آهٍ.. كم أشتاق إلى أبي!
تاريخ النشر: 17th, September 2023 GMT
سلطان بن ناصر القاسمي
ترتسمُ في مخيلتي ذكرياتٌ مختلفة عن الكثيرين، ذكرياتٌ لا تُشبه ذكرياتهم مع آبائهم، فقدت والدي عندما كنت في عمر السنتين فقط، ومنذ ذلك الحين، بدأت رحلة الشوق والحنين إلى وجهه وصوته ولمساته.
من الصعب تجربة فقدان الوالدين في مرحلة عمرية صغيرة، حيث تكون الذكريات قليلة، ولكن الفقد يبقى مستمرًا طوال العمر، ويعيش الإنسان بين الحاضر والماضي، ولكن مع فقدان أبي الذي لم أتعرف عليه بشكل كامل، يصبح الماضي مصدرًا لا نهائيًا للأسئلة والتساؤلات.
وعندما كبرت وبدأت في فهم أهمية الأب وتأثيره في حياة الإنسان، أصبح لدي العديد من الأسئلة التي لا أجد لها إجابات، أصبحت أشتاق إلى وجهه الذي لم أتمكن من تذوق ملامحه إلا من خلال الصور، أتساءل عن كيفية صوته، وكلماته، وضحكته؟ هل كان يضحك كثيرًا؟ أم كان هادئًا وجديًا؟ لماذا يحبه الناس؟ كيف كان يتعامل معي عندما كنت طفلًا صغيرًا؟
تزداد هذه الأسئلة تعقيدًا كلما مر يوم جديد، ولكن الأكثر ألمًا هو عندما يتحدث أصدقائي عن آبائهم وعن اللحظات الجميلة التي قضوها معهم، ويروون لي قصصًا عن توجيهات آبائهم وحكمتهم، ويصفونهم بأهمية لا تُضاهى في حياتهم، ويشعرون بالحماس عندما يتحدثون عن اللحظات التي شاركوها مع آبائهم، وفي إحدى اللحظات أيضا، ونحن جالسون في أحد المقاهي، فاجأني صديقي برسالة همسها بلطف، وهو يمسك بجواله ليقرأ لي تغريدة على أحد مواقع التواصل الاجتماعي. كانت تلك التغريدة تتحدث عن أحد الأبناء الأوفياء الذي فقد والده، وكان والده مشجعًا متحمسًا لإحدى الفرق الرياضية، وكان يحلم بأن يرى ابنه يصبح لاعبًا في الفريق الأول لذلك النادي، ولكن القدر كان أسرع وأخذ والده إلى عالم آخر.
والآن، وبعد وفاة والده، يحقق الابن حلم والده المؤجل؛ حيث أصبح لاعبًا في الفريق الأول لذلك النادي، ففي تلك اللحظة، كتب الابن تغريدة مؤثرة مملوءة بالشوق والآهات، حيث قال: "آهٍ.. كم اشتقت إليك يا أبي، الآن يمكنك أن تراني حققت حلمك وأمنيتك بأن تراني لاعبًا في النادي الذي كنت تعشقه، لقد قطعت عهدًا على نفسي بأن لن أخيب آمالك يومًا ما." وعندما تشارك زوجتي قصصًا عن والدها، وأرى السعادة الزاخرة في عينيها عندما تتحدث عن رعايتها لوالدها وكيف ينتظرها بفارغ الصبر، يتجدد في قلبي إحساس عميق بأهمية الوالدين وأشعر بالشوق الكبير تجاه والدي.
إن مشاهدة هذه اللحظات تجعلني أتأمل في القيمة الكبيرة للوالدين والحب الذي يجب أن نظهره تجاههما، فكم منا بحاجة ماسة إلى تلك المشاعر الجميلة والاتصال العميق مع والدينا، ومع ذلك، -للأسف-، هناك بعض الأبناء الذين يغفلون عن هذه القيم ويتجاهلون أهمية العلاقة مع والديهم، حتى وإن كانا على قيد الحياة، نعم، هكذا هي الحياة، مليئة بالتغيرات والتحديات. يمكن أن نرى بعض الأمثلة على هذه الواقعة في حياتنا اليومية، فبعض الأبناء يتجاوزون مشاكلهم ويدركون مع مرور الوقت أن آبائهم كانوا على حق عندما حاولوا توجيههم ومنعهم من الاختلاط بأصدقاء سيئين. ويكونون ممتنين لحكمة وتوجيه آبائهم.
في الوقت الذي يشعر البعض بالشوق العميق لوالديهم ويقدرون قربهم وحنانهم، يجب على الآخرين أن يستفيقوا لهذا الواقع ويبدؤوا في الاهتمام بوالديهم والاستفادة من حكمتهم وخبرتهم في الحياة.
أحيانًا، أجد نفسي متأملاً في اللاشيء، محاولًا أن أتخيل كيف سيكون الشعور إذا كنت قد أعيش تلك اللحظات مع والدي، ربما كان يوجد لدى أبي نصائح حكيمة لأعيش بها، ربما كنت أتلقى منه الدعم والتشجيع لأحقق أهدافي، لكن للأسف، هذا الوقت لم يكن لي،
لم تكن لدي الفرصة لأشعر بحضنه أو لأسمع صوته يخاطبني، أتساءل كيف سيكون شكل حضنه، هل كان دافئًا ومحبًا؟ هل كان لديه طريقة خاصة لقضاء الوقت معي؟ أتخيله دائمًا كأب مثالي، يقف بجواري في كل مرحلة من مراحل حياتي.
لكن حتى وإن لم أتعرف على والدي بشكل مباشر، فإن الأثر الذي تركه في حياتي يبقى قائمًا، لأنني أشعر بوجوده من خلال القصص والذكريات التي شاركتني فيها أمي- رحمها الله- وأشقائي وشقيقتي.
يبقى والدي نموذجًا يلهمني ويحثني على تحقيق أهدافي وتطوير ذاتي. يظل حاضرًا في قلبي وروحي، حتى وإن كان بعيدًا جدًا عن العين.
ومع مرور الأيام والسنين، أكتشفُ أن الفقدان ليس نهاية العلاقة مع والدي؛ بل يمكنني أن أبني على تراثه وأعيش حياتي وفقًا للقيم التي علمني إياها من خلال القصص والذكريات، ويمكنني أن أكون الإصدار الأفضل من نفسي وأسعى لتحقيق أحلامه وتطلعاته.
وعندما أصبحت أبًا، بدأت أدرك الأهمية الكبيرة للدور الأبوي وتأثيره على حياة الأبناء، أحاول أن أكون لأولادي مثل ما كان والدي بالنسبة لي، أحكي لهم عن والدي وبطولاته، وأشاركهم في تعلم القيم التي علمني إياها والتي تظل توجيهًا لحياتي.
الفقدُ يعلمنا قيمة الأشياء والأشخاص في حياتنا، يجعلنا نقدر اللحظات الجميلة ونعيشها بكل تفاصيلها، ويعلمنا أهمية العائلة والوقت الذي نمضيه معهم، وعلى الرغم من الألم الذي يخلفه، إلّا أن الفقد يمكن أن يكون محفزًا لنعيش حياةً أفضل ونحمل شغفًا دائمًا للتطور والنجاح.
آهٍ، كم أشتاق إلى أبي، ورغم ذلك، فإن ذكراه تظل حيةً في قلبي، وأجد فيها القوة لمواجهة تحديات الحياة والسعي نحو تحقيق أحلامي.
وفي نهاية حديثي أوجه نصيحة للأبناء، من الضروري أن تعوا أن الوقت الذي تقضونه مع والديكم له قيمة لا تقدر بثمن، لذا، يجب عليكم أن تستمتعوا بكل لحظة وتقدروا الوقت الذي تمضونه مع أباءكم، لا تدعوا الاشتغال بأمور الحياة اليومية تحجب عنكم الفرصة للتواصل مع والديكم وتقديرهما.
عليكم أيضًا أن تعبروا عن حبكم واعترافكم لوالديكم بشكل منتظم، فقد تكون الكلمات الصادقة والاهتمام بأمورهما اليومية هي أقوى وسيلة لتعبيركم عن مشاعركم، اسألوا عن أخبارهما، واستمعوا إلى قصصهما، وعبروا عن امتنانكم لهما على كل ما قدموه لكم.
وعندما تفقدون والديكم، لا تدعوا الحزن يسيطر على حياتكم بشكل تام، بدلاً من ذلك، استخدموا ذلك الفقدان كحافز لتحقيق أحلامكم وتحقيق أهدافكم، وتذكروا دائمًا القيم والتعاليم التي علموكم إياها، وحاولوا أن تكونوا إصدارًا أفضل من أنفسكم وأن تعيشوا حياة مليئة بالإنجازات والسعادة، وتكونوا فخورون بها وتشاركون بها ذكرى والديكم الغاليين، قال تعالى ﴿وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما﴾ [الإسراء: 23].
المصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ذاكرة الجدة وذعر الطريق
اختفت الشمس من الصحراء وعاد الليل.
كنتُ متماهية مع صوت جدتي وهي تقص قصصًا من التراث العُماني القديم.
كانت تستحضر القصص من ذاكرتها الحية، التي يبدو نصفها معطوبًا.
أكل الخرف ذاكرتها كما تأكل الرِمَّة الخشب.
روحها لا تُمل، وإحساسها بالأشياء مُذهل، ودقة وصفها جعلتني لا أشعر بالوقت.
غادرت منزلها فور أن استشعرت العُتمة.
شغّلت المُحرّك وسلكت الطريق العام.
هذه القرية تكاد تكون معدومة السُكان، بيوت قليلة تقع في صحراء شاسعة.
بدأ الخوف يدّبُ في أوصالي، وتذكرت أمي وهي تقول: (تعالي قبل ما تغيب الشمس).
شغّلت الراديو رغبةً في تشتيت الخوف، فصدحت منه الأغاني الوطنية.
غيّرت الموجة: حرائق في كاليفورنيا، سقوط طائرة، مفاوضات بشأن السلام في غزة، تسونامي في اليابان.
لا شأن لي بالاستماع للكوارث التي تحدث في العالم، أطفأت الراديو.
ظهرت سيارة بيضاء في المرآة، إنها خلفي مباشرة، تشبه تلك السيارة التي كانت تلاحقني في المنام عندما كنت طفلة.
استيقظ خوف دفين في روحي، وحاولت إبطاء السرعة لأسمح لها بتجاوزي. لكن سائقها لم يُبدِ أي رد فعل، وكأنه يصر على السير خلفي. رفعت هاتفي في محاولة لالتقاط شبكة، لكنه لا يستجيب (No service).
عيناي تقعان على المرآة لمراقبة سلوكه، لعله يتصل، أو يتناول علكة، أو يفعل أي شيء آخر يثبت لي أنه غير مكترث بي، ربما.
لكنه ينظر للأمام بحزم.
بدأ يزيد من مستوى السرعة.
بلغت القلوب الحناجر، وشعرت برغبة هائلة في البكاء، فأنا أبكي فقط عندما أكون قلقة.
ربما أدركَ تمامًا أنني امرأة، ربما يتعمّد إخافتي. ليتني أطعت جدتي عندما قالت لي: (جلسي، ما شبعت منك).
حاولت الاتصال بأي أحد، لكن هاتفي لا يستقبل أي إشارة.
تبًا للأقمار الاصطناعية، تبًا للتكنولوجيا الفاشلة.
بدأت بطارية هاتفي تنفد، وفي الوقت نفسه السائق اللعين تجاوزني.
فتح نافذته رغبة في أن يُسمعني صوته، لكنني لا أعلم ماذا يقول! لا أعلم شيئًا سوى أن الخوف جمّد أطرافي.
رفعت مستوى السرعة محاولة الوصول إلى المحطة، حيث بدت لي الأضواء من بعيد.
شعرت بارتياح هائل عندما رأيت تلك الأضواء.
الآن يسير خلفي مجددًا، وأشعر بالقلق من أن يعترض طريقي.
وصلت المحطة أخيرًا، وعادت الحياة لهاتفي. هناك ١٤ مكالمة فائتة: ٤ من أمي، و١٠ من أخي.
وصل هو أيضًا إلى المحطة، وتوقف بجواري تمامًا، ثم طرق نافذتي محاولًا إخباري بشيء ما.
فتحت جزءًا ضئيلًا من النافذة، جزءًا يسمح فقط بمرور الصوت: (آسف على الإزعاج، بس الدبّة مفتوحة).
لم أُجِب، تملّكني الصمت.
كانت نظراتي التي بدت غاضبة، وأنفي الذي احمّر كأنوف صغار الأرانب، كفيلين بإبعاده.