ألغاز اقتصادية تثري العقل !!
تاريخ النشر: 23rd, September 2023 GMT
يبدأ علم الاقتصاد بفرضية هى أن كل السلوكات الإنسانية عقلانية، وبالطبع فإن هذه الفرضية ليست دائماً صحيحة بمعناها الحرفي، فمعظمنا يستطيع أن يذكر استثناءات من بين أقرب الناس إليه.
بيد أن صحة الفرضية على نحو حرفي لا تعد شرطاً أساسياً للبحث العلمي، فمثلا إذا سألت عالم فيزياء كم من الوقت تستغرقه كرة البولينج لتهبط إلى الأرض إذا ألقيت بها من فوق سطح بيتك، عندئذ سيفترض مبدئياً أن بيتك قائم في الفراغ، ثم يبدأ بعد ذلك في إجراء الحسابات ليصل الى الجواب الصحيح.
وإذا طلبت من مهندس أن يتنبأ بمسار كرة بلياردو ضُربت من زاوية معينة، فإنه سيفترض مباشرة عدم وجود ما يسمى الاحتكاك، وإذا سألت عالم اقتصاد أن يتنبأ بالآثار المترتبة على ارتفاع قيمة الرسوم المفروضة على مبيعات البنزين، فسوف يفترض أن كل الناس عقلانيون ويمنحك جواباً أقرب ما يكون إلى الدقة.
ومما سبق نرى أن صحة الفرضية لا تقاس بلفظها وإنما بطبيعة نتائجها، وعلى ذلك المعيار يكون للعقلانية سجل جيد من النجاحات.
لذا ، تفترض العقلانية أن الناس يستجيبون للتحفيز، وهي مقولة تؤكدها كثير من الشواهد القوية، وتفترض أيضاً أن استعداد الناس لدفع المزيد في مقابل علبة كورن فليكس وزنها أكبر من استعدادهم لدفع المزيد في مقابل علبة وزنها أقل ، وأن العمال المهرة سيكسبون عادة أكثر من زملائهم الذين تعوزهم المهارة ، وأن الأفراد المحبين للحياة لن يلقوا بأنفسهم من فوق جسر ، وأن الطفل الجائع سوف يملأ الدنيا صراخاً ليعلن عن احتياجاته، كل هذه الأشياء عادة صحيحة.
وعندما نفترض في الناس العقلانية، فإننا بذلك نتجاهل تماماً ميولهم، والمقولة اللاتينية ((إن أذواق الناس لا تخضع للمنطق)) إذ هي إحدى شعارات عالم الاقتصاد.
إذن ، كيف نتعامل مع هذه الظواهر؟ إن الإجابة المنطقية هي أن نقول: ((لا يتصرف الناس بعقلانية طيلة الوقت، إنما في معظم الأحيان، ومبادئ علم الاقتصاد لا تنطبق على جميع التصرفات، إنما على بعضها، وتلك بعض الاستثناءات)).
أو هناك حل بديل، هو أن نتشبث بذلك الوهم الذي يفترض أن كل الناس يتصرفون بعقلانية طيلة الوقت، وأن نُصِر على ايجاد تفسيرات عقلانية – مهما كانت شاذة – لكل هذه التصرفات التي تبدو غير عقلانية.
إن كثيرا من المجتمعات الزراعية البدائية تشترك في صفة غريبة؛ فبدلاً من أن يمتلك المزارع الواحد قطعة واحدة واسعة من الأرض، تجده يمتلك عدة قطع صغيرة من الأراضي الزراعية المتفرقة في أنحاء القرية. وقد دار جدل طويل بين المؤرخين حول أسباب هذه الظاهرة التي يعتقد أنها السبب وراء الكثير من أوجه القصور، ومن الاحتمالات المطروحة أن يكون الميراث والزواج هما السبب، فمن جيل إلى آخر يجري إعادة تقسيم قطع الأرض التي تملكها العائلة بين الورثة، فتتحول إلى قطعة صغيرة، ثم تأتي مسألة الزواج، فتزداد قطع الأرض المملوكة للعائلة الواحدة تباعداً وانتشاراً. تعرض هذا التفسير لنقد شديد، فهو يقدم صورة من صور اللاعقلانية، إذا لم لا يتبادل المزارعون قطع الأرض فيما بينهم بصورة دورية بحيث يدمجون ممتلكاتهم ويعززون من قوتها؟
لقد جذبت هذه المشكلة اهتمام عالم الاقتصاد والمؤرخ دون ماكلوسكي الذي يتمتع بقدرة فطرية متفردة على ابتكار التفسيرات الاقتصادية العبقرية، فبدلاً من أن يسأل: ((أي العادات الاجتماعية أدت إلى هذا السلوك غير العقلاني؟)) طرح ماكلوسكي سؤالاً آخر، فقال: ((لماذا يعد هذا السلوك عقلانياً؟)) وأوصلته الدراسة المتأنية إلى نتيجة هي أن هذا السلوك نوع من التأمين، فمثلاً في حالة حدوث فيضان في القرية، يتعرض المزارع صاحب قطعة الأرض الكبيرة للتدمير الشامل لممتلكاته، ولكن بتوزيع هذه الممتلكات، فإن المزارع يضحي ببعض الزيادة المحتملة في الدخل في مقابل أن يضمن ألا تمحى ممتلكاته تماماً بفعل كارثة ما. إن هذا السلوك لا يعد سلوكاً شاذاً، وإنما كل أصحاب العقارات المؤمن عليها في عصرنا الحالي ينهجون النهج ذاته.
إن الكثير من السلوكات التي يعتبرها الآخرون أمراً مسلماً به تثير حيرة علماء الاقتصاد.
للتواصل : [email protected]
المصدر: صحيفة صدى
كلمات دلالية: هذا السلوک
إقرأ أيضاً:
رئيس اقتصادية قناة السويس: المتحف الكبير يجسد إرادة دولة قادرة على صنع المستقبل
كتب وليد جمال الدين رئيس الهيئة الاقتصادية لقناة السويس، مقائلا بوكالة أنباء الشرق الأوسط جاء فيه: “لقد جاءت مصر أولًا.. ثم جاء التاريخ”؛ فمن أرضها وُلدت الحضارة، وعلى ضفاف نيلها كُتبت أولى صفحات الإنسانية. قدّمت مصر للعالم حضارة لا تزال أسرارها تُكتشف يومًا بعد يوم، وتستحق دومًا الاحتفاء والاكتشاف.
ومن هذا الإيمان العميق بعظمة الماضي وخلوده، جاءت الرؤية الطموحة لإنشاء المتحف المصري الكبير؛ أكبر متحف مخصص لحضارة واحدة في العالم، ليكون سجلًا مفتوحًا يروي قصة الإنسان المصري وعبقريته، ويُجسّد كيف استطاعت مصر أن تجعل من تاريخها منارة تُضيء حاضرها ومستقبلها.
ويُشكل المتحف المصري الكبير ذلك الصرح العالمي الذي شُيّد بسواعد مصرية خالصة، عنوانًا بارزًا لـ "الجمهورية الجديدة"، ورمزًا لقدرة المصريين على قهر التحديات وإبداع منجزات حضارية تليق بتاريخهم العريق؛ فلم يعد هذا المتحف مجرد مبنى يضم كنوزًا أثرية لا تُقدر بثمن، بل أصبح أيقونة معمارية عالمية، وشهادة حية على براعة هندسية وتنفيذية تضاهي في عظمتها عظمة الآثار التي يحتضنها.
ويمتد أثر المتحف المصري الكبير ليشمل أبعادًا متعددة تتجاوز قيمته الأثرية والثقافية؛ فهو جسر للتواصل بين الماضي والحاضر، ومنصة تُعيد تعريف القوة الناعمة المصرية في وجدان العالم. فعلى الصعيد الثقافي، يُعيد المتحف تقديم هوية مصر الحضارية برؤية معاصرة تُبرز عراقتها وتنوعها الإنساني، وعلى الصعيد الاقتصادي والسياحي يُعدّ مركز جذب عالمي يعزز مكانة مصر كوجهة رائدة للسياحة الثقافية ويُسهم في تحفيز الاستثمارات المرتبطة بالصناعات الإبداعية والخدمية. أما على الصعيد العلمي، فيُعد مركزًا متطورًا للبحث والترميم والتعليم المتحفي، بما يضمن نقل المعرفة والخبرة إلى أجيال جديدة من المتخصصين، ويؤكد أن مصر لا تكتفي بحفظ تراثها، بل تُعيد إحياءه وإطلاقه نحو المستقبل.
وفي الوقت الذي تفخر فيه المنطقة الاقتصادية لقناة السويس بكونها جزءًا من الدولة المصرية التي تمضي بخطى ثابتة نحو المستقبل، نؤمن أن قوة مصر الحضارية والرمزية هي جزء لا يتجزأ من قوتها الاقتصادية، وأن النهضة الشاملة التي نشهدها اليوم هي امتداد طبيعي لإرثٍ لا يفنى من الإبداع والابتكار.
إن افتتاح المتحف المصري الكبير يجسد إرادة دولة قادرة على صنع المستقبل كما صنعت التاريخ، ويفتح أمام العالم نافذة جديدة لاكتشاف عبقرية الإنسان المصري عبر العصور.