عام على حكم «الجولاني».. وإخوانه
تاريخ النشر: 9th, December 2025 GMT
عملت لسنوات طويلة في بداية حياتي المهنية في تحليل الشئون العربية والدولية. حينها، كانت خريطة العدائيات واضحة جدًا، قبل حالة خلط الأوراق التي ضربت منطقتنا العربية والشرق الأوسط عمومًا. تتجلى هذه الحالة بقوة في سوريا، بعدما تلاقى الأعداء وتباعدوا وفق حسابات دقيقة، وتنافر الأصدقاء حولها بدرجة الحساسية نفسها.
لا تغرنكم المجموعات التي يُجرى تصويرها من زوايا سينمائية للإيحاء بنجاح حكم الميليشيات التي تؤدي دورها المرسوم في مخطط التفكيك والتفتيت. إعلام عواصم دعم الإرهاب الذي يروج لهذه الحالة تتقاطع أجهزة استخباراته مع ما تم خلال الفترة المذكورة، قبل أن تؤول التركة السورية إلى كيانات هشة جماعات مسلحة يجرى الترويج لها عبر حملات علاقات عامة دولية للإيحاء بنجاح التجربة، وإن كانت الشواهد تكشف عن حجم الورطة التي سقط فيها ما تبقى من الشعب السوري، على النحو الذي يستحق التوقف أمامه شرحًا وتوضيحًا للرأي العام العربي.
في السنوات التي أعقبت عام 2011، دخلت سوريا مرحلة تاريخية شديدة التعقيد على صعيد السلطة والعلاقات الاجتماعية والسياسية. بدأت الدولة المركزية، التي كانت مظلة للمؤسسات العامة والخدمات الأساسية، تتراجع تدريجيًا تحت ضغط الصراع الداخلي والتدخلات الإقليمية والدولية. بعد 14 عامًا من القتال المتواصل، انهارت القدرة المؤسسية وظهر فراغ أمني وسياسي ملأته ميليشيات إرهابية وجماعات مسلحة متعددة، كل منها يسعى لتعزيز نفوذه الإقليمي والسيطرة على الموارد، بينما فقدت الدولة التقليدية أدوات فرض القانون والتنظيم على الأرض.
من بين الميليشيات، ظهرت «هيئة تحرير الشام» مطلع عام 2017 في شمال غرب سوريا، بعد اندماج عدة جماعات مسلحة دون تغيير أساسي في أفكار فصائلها. أعادت هذه الجماعات تنظيم نفسها تحت مظلة أكثر انضباطًا بقيادة أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع حاليًا). عملت الهيئة في محافظة إدلب ومحيطها، وأدارت جهازًا أمنيًا صارمًا يغطّي سلطتها عبر «حكومة إنقاذ» إقليمية. ومع ذلك، لم يغيّر الشكل الإداري من طبيعتها المسلحة، رغم اعتمادها الخطاب الإعلامي والسياسي لإظهار نفسها كلاعب محلي، واستخدام القوة في التعامل مع خصومها.
ارتبط الأساس الفكري لـ«هيئة تحرير الشام» بالمرحلة التي كانت تعرف خلالها باسم «جبهة النصرة» بين 2012 و2016. التزمت الجبهة بأفكار تنظيم «القاعدة» كما صاغها الإرهابيان أيمن الظواهري وأبو مصعب السوري، وظهرت كطرف يقاتل ضمن مشروع شامل يستهدف الولايات المتحدة والأنظمة الإقليمية. شكّل منهجها قاعدة انطلقت منها «الهيئة» لاحقًا، عبر تفسير ديني ضيق وتكفير ممنهج للخصوم، قبل أن تقدم نفسها كطرف متشدد في الصراع السوري، مستقطبة عناصر إرهابية من دول العالم، على عكس ما تُظهره اليوم «الابتسامات التسويقية» أمام الكاميرات التلفزيونية.
اعتمدت «النصرة» ولاحقًا «الهيئة» على أدبيات تنظيم «القاعدة» وأساليب التعبئة والحشد المسلح، الذي يتمسك بالمواجهات المفتوحة. ركّز خطابها على فكرة وحدة الجبهات من العراق إلى اليمن وأفغانستان، ما أوجد ثقة مفرطة لدى عناصرها بانتمائهم لشبكة عالمية، رغم هشاشتها ميدانيًا. تسبب الارتباط في تغذية زيادة العنف ضد خصوم محليين، إذ اعتبر التنظيم هؤلاء جزءًا من «كتلة معادية» لا يجوز التفاوض معها، ما أدخل النصرة إلى محافظة «إدلب» بمشروع عدائي غير متكيف مع المجتمع المحلي، من واقع المظاهرات الشعبية الحاشدة التي خرجت للتنديد بـ«الجولاني» ومن معه آنذاك.
إعلان «الجولاني»، تأسيس «هيئة تحرير الشام»، كان محاولة صورية للانفصال عن تنظيم «القاعدة»، وخطوة لإعادة التموضع وليس تغييرًا في الأفكار، مع الاحتفاظ بالأسس التي شكلت العقل التنظيمي للهيئة وتخفيف لهجتها العابرة للحدود.خطاب جديد، حينها، ركز على إدارة المنطقة بدلًا من المشروع العالمي، كان الهدف التهدئة، والسعي للتمايز عن تنظيم «داعش»، والأهم بناء تفاهمات غير معلنة مع أطراف إقليمية، شكلت جميعها «انتقالًا نفعيًا» يخدم البقاء أكثر من أي تحول حقيقي.
قبل انتقال السلطة السورية العام الماضي، مرّ المجتمع المحلي بتحولات درامية تحت حصار إقليمي ودولي استهدف مؤسسات الدولة المركزية كي تظل عاجزة عن إدارة شؤونها. في المقابل، تلقت الجماعات المسلحة والميليشيات الإرهابية دعمًا مكّنها من التحكم في الموارد وتقديم خدمات جزئية وفرض «الأمن» بما يسمح لها بالظهور كبديل مؤقت للدولة في بعض المناطق، راحت تحدد المستفيدين والمستبعدين، تراجع دور القانون والشرعية، وصارت القوة والسيطرة العملية المحددان الفعليان للمسار السياسي، الأمر الذي يوضح أن ما جرى كان انتقالًا من الدولة الوطنية إلى كيان بدون قدرة حقيقية على التأثير والاستمرارية.
لم يكن غريبًا قبل 8 ديسمبر 2024، أن يتم اقتطاع جزء من السلطة الفعلية في سوريا للإيحاء بوجود جناحين متناقضين: المؤسسات الرسمية كقابل للتحالفات الميليشياوية التي بدأت تفرض سيطرتها على الأراضي تباعًا، قبل أن تحصل على دعم لوجستي مكّنها، بشكل مفاجئ قبل 12 شهرًا، من الآن، من بسط نفوذها على عموم البلاد، بعد 14 عامًا ظلت خلالها الدولة السورية تتصدى لأكثر من 41 دولة تشكل ما يعرف بالتحالف الدولي لمكافحة تنظيم «داعش» الإرهابي، قبل أن تصبح بعض مكوناته ضمن بنية السلطة فيما بعد.
انتقال السلطة من الدولة المركزية إلى تحالف الفصائل والميليشيات بقيادة «الجولاني»، كان نتيجة تراكم أزمات طويلة، واستسلام شرائح شعبية سورية لحملات شنت ضد مؤسساتها الوطنية، التي نفذتها عواصم إقليمية ودولية وجماعات إرهابية كـ«الإخوان»، مما أدى إلى هشاشة الحكومة وصعوبة رفع كفاءة مؤسسات الدولة، استغلته الميليشيات في الفوضى وتحويل السيطرة العسكرية إلى نفوذ شامل، فيما عمّقت عقوبات قانون «قيصر» الأزمة، ما أتاح للميليشيات بسط هيمنتها بشكل كامل.
استهدف قانون «قيصر» الأمريكي الاقتصاد السوري بشكل مباشر، وظف الضغوط المالية لإجبار الحكومة على الرضوخ لخصومها، بعدما فرض القانون عقوبات على الأفراد والشركات المرتبطة بالحكومة، وعاقب أي جهة تتعامل تجاريًا معها، ما زاد من عزلة البلاد اقتصاديًا وأعاق إعادة الإعمار، كجزء من مؤامرة واضحة لزعزعة الاستقرار الداخلي ودفع المواطنين لتغيير المعادلة السياسية بالقوة المالية بدلًا من أي حل سياسي.
استيلاء الميليشيات المسلحة على مؤسسات الحكم في سوريا فتح الأبواب على مصاريعها أمام مرحلة مرتبكة اتسمت بفجوة أمنية واسعة وانهيار منظومة السيطرة الرسمية. لم يترك الانهيار مجالًا لأي قوة رسمية للتصرف بشكل فعال، ما دفع إسرائيل إلى تنفيذ عمليات عسكرية خاطفة خلال الأيام الثلاثة التالية للثامن من ديسمبر 2024، وصفتها بـ«الأكبر من نوعها»، لإعادة تشكيل ميزان القوة داخل المجال السوري، استهدفت عبر ما يتراوح بين 300 و500 غارة جوية تدمير القدرات السورية (البرية، البحرية، الجوية)، في مؤشر واضح على استغلال الهشاشة الأمنية المترتبة على هيمنة الميليشيات.
الغارات الجوية الإسرائيلية سارت بوتيرة سريعة جدًا خلال تلك الفترة القصيرة، وركزت على قواعد الدفاع الجوي، مستودعات الذخائر، مراكز القيادة، مراكز التطوير والمعامل، وبنية الاتصالات المرتبطة بالقدرات الميدانية. السؤال الذي يفرض نفسه: من أعطاها التفاصيل الكاملة حول المواقع والتحركات ونقاط القوة والضعف؟ وثائقي بثته فضائية شهيرة كشف كيف تمكنت الميليشيات من اختراق معظم الوحدات العسكرية السورية سيبرانيًا، ما يثير الشكوك حول تسريب معلومات ساعدت إسرائيل في مسوحاتها الاستخباراتية، وجعل الغارات أكثر دقة وأشد تدميرًا.
في الظروف الطبيعية، يعتمد التنسيق الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية على علاقات ثابتة بين الدول الحليفة، حيث تُنقل المعلومات من مصادرها الأرضية والفضائية بشكل رسمي ومنظم، وتخضع لآليات دقيقة تحمي البيانات وتحافظ على سرية العمليات. هذه الآلية تتيح للدول التحكم في قدراتها الدفاعية والهجومية، وتحليل التحركات الميدانية للطرف الآخر، بما يعزز اتخاذ القرارات الاستراتيجية دون تهديد للأمن الوطني أو الاستقرار الداخلي.
على العكس من ذلك، شهدت سوريا حالة استثنائية، بعدما تحدثت معلومات عن نقل معلومات استخباراتية دقيقة إلى ميليشيات محلية، ما يمثل خرقًا صارخًا لكل المعايير المعروفة للتنسيق الأمني بين الدول، مما أتاح لها قدرة غير طبيعية على التأثير في مسار العمليات الميدانية، حتى أنها وُصفت بأنها «تحرير»، لكنه واقعياً كان «تجريدًا» لسوريا من قدراتها وقوتها، كأنها «مقابل سخي»، عنوانه دولة منزوعة القوة، تحكمها جماعات غير مؤثرة.
المثير في الأمر أن سوريا، رغم امتلاكها قدرات عسكرية متدرجة (تشمل وحدات متنقلة ومواقع بديلة وشبكات دعم إقليمية)، لم تستطع حماية نفسها. الميليشيات، بنهجها التخريبي، ساهمت في تدمير البنية التحتية العسكرية، مما أضعف الحكومة بشكل كبير. هذا التدمير أفقد بشار الأسد عناصر القوة التي حافظ عليها طوال الحرب الطويلة والتدخلات الخارجية المتعددة، رغم أنها كانت كافية نظريًا لمواجهة أي تهديد داخلي أو خارجي، ما يكشف هشاشة الدولة أمام الفوضى الداخلية.
بأساليب البحث الجنائي، لاسيما «البحث عن المستفيد»، فإن تدمير إسرائيل للقدرات العسكرية والأمنية السورية لم يخدم سوى الميليشيات، ساعدها في السيطرة على المناطق المسموح لها بالانتشار فيها. الجهد العسكري المعادي لم يترك فرصة لإعادة بناء قوة عسكرية سورية بعد الانهيار، ما يثير تساؤلات حول دور قوى خارجية في ضرب قدرات الدولة السورية، دون أن تتحمل الفصائل والميليشيات أي مسؤولية، وإن كانت تستفيد من النتائج المترتبة على ذلك.
خلال الأشهر التالية لحكم «الجولاني»، عملت عواصم خارجية تتقاطع مع الملف السوري على إظهار التحالف الحاكم في البلاد كقوة سياسية- أمنية فاعلة. تحالف لا يشبه أي تشكيل سابق.. شبكة معقدة من الفصائل والجماعات المسلحة (بعضها شهير نسبيًا، وبعضها صغير اكتسب أهميته من الارتباط بالتمويل أو السيطرة على موارد استراتيجية) تتقاطع مع قوى إقليمية متعددة، يستفيد كل طرف فيها من نقاط قوته لتحقيق مصالح مشتركة ومؤقتة.
الهيكل التنظيمي للتحالف قائم، من وجهة نظري، على مبدأ اللامركزية الموجَّهة (لكل فصيل دور محدد ينسجم مع دوره في الخطة الشاملة)، فيما تتعدد الأهداف والطموحات. اجتماعيًا، السعي لبناء نوع من الولاء المحدود بين السكان عبر تقديم خدمات جزئية وحماية محددة، مع الاحتفاظ بالقدرة على فرض السيطرة بالقوة عند الحاجة، استنادًا إلى التوازن الهش بين القهر والخدمة. سياسيًا، محاولة ترسيخ وجوده كقوة على الأرض تمثل البديل عن الدولة التقليدية، واستراتيجيًا، العمل على التحكم فيما يتاح له من موارد طبيعية وطرق تجارية وبقايا قوى اقتصادية.
خلال عام من متابعتي لما يجري في سوريا، فالآليات التي يعتمدها تحالف «الجولاني» تركز على فرض النفوذ بطرق غير تقليدية للسيطرة السياسية، خاصة تأميم المؤسسات الأساسية (خدمية أو إدارية) عبر فرض موالين للتحالف في مواقع مفصلية، أو عبر تأمين الموارد الضرورية (كهرباء ومياه إن وجدت) وإعادة توزيعها وفق أولوية النفوذ العسكري والسياسي. استثمار الفجوة القانونية والانقسامات الاجتماعية لإضفاء شرعية جزئية على سلطته من خلال استغلال عدم قدرة الدولة على فرض القانون أو تقديم الخدمات المتكاملة، وتوظيف الاستراتيجية الإعلامية والدعاية لتعزيز صورته غير المقنعة أصلًا.
في بداية مخطط «الربيع العربي» قبل 15 عامًا، انتشر الشعار الهدّام «يسقط النظام».. لم يقتصر على سوريا، بل تمدد في دول أخرى مستهدفة بالتفكك.. المخططون كانوا يدركون تمامًا أبعاد «يسقط النظام»، رغم أنهم قدّموه للجمهور كهتاف بسيط، بينما حمل في الأساس معنى انهيار الدولة وانحلال مؤسساتها وضياع قدرة السلطة الشرعية على إدارة المجتمع. تحول إلى أداة لتحريك حشود شعبية لم تدرك، حينها، أن الشعار يخفي خلفه مشروعًا كارثيًا لتفريغ الدول من وظائفها، دول فاشلة تفقد سيادتها وقدرتها على حماية شعبها، وتمهيد الطريق أمام ميليشيات تتحكم في الموارد وتفرض نفوذها على المجتمعات.
الشعار لم يكن دعوة لتغيير سياسي منظم.. تداعيات «يسقط النظام» انعكست بشكل مباشر على حياة السوريين اليومية. سيطرة الميليشيات الجغرافية جعلتها تتحكم في خدمات المياه والكهرباء وكل ما يمثل شريان حياة في المدن والريف، تحولت المناطق المقتطعة من سلطة الدولة إلى بيئة غير مستقرة نتيجة الانقطاعات الطويلة والتوزيع غير المتساوٍ، اتسعت الأزمات لعدم قدرة المجموعات الحاكمة على تنظيم شبكات بديلة منذ ديسمبر الماضي.. تعرض الاقتصاد السوري لانهيار البنية الإنتاجية والزراعية والصناعية.
أصبح توزيع ما تبقى من الموارد الاقتصادية تابعًا لقرارات الحكام الجدد، خاصة مع تفضيل مناطق محددة على أخرى حسب الولاءات والنفوذ العسكري. يومًا بعد آخر يتعمّق الشعور بعدم المساواة، ما يؤدي إلى توترات محلية (كما في مناطق الأكراد والدروز).. لا قدرة على تنظيم الأسواق، أو تبييض سمعة العملة المحلية (الليرة)، رغم تقارير موجّهة تحاول التمويه على الأزمات المتراكمة، تفاقم الفقر المدقع بين فئات عدة بشكل غير مسبوق، وخلق بيئة خصبة للنزوح والعمل غير الرسمي أو الانخراط في الميليشيات مقابل رواتب ضئيلة.
تضرب التجازات المالية والإدارية بقايا المؤسسات، أصبحت مكاتب الإدارة والدوائر الحكومية المحدودة أدوات لتوزيع المكاسب على المقربين، وتراجعت قدرة المواطنين على الوصول إلى الحقوق الأساسية. كل هذا يعكس واقعًا مفاده أن السلطة الجديدة لم تملأ فراغ مؤسسات الدولة، بل تنزلق بها نحو الفشل، تركز على السيطرة والنفوذ على حساب التخطيط الاستراتيجي، ما يعني أن ما حدث لم يكن تبديلًا في القيادة، بل تغييرًا جذريًا في مفهوم إدارة الدولة دون تقديم حلول لإنقاذ البلاد وشعبها.
لا يحتاج المشهد الأمني الممزق في عموم البلاد إلى مزيد من الأدلة، فالسيطرة الجزئية في المدن الرئيسية والطرق الاستراتيجية لم تتحول إلى سيطرة كاملة على كل المناطق، الأرياف والمناطق الحدودية (مع تركيا وإسرائيل والعراق) تظل خارج نطاق النفوذ المباشر. يعتمد الارتكاز على نشر عناصر مسلحة استبدلت أزيائها المختلفة في السابق بزي أمني موحّد، ما يتضاعف شعور معظم السوريين بالقلق. معايير الأمان متعارف عليها دوليًا، ولا يمكن التمويه عليها بفيديوهات ترويجية في الذكرى الأولى لانهيار البلاد.
المعايير تشمل حماية المدنيين، سيادة القانون، استقرار المؤسسات، وضمان الوصول للخدمات الأساسية، مع احترام حقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب ضمن إطار الدولة. لا يخفى صعود جماعات مسلحة مستقلة تنافس «الجولاني» على النفوذ والموارد، بعضها محلي المنشأ وبعضها مدعوم إقليميًا أو دوليًا، وتمثل تحديًا آخر، تستغل الفجوة الأمنية في ترسيخ مكانتها. المنافسة لم تصل إلى حرب مفتوحة، لكنها تزيد حالة عدم الاستقرار، بعدما تحولت بعض المناطق إلى ساحات نزاع دائمة، تتغير فيها الولاءات بسرعة.
المدنيون يجدون أنفسهم رهائن لتقلبات النفوذ بين الجماعات المسلحة. تكرار النزاعات المسلحة وزيادة احتمالات الاشتباك العشوائي يفاقم الوضع الأمني العام ويغذي حالة عدم اليقين بين السوريين. الوضع الأمني الصعب أدى إلى تزايد عمليات النزوح الداخلي والخارجي. ينعكس هذا على الممتلكات الخاصة والعامة التي باتت عرضة للسلب أو التدمير. حتى النزوح الداخلي (تدفق موجات من المدنيين إلى مناطق أكثر أمانًا) يتم بدون ضمانات الاستقرار أو المأوى، ما يوسع دائرة الضغوط الإنسانية، في ظل غياب المجتمع المدني الذي جرى توظيفه في مخطط تفكيك الدولة، ثم أصبح عاجزًا عن تقديم أي نوع من الدعم أو الحماية بعد «الثورة»!
ينعكس الإخفاق «الرسمي» خلال العام الأخير بشكل أكبر على نسيج المجتمع السوري، ولا يقتصر على غياب الأمن أو الخدمات الأساسية الضرورية، بل يرتبط بالولاءات والانتماءات. بدأ المواطنون يقيّمون الأمان والموارد وفق ولائهم للتحالف أو الجماعة المسيطرة. التوتر الطائفي وزعزعة الاستقرار في مناطق أخرى يتفاقم، ويتغير معه نمط الحياة والعلاقات اليومية في المحافظات السورية. المجتمعات المحلية أصبحت أكثر هشاشة وأكثر عرضة للانقسامات والابتزاز الاجتماعي. يتمدد الشعور بعدم المساواة نتيجة سياسات تعزز الانقسام الاجتماعي، مما يجعل أي محاولة لإعادة الوحدة للمجتمع شديدة الصعوبة.
الأجيال الشابة تأثرت بشكل واضح، بعدما أصبحوا شهودًا على العنف اليومي الذي يترك أثرًا على مسار حياتهم ومستقبلهم المهني والاجتماعي. الفرص الاقتصادية المحدودة والبطالة المتزايدة أجبرت كثيرين على الانخراط في شبكات دعم الميليشيات أو الهجرة المبكرة. الفجوة المعرفية والمهنية تهدد استقرار المجتمع على المدى البعيد.فقدان الإحساس بالأمن الاجتماعي يؤدي إلى المزيد من تراجع الثقة بين المواطنين والسلطة الجديدة، ما يزيد من احتمالات النزاعات الداخلية، ويجعل المجتمع السوري يواجه معاناة مستمرة تهدد استقراره لعقود قادمة.
خلال العام الأخير، لم تتحول سوريا إلى لاعب محوري في الإقليم، وتظل ضحية لحسابات شديدة التعقيد.روسيا تحاول الحفاظ على مصالحها العسكرية عبر تعامل عقلاني تكتيكي يعزز قواعدها في طرطوس وحميميم، وتستمر في دعمها العسكري والاستخباراتي بشكل غير مباشر. الولايات المتحدة، رغم تراجع الاهتمام المباشر، تعتمد سياسة مراقبة وتحكم محدود، مع تحالفات غير رسمية ودعم بعض الجماعات المحلية (الأكراد) للحفاظ على نفوذ جزئي في مناطق محددة شمال شرق البلاد.تركيا تركز على ضبط النفوذ الحدودي في الشمال السوري، مع تحالفات جزئية مع مجموعات محلية لحماية مصالحها الاستراتيجية.
إيران، التي رعت سابقًا فصائل محلية خاصة في الجنوب وشمال البلاد الغربي، لايزال لها بقايا وجود مرن لكنه غير مؤثر. إسرائيل، بعد استكمال سيطرتها الفعلية على كامل الجولان ومنطقة جبل الشيخ ذات القيمة الاستراتيجية العالية، تتعامل مع المشهد السوري باعتباره مجال نفوذ يجب إبقاؤه ضعيفًا ومفتتًا، تركّز على منع أي إعادة بناء لقدرات الدولة أو عودة الترتيبات العسكرية السابقة، وتربط أمنها باستمرار الفراغ العسكري جنوب سوريا، بما يضمن لها حدودًا هادئة ومجال مراقبة واسعًا، ويمنحها أفضلية استخباراتية دائمة في عمق الإقليم.
حاجة «الجولاني» وتحالفه لموازنة مصالح دول إقليمية وعواصم كبرى في سوريا تحدّ من هامش حرية القرار السياسي، وتجعل أي خطة لإعادة الاستقرار رهينة للتوافقات الدولية. يواجه أزمة كبرى نتيجة تناقض المصالح الدولية، ما يفرض قيودًا على سياسات الحكم المحلي وقدرته على تنفيذ إصلاحات فاعلة. هذا الوضع يعمّق أزمة البلاد ويحدّ من قدرة المؤسسات على تقديم الخدمات، بينما يظل المدنيون تحت تأثير الولاءات المؤقتة والتحالفات الإقليمية، ما يجعل أي استقرار سياسي أو اقتصادي هدفًا بعيد المنال.
أي فرصة لإعادة الاستقرار في سوريا تواجه قيودًا صعبة، منها الرقابة الدولية الدقيقة، والمخاطر المرتبطة بتعقيدات التحالفات الإقليمية المتنافسة، والعقوبات الاقتصادية التي تقيّد الوصول إلى التمويل المستدام. علاوة على ذلك، تواجه أي جهود إصلاحية تحديات في بناء الثقة بين السكان المحليين والمجتمع المدني، وإعادة هيكلة المؤسسات المتداعية، وضمان توزيع الموارد بعدالة. يواجه «الجولاني» صعوبة في تنفيذ سياسات مستقرة دون مراعاة هذه المعادلات.
تواجه سوريا، بعد عام من سيطرة «الجولاني» وجماعاته على السلطة، مفترق طرق. الخيارات محدودة. أولًا، سيناريو استمرار الفوضى وارد، حيث يبقى التحالف الحاكم قادرًا على فرض سيطرة جزئية على الأرض، لكنه لم يتمكن حتى الآن من إدارة الدولة ككل أو تقديم الخدمات الأساسية بشكل كامل، ما يكرس هشاشة الأوضاع الأمنية والاجتماعية. ثانيًا، يرتبط الانقسام المترتب على استمرار المنافسات بين فصائل وجماعات مستقلة بما يؤدي إلى تقسيم فعلي للسلطة على أساس جغرافي أو طائفي كتطور لانقسام مجتمعي يجهض أي مشروع سياسي وحدوي.
السيناريو الثالث يتعلق بمحاولات إعادة الدولة، لكنه الأقل احتمالًا، ما يجعل هذه المعطيات المهمة دروسًا مستفادة من نجاح مؤامرة «إسقاط الأنظمة» بزعم إعادة «بناء الدول». أي تحول تقوده ميليشيات وفصائل مسلحة ينتهي بالفشل، لأنه يحتاج إلى مؤسسات قادرة على تقديم الخدمات، فرض القانون، وإدارة الاقتصاد بفاعلية. كما أن المجتمع المدني (المخترق بالتمويل الأجنبي وخلافه) سيظل عاجزًا عن مد جسور الثقة مع الشعب كركيزة لإعادة بناء الاستقرار، فضلًا عن أن الرهانات على قوى إقليمية ودولية طامعة ليست محمود العواقب، في ظل ما تمارسه من ضغوط للحصول على «المقابل» من نظام الحكم الجديد.
سوريا تواجه اليوم خيارين متناقضين: الاستمرار في وضع هش تهيمن عليه الميليشيات والولاءات المؤقتة، أو الانخراط في مشروع تدريجي لإعادة بناء الدولة يربط القوة بالحوكمة الفعلية. نجاح هذا المشروع يتطلب رؤية شاملة تربط الأمن، الاقتصاد، والمؤسسات مع مصالح المجتمع، بعيدًا عن اعتماد القادة أو التحالفات الميليشياوية، عبر مؤسسات متوازنة وشرعية مستمرة. يتضمن ذلك فصل القوة العسكرية عن الوظائف المدنية، تعزيز الاقتصاد المحلي، تحسين الوصول للموارد والخدمات، وإدارة النزاعات والانقسامات الطائفية والمناطقية عبر سياسات شمولية وحوار مجتمعي يدمج جميع الأطراف في صنع القرار. فهل تسمح التحالفات والأطماع المتناقضة في المنطقة وخارجها بذلك؟ لا أعتقد!
اقرأ أيضاًقبل عام 2026.. ملامح الشرق الأوسط في ثوبة الجديد
روان أبو العينين: الضربات الإسرائيلية على سوريا تدخل مرحلة جديدة «فيديو»
الإمارات تدعو المجتمع الدولي إلى التحرك الفوري لوقف الاعتداءات الإسرائيلية على سوريا
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: مصر إسرائيل مقالات سوريا الأسبوع جبهة النصرة الجولاني هيئة تحرير الشام أبو محمد الجولاني أحمد الشرع تقسيم سوريا قانون قيصر الفوضى في سوريا تقدیم الخدمات جماعات مسلحة فرض القانون إعادة بناء انتقال ا فی سوریا على فرض قبل أن
إقرأ أيضاً: