفلسطينية الدكتور مصطفى البرغوثي، الخبير في الشؤون الإسرائيلية الدكتور محمود يزبك، والمحلل السياسي ياسر الدجاني.

تقديم: إلسي أبي عاصي.

Published On 7/12/20257/12/2025|آخر تحديث: 00:53 (توقيت مكة)آخر تحديث: 00:53 (توقيت مكة)انقر هنا للمشاركة على وسائل التواصل الاجتماعيshare2

شارِكْ

facebooktwitterwhatsappcopylink

حفظ

مقالات مشابهة

  • مسار الأحداث يناقش العقبات التي تواجه المرحلة الثانية من اتفاق غزة
  • سلطنة عُمان تشارك في اجتماع لجنة المخدرات (CND) بمركز فيينا الدولي
  • الاتحاد الأفريقي أمام اختبار الفراغ الأمني بعد الانسحابات الأممية
  • المجموعات المسلحة الجديدة التي ظهرت في غزة مؤخرا
  • موسيقار مصري: جائزة الأكاديمية الفرنسية للعلوم والفنون أهم لقب في مسيرتي
  • كسر الصمت الانتخابي.. الداخلية تضبط شخص استخدم مكبرات المسجد لأحد المرشحين
  • عادل حقي لـ صدي البلد: المهرجانات تلوث سمعي.. وأجهز موسيقى خاصة لمسلسلات رمضان (فيديو)
  • عادل حقي لـ صدى البلد: أبدأ العمل على موسيقى مسلسل درش في رمضان ومسلسل ونَنسي اللي كان (فيديو)
  • حكم قضاء المرأة الصلاة التي بدأ نزول الحيض في أول وقتها