في اليوم التاسع لاندلاع الحرب الحالية في السودان (24 أبريل 2023) أعلن وزير الخارجية الأمريكي وقتها، أنتوني بلينكن، أن كلاً من الجيش السوداني وقوات الدعم السريع، وافقا على “هدنة إنسانية” لمدة 72 ساعة، لتمكين المدنيين في ولاية الخرطوم من قضاء احتياجاتهم، والأجانب من الجاليات وأعضاء البعثات الدبلوماسية من الاجلاء، وقد سبق ذلك إتصالات مباشرة أجراها قائد القيادة المركزية الأمريكية مع كل من رئيس مجلس السيادة ونائبه لضمان سلامة الأمريكيين بالسودان، وخاصة أعضاء البعثة الدبلوماسية، وشرعت الولايات المتحدة، في اليوم الثالث للحرب، في وضع خطة إجلاء شاملة، ونسقت مع “الطرفين” مسارات وصول وهبوط الطيران الحربي الأمريكي القادم من جيبوتي وهبوطه في مبنى السفارة الأمريكية في ضاحية سوبا.

وقتها أدركت أمريكا أن خطة الإنقلاب التي أطلعتها عليها حليفتها الإمارات، لاستلام السلطة في السودان بواسطة الدعم السريع، قد فشلت، ولأنها – أمريكا – كانت على علم بمدى الإعداد الذي تمّ لتنفيذ ذلك الإنقلاب، وخاصة في جانبه العسكري، وأن ترسانة الأسلحة والمعدات القتالية التي حشدها الدعم السريع كانت كافية لتحويل العاصمة إلى رماد، قال وزير خارجيتها إنه “لا حل عسكري للنزاع”، وظلت هذه هي سردية الجانب الأمريكي، وحلفاؤه إلى يومنا هذا.

ولم ينقضِ شهر الحرب الأول، حتى أعلنت وزارة الخارجية الأمريكية أنها فتحت نافذة إلكترونية لرصد “الانتهاكات” التي تحدث، وطلبت من السودانيين رصد ما يشاهدونه أو ما يتعرضون إليه من انتهاكات، ورفعها على الصفحة الإلكترونية التي تم تخصيصها لذلك، فتفاعل البعض مع الفكرة، وشكك آخرون في النوايا، لكن الشاهد في هذا هو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت تتوقع حدوث انتهاكات، لأنها كانت تعرف طبيعة السلوك الاجرامي للدعم السريع، وتعرف أن “الطرف” الذي يقف وراءه، لن يقبل أن يفشل “المشروع” حتى لو تحول إلى حرب أهلية وأدى لتقسيم البلاد، كما في حالتي ليبيا واليمن.

بعد شهرين من اندلاع الحرب، أكملت قوات الدعم السريع حصارها لمدينة الجنينة، عاصمة ولاية غرب دارفور، وقتلت الوالي خميس عبد الله أبكر، ومثلت بجثمانه في حادث مشهود، وحينها أدركت أمريكا أن المجازر في دارفور ستعود بشكل أشرس مما جرى في أوائل الألفية، فاستدعت وزارة الخارجية الأمريكية مركز أبحاث جامعة ييل للأبحاث الإنسانية، والذي كان ينشط في رصد الانتهاكات في أوكرانيا، إلى العمل تجاه الملف السوداني، فأقبل الدكتور ناثينال ريموند وفريقه مزودين بمقدرات الأقمار الاصطناعية التي وضعت فوق دارفور منذ 2006 لرصد الانتهاكات، ثم لمراقبة تدفق الأسلحة إلى دارفور تنفيذاً لقرارات مجلس الأمن الدولي ذات الصلة، وكان أشهر تلك الأقمار إعلامياً ذلك الذي يتبع لمشروع “ذا سنتري” ، وهي منظمة تحقيق استقصائي شارك في تأسيسها الممثل والمخرج الشهير جورج كلوني
بالتعاون مع الناشط في مجال حقوق الإنسان جون بريندرغاست، وتقول المنظمة أنها تهدف إلى فضح وتمويل الصراعات في أفريقيا عبر تعقب الأموال المشبوهة ومجرمي الحرب لإبعادهم عن النظام المالي الدولي، وتعمل المنظمة كشريك استراتيجي لمؤسسة كلوني للعدالة، وقد أصدرت منظمة (ذا سنتري) أكثر من تقرير تفصيلي عمّا يحدث في دارفور خلال فترة حصار الفاشر تحديداً.

لم يقف رصد الانتهاكات للقانون الدولي الإنساني، ولقرارات مجلس الأمن بمنع وصول أسلحة إلى دارفور، عند حدود ما ترصده تلك الأقمار، بل أسهمت كبريات المؤسسات الاعلامية الدولية، أمثال نيويورك تايمز و وول استريت جورنال، وفرانس 24 والغارديان البريطانية، وغيرها، في نشر سلسلة من الحلقات التي تتبعت مسارات وصول السلاح النوعي والذخائر إلى الدعم السريع في دارفور، سواء الآتي من بلغاريا أو اليونان أو القادم مباشرة من دولة الإمارات عن طريق الجو والبحر، أو الأسلحة ذات المنشأ الكندي أو البريطاني أو الصيني، والتي يُعاد تصنيعها وانتاجها في الإمارات، وتأخذ طريقها إلى دارفور رغم قرارات مجلس الأمن الدولي.

وعلى المسار الدبلوماسي والرسمي ظل السودان، عبر بعثته الدائمة في نيويورك، يقدم الشكوى تلو أختها، ويخاطب مندوبه الدائم مجلس الأمن الدولي، مستدلاً بالوثائق والمستندات، لإثبات الدور الإماراتي في تأجيج الحرب في السودان، وإرسال آلاف الاطنان من الأسلحة إلى دارفور، تارة عبر تشاد وتارة عن طريق جنوب السودان، ومحذراً من أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان وللقانون الدولي الإنساني التي أرتكبت في مختلف ولايات وسط السودان، سترتكب في دارفور، لكن كل هذا كله ظل حبيس الإدراج، اللهم إلا من قرار خجول أصدرته وزارة الخارجية الأمريكية، مطلع هذا العام، تصف فيه بعض الأفعال التي قام بها منسوبو الدعم السريع بأنها ترقى لمستوى إبادة جماعية !!
وحين انفجرت فضيحة المرتزقة الكولمبيين الذين يقاتلون لجانب الدعم السريع في الفاشر وغيرها، واعترف مَن لم يقتل منهم بأنهم تم تجنيدهم بواسطة شركات أمنية إماراتية للعمل في تلك الدولة، ثم وجدوا أنفسم في صحارى دارفور، يقاتلون بجانب الدعم السريع، ويدربون عناصره على مختلف أنواع الأسلحة، لم يعد هناك شئ يمكن إخفاؤه ليستر عورة الانخراط الإماراتي في حرب السودان.

قد يتساءل البعض ويقول إن أعضاء مجلس الأمن الدولي الخمسة عشر كانوا يعرفون حجم التورط الإماراتي في إمداد الدعم السريع بأحدث أنواع الأسلحة، ويعرفون قدراً كبيراً من الانتهاكات والجرائم التي أرتكبت بواسطة تلك الأسلحة، ودول كثيرة حول العالم كانت تعرف ذلك، فلماذا توجه حديثك هنا إلى الولايات المتحدة الأمريكية دون غيرها ؟
وللإجابة أذكّر بما أوردته في بداية هذا المقال من وقائع، وأضيف إليها بأن الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن فقط أول مَن قدم نفسه وسيطاُ، ودعا للمفاوضات بين “الطرفين” كما جرى في جدة قبل أن ينقضي شهر الحرب الأول، ولا آخر “طرف” يدعو الآن لوقف الحرب ويتبنى مشروع وساطة، بل كانت هي أحد الفاعلين الرئيسيين في مشروع إعادة هندسة السودان حتى بعد نجاحها في فصل الجنوب، وكانت أيضاً على علم تام بما انتوى شريكها الإماراتي فعله، بل لعلي أضيف هنا أن مبعوثها السابق، توم بيريلو، كان يقول لممثل الجيش السوداني، أيام مفاوضات جدة، وبكل ثقة وعنجهية “من الأفضل لكم أن توقعوا حتى تحافظوا على ما تبقى من جيشكم” ، وكان ممثل الجيش يرد عليه “أنتم لا تعرفون جيش السودان”.

إن الشهادة التي قدمها الدكتور ناثينال ريموند، في جامعة هارفارد الأسبوع الماضي، والتي ملأت الدنيا، كانت الدليل الأكثر موثوقية وحداثة على تواطؤ الإدارة الأمريكية وسماحها لحليفتها دولة الإمارات، بأن تستمر في إمداد الدعم السريع بأحدث أنواع الأسلحة، والتي لم تبق أي نوع من أنواع جرائم الحرب أو الجرائم ضد الإنسانية في القاموس إلا وارتكبت بواسطتها، فلولا الدعم الإماراتي المتدفق لما استمرت الحرب على مدى ثلاث سنوات، ولما تضاعفت الانتهاكات والجرائم، ولو أن أمريكا كانت حريصة على أرواح السودانيين، مثل ما تدعيه من حرص على الحكم المدني، لقالت منذ العام الأول لحليفتها، وقد ثبت فشل مشروعها، كفى كُفي عمّا تفعلين.
ويبقى السؤال الذي يتعين علينا كسودانيين أن نسأله: لماذا سمحت الولايات المتحدة الأمريكية بذبح السودانيين مادامت كانت تعرف منذ ذلك الحين، أن المجازر ستحدث، وما دامت قد وثقت منذ وقت مبكر، حدوث تلك المحازر و الجرائم والانتهاكات؟

العبيد أحمد مروح

إنضم لقناة النيلين على واتساب

Promotion Content

أعشاب ونباتات           رجيم وأنظمة غذائية            لحوم وأسماك

2025/12/06 فيسبوك ‫X لينكدإن واتساب تيلقرام مشاركة عبر البريد طباعة مقالات ذات صلة ثالوث الإنكار لتبرئة الغزاة2025/12/06 العاقل من اتعظ بغيره!2025/12/06 مقترحات لبناء سودان جديد2025/12/06 إسحق أحمد فضل الله يكتب: (حديث نفس…)2025/12/06 في البدء كانت الكلمة2025/12/05 المستوطنون الجدد… مخطط خطير يهدد ديمغرافية السودان وهويته2025/12/05شاهد أيضاً إغلاق رأي ومقالات حرب مفروضة وهُدنة مرفوضة! 2025/12/05

الحقوق محفوظة النيلين 2025بنود الاستخدامسياسة الخصوصيةروابطة مهمة فيسبوك ‫X ماسنجر ماسنجر واتساب إغلاق البحث عن: فيسبوك إغلاق بحث عن

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: الولایات المتحدة الأمریکیة مجلس الأمن الدولی الدعم السریع إلى دارفور کانت تعرف فی دارفور

إقرأ أيضاً:

ارتفاع عدد ضحايا مجزرة كردفان لـ 79 بينهم 43 طفلا.. وإدانات واسعة

أعلنت حكومة ولاية جنوب كردفان السودانية، الجمعة، ارتفاع عدد ضحايا القصف الذي استهدف مرافق مدنية في مدينة كلوقي إلى 79 قتيلا بينهم 43 طفلا، إضافة إلى 38 مصابا، وذلك عقب هجوم نفذته قوات “الدعم السريع” بالتنسيق مع الحركة الشعبية – شمال بقيادة عبد العزيز الحلو، وفق بيان رسمي للولاية.

وقالت حكومة الولاية إنها “تدين بأشد العبارات الجريمة البشعة”، موضحة أن الهجوم نفذ عبر أربع صواريخ أطلقتها طائرة مسيرة، واستهدفت روضة أطفال، ومستشفى قدير، ومناطق سكنية مكتظة، مما تسبب في واحدة من أكثر الهجمات دموية في المنطقة منذ تجدد المواجهات خلال الأسابيع الأخيرة.

وبحسب البيان، فقد شمل الضحايا “43 طفلا، وأربع نساء، وجرح 38 شخصا آخرين، بينهم 11 طفلا و6 نساء”. وطالبت حكومة جنوب كردفان المجتمع الدولي باتخاذ “موقف حازم” إزاء الانتهاكات، والدفع نحو تصنيف قوات الدعم السريع منظمة إرهابية، ومحاسبة حلفائها على ما وصفته بـ“الجرائم اللاإنسانية”.

وكانت حكومة الولاية قد أعلنت، الخميس، مقتل 8 أشخاص بينهم 6 أطفال ومعلمة، عقب قصف مماثل استهدف روضة أطفال ومستشفى بمدينة كلوقي. كما اتهمت شبكة أطباء السودان قوات الدعم السريع والحركة المتحالفة معها بـ“قتل 9 أشخاص وإصابة 7 آخرين” في هجوم بمسيّرات على مرافق مدنية.

اليونيسف: قتل الأطفال وتشويههم انتهاك جسيم
في السياق ذاته، حذرت منظمة الأمم المتحدة للطفولة (اليونيسف) من “انتهاك جسيم لحقوق الطفل” بعد ورود تقارير عن مقتل أكثر من عشرة أطفال، تتراوح أعمارهم بين 5 و7 سنوات، نتيجة قصف بطائرة مسيرة على روضة أطفال بمحلية القدير في كادقلي.

وقال المتحدث باسم الأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، إن الهجمات تأتي في ظل “تدهور حاد في الوضع الأمني بولايتَي كردفان منذ مطلع نوفمبر”، مشيرا إلى أن المواجهات أدت إلى نزوح واسع النطاق وتفاقم الاحتياجات الإنسانية بصورة غير مسبوقة.

وأضافت اليونيسف أن الخدمات الطبية تنهار، والإمدادات الأساسية توشك على النفاد، بينما توقفت العملية التعليمية، مما يعرض الأطفال لـ“ضغوط نفسية واجتماعية شديدة”.

وأكد دوجاريك أن حجم الاحتياجات في السودان “يفوق بكثير الموارد المتاحة”، داعيا المجتمع الدولي إلى تكثيف الجهود لحماية الأطفال وتقديم المساعدات العاجلة.


هجوم جديد على قافلة إنسانية
إلى ذلك، أدان المتحدث الأممي هجوما استهدف شاحنة تابعة لبرنامج الأغذية العالمي قرب بلدة حمرة الشيخ، وكانت ضمن قافلة مكونة من 39 شاحنة في طريقها لتقديم مساعدات غذائية حيوية لمناطق النزوح في شمال دارفور، حيث يعتمد نحو 700 ألف شخص على مساعدات البرنامج.

وأكد دوجاريك أن الهجوم يمثل “الحادث السادس الخطير” الذي يستهدف شاحنات ومرافق البرنامج في السودان خلال عام واحد، لافتاً إلى أن الاعتداءات أدت إلى مقتل ثمانية من العاملين الإنسانيين والشركاء وإصابة آخرين.

وقال: “هذا الأمر غير مقبول. يجب ضمان وصول آمن ودون عوائق إلى الأسر الأكثر ضعفاً في دارفور وسائر المناطق المنكوبة بالمجاعة. العاملون في المجال الإنساني وممتلكاتهم ليسوا هدفاً، وحقيقة اضطرارنا لتكرار هذا الكلام هي مأساة بحد ذاتها”.

وتشهد ولايات إقليم كردفان الثلاث (جنوب، وغرب، وشمال) اشتباكات ضارية بين الجيش السوداني وقوات الدعم السريع منذ أسابيع، ما أدى إلى نزوح عشرات الآلاف. وتسيطر قوات الدعم السريع حالياً على جميع ولايات دارفور الخمس باستثناء أجزاء من شمال دارفور التي لا يزال الجيش يحتفظ بها، بينما يسيطر الجيش على معظم ولايات السودان الـ13 الأخرى، بما فيها الخرطوم.

ويعيش السودان واحدة من أسوأ الكوارث الإنسانية في العالم، إذ أسفرت الحرب عن مقتل عشرات الآلاف ونزوح نحو 13 مليون شخص منذ اندلاعها قبل أكثر من عام ونصف.

مقالات مشابهة

  • وزير بحكومة إقليم دارفور: كارثة إنسانية تتفاقم في الفاشر وكردفان مع تمدد الدعم السريع
  • وزير إعلام دارفور: اعتداءات ميليشيات الدعم السريع تفاقم الكارثة الإنسانية وتُرهب المدنيين في غرب السودان
  • ارتفاع عدد ضحايا مجزرة كردفان لـ 79 بينهم 43 طفلا.. وإدانات واسعة
  • بعد تعثر جهود وقف إطلاق النار .. أمريكا تدرس فرض عقوبات أوسع على الجيش السوداني و الدعم السريع
  • بعد عثر جهود وقف إطلاق النار .. أمريكا تدرس فرض عقوبات أوسع على الجيش السوداني و الدعم السريع
  • الحزب الاتحادي: وحدة السودانيين والجيش يفرضان معادلة جديدة على الأزمة السودانية
  • احتجاز وتعذيب وتصفيات ميدانية.. الدعم السريع يحول المدنيين إلى رهائن تحت التهديد
  • شهود: قوات الدعم السريع تحتجز ناجين وتقتل من لا يدفع الفدى
  • عاجل | شهود: قوات الدعم السريع تحتجز ناجين وتقتل من لا يدفع الفدى