التنمية الزراعية من اجل السلام في السودان

كيف شكلت الزراعة تاريخ السودان ومستقبله: رحلة عبر ثلاثة عصور من الفكر التنموي

 لماذا تعتبر نظرتنا للزراعة مفتاحاً للسلام؟

لا يهدف هذا التحليل إلى سرد تاريخي للسياسات الزراعية في السودان، بل يسعى إلى تقديم تشخيص استراتيجي لأزمة “الخيال التنموي” التي سيطرت على النخب الحاكمة المتعاقبة.

فهناك رابط بنيوي بين “العقلية الاستخلاصية” التي اختزلت الزراعة في كونها مجرد أداة لتوليد الإيرادات للدولة، وبين استمرار الصراعات وتعمق التهميش التنموي في أقاليم البلاد. إن الفشل في السودان لم يكن فشلاً في الموارد، بل كان “فشلاً في الخيال” لدى من أداروا شؤون البلاد.

المراحل الثلاث لتطور الفكر العالمي حول الزراعة

إن فهم الإخفاقات التاريخية للسياسات الزراعية في السودان، التي غالبًا ما تعاملت مع القطاع الزراعي من منظور ضيق، لا يمثل مجرد ممارسة نقدية، بل هو خطوة استراتيجية ضرورية لاستخلاص الدروس التي تمنع تكرار الأخطاء وتؤسس لسياسات جديدة ترتكز على أسس مختلفة جذريًا. ومن خلال تتبع تطور النظرة العالمية لدور الزراعة في التنمية، نجد أنها لم تكن ثابتة، بل تطورت مع تطور الفكر الإنساني. ويمكن تقسيم هذا التطور الفكري إلى ثلاث مراحل رئيسية، لمعرفة موقع فكر النخب السودانية ضمن هذه المراحل المتعاقبة، مما قد يفسر الكثير من واقعنا الحالي.

المرحلة الأولى: الزراعة كمحرك صناعي (النظرة الاستعمارية):

في هذه المرحلة، كان الهدف الأوحد للزراعة هو توفير المواد الخام الرخيصة والأساسية لتغذية القطاع الصناعي في الدولة المُستعمِرة. ويُعد مشروع الجزيرة المثال الأبرز على هذه الفلسفة؛ فقد كان الهدف الأساسي للمشروع هو تزويد مصانع النسيج البريطانية بالقطن بأسعار منخفضة ومستقرة، وليس تحقيق التنمية للمزارع السوداني أو المجتمع المحلي. بعد الاستقلال، ورثت الحكومات الوطنية هذا النموذج، لكنها قامت بتعديله ليخدم أهدافًا اقتصادية وطنية بدلاً من الصناعية الخارجية، مما أدخلنا في المرحلة الثانية.

المرحلة الثانية: الزراعة كمحرك اقتصادي (نظرة الدولة الوطنية):

تغيرت النظرة للزراعة من مجرد داعم للصناعة إلى قطاع اقتصادي حيوي ومصدر رئيسي للدخل القومي والعائدات التصديرية. وأصبح الهدف هو تعظيم العائد الاقتصادي من الأنشطة الزراعية. ووفقًا لهذا المفهوم، قامت الحكومات المتعاقبة في السودان بتكرار نموذج مشروع الجزيرة في مشاريع جديدة مثل مشروع الرهد وحلفا الجديدة، مع التركيز على الإنتاج بغرض التصدير. وامتد هذا الفكر ليشمل الزراعة المطرية، حيث ركزت الدولة على الزراعة المطرية الآلية في مناطق مثل القضارف والنيل الأزرق، والتي سيطرت عليها الشركات الكبرى لإنتاج محاصيل تصديرية كالسمسم وعباد الشمس.

أدت هذه السياسات إلى عواقب وخيمة، إذ تم إهمال مناطق الزراعة المطرية التقليدية وملايين صغار المزارعين الذين يمثلون عصب الحياة في الريف. كما أسفر التوسع في الزراعة الآلية عن ضغط شديد على المراعي والأراضي التقليدية. ونشبت صراعات عنيفة حول الموارد، خاصة الأرض والمياه، نتيجة لسياسات نزع الأراضي لصالح المشاريع الكبرى. ومن ناحية أخرى، حُرم صغار المزارعين من الائتمان الرسمي، حيث لم يتجاوز نصيبهم 0.5% من قروض البنك الزراعي، مما دفعهم للجوء إلى آليات تمويل استغلالية.

الأطر الأيديولوجية لهذه المراحل

يمكن تقسيم الأطر الأيديولوجية الحاكمة للمرحلتين بين النخب السودانية إلى المنهج الاشتراكي والمنهج الرأسمالي:

حقبة التأثر الاشتراكي (من الاستقلال حتى منتصف الثمانينيات): اتسمت هذه المرحلة بهيمنة الحكومة بشكل كبير على عمليات الإنتاج والتسويق الزراعي. والمفارقة التحليلية تكمن في أنه على الرغم من تخصيص موارد كبيرة للقطاع بلغت حوالي 28% من إجمالي الاستثمار العام بين عامي 1978 و1985، إلا أن هذه الاستثمارات وُجّهت بشكل حصري تقريباً للقطاع المروي الذي يركز على محاصيل التصدير. وقد أدى هذا التوجه إلى إهمال شبه كامل لقطاعات حيوية أخرى كالزراعة المطرية التقليدية والثروة الحيوانية، مما رسخ التفاوت التنموي بين أقاليم السودان المختلفة.

حقبة التوجه الرأسمالي (من منتصف الثمانينيات حتى 2018): شهدت هذه الفترة تبنياً واسعاً لسياسات المنهج الرأسمالي، والتي تجلت بوضوح في الخصخصة وسحب الدعم الحكومي عن المزارعين ومدخلات الإنتاج. ومع ذلك، استمر التحيز ضد القطاع التقليدي. ظل التمويل المصرفي موجهاً في البداية للزراعة المروية، ثم تحول لدعم الزراعة الآلية والشركات الزراعية الكبرى، مع استمرار تهميش صغار المنتجين. والدليل الصارخ على هذا التهميش على المستوى الوطني هو أن القطاع الزراعي بأكمله لم يحصل سوى على 3% من إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر الذي دخل البلاد بين عامي 1998 و2008.

ويظهر هذا الاستعراض أن كلا المنهجين، رغم اختلافهما الأيديولوجي، فشلا في تقديم رؤية تنموية شاملة للقطاع الزراعي. والسبب الجوهري هو أن كلا المنهجين كانا مجرد “أغلفة سطحية” تم تطبيقها على النموذج الاستخلاصي الموروث من الحقبة الاستعمارية والذي لم يتغير جوهرياً. لقد انطلق كلاهما من نفس النظرة الاقتصادية المختزلة التي تعاملت مع الزراعة كوسيلة لتحقيق أهداف اقتصادية ضيقة، متجاهلة أبعادها الاجتماعية والإنسانية

 

 

المرحلة الثالثة: الزراعة كمحرك للتنمية الشاملة (التحول الزراعي)

في ظل فشل النظرة الاقتصادية السائدة في تحقيق تنمية عادلة، برز مفهوم عالمي جديد أكثر شمولية يرى في الزراعة محركًا للتنمية الإنسانية الشاملة. يُعرّف “التحول الزراعي” بأنه مفهوم يتجاوز مجرد زيادة الإنتاج ليتركز على أهداف متعددة، تشمل تحسين سبل العيش في المناطق الريفية، القضاء على الجوع، تحقيق الأمن الغذائي، وضمان استدامة الموارد الطبيعية. الهدف الأسمى لهذه المرحلة هو تحويل القطاع الزراعي إلى أداة فعالة لتحقيق تنمية إنسانية متوازنة ومستدامة تعالج جذور الفقر وعدم المساواة. هذا التحول ليس مجرد رؤية نظرية، بل هو واقع أثبتته دول عديدة؛ فالبرازيل، على سبيل المثال، تحولت من مستورد للغذاء إلى مُصدّر عالمي بفضل الاستثمار في الابتكار الزراعي. وفي فيتنام، كان تمكين صغار مزارعي الأرز المحرك الرئيسي للحد من الفقر وتحقيق الأمن الغذائي. أما الهند، فقد قدمت نماذج ناجحة للشراكات التي حسنت سبل عيش ملايين المزارعين. تثبت هذه التجارب أن الطريق الثالث للنمو ممكن وواعد للسودان.

من ناحية أخرى، ظهر مفهوم مصاحب للتحول الزراعي وهو ما يُعرف بـ “نموذج الدولة”، الذي يفترض أن لكل دولة نموذجها الخاص في وضع استراتيجياتها التنموية. يتجاوز هذا المفهوم الصراع التاريخي بين المناهج الاشتراكية والرأسمالية ليتبنى نموذجًا يُصمَّم وفقًا للأهداف الاستراتيجية للدولة وإمكانياتها والعوامل المؤثرة في تحقيق تلك الأهداف. إنه نموذج يستفيد من كل الإنتاج الفكري البشري، سواء كان رأسماليًا أو اشتراكيًا أو غيرهما، وهو ما سنفرد له مساحة في مقالات قادمة..

في المقال القادم، سنكشف حقيقة مقلقة تتعلق بفكر النخبة السودانية بعد ثورة ديسمبر. سنُحلّل رؤية اللجنة الاقتصادية لقوى الحرية والتغيير، التي تميل نحو الاشتراكية، ومقارنتها برؤية الحكومة الانتقالية التي تتسم بالتفاوت بين طرح رئيس مجلس الوزراء الانتقالي والبرنامج الثلاثي للحكومة الذي قُدِّم قبل انقلاب 25 أكتوبر 2021. وسنبحث كذلك كيف يرتبط كل ذلك بتحقيق شعارات الثورة: “حرية، سلام، وعدالة”.

 

حسن على سنهوري

مستشار التنمية الزراعية

[email protected]

الوسومالتنمية الزراعية الزراعة الزراعة مفتاحاً للسلام؟ السلام في السودان الفكر التنموي تاريخ السودان ومستقبله حسن على سنهوري رحلة عبر ثلاثة عصور

المصدر: صحيفة التغيير السودانية

كلمات دلالية: التنمية الزراعية الزراعة السلام في السودان

إقرأ أيضاً:

الأمم المتحدة: فرار آلاف الأسر السودانية التي تعاني الجوع وسوء التغذية

أشارت منظمة الأمم المتحدة، اليوم السبت، إلى فرار آلاف الأسر السودانية التي تعاني الجوع وسوء التغذية نتيجة أعمال العنف في الفاشر.

وشارت مصادر سودانية إلى أن الجيش السوداني نجح في إسقاط مُسيّرات تابعة للدعم السريع في ولاية شمال كردفان.

وأعلنت شبكة أطباء السودان، اليوم السبت، مقتل 12 شخصا وإصابة آخرين جراء استهداف الدعم السريع مخيمات نازحين جنوب كردفان.

اقرأ أيضًا.. قاضي قضاة فلسطين: مصر أفشلت مُخطط تهجير شعبنا

أطباء السودان: مقتل 12 شخصا وإصابة آخرين جراء هجوم للدعم السريع فلسطين: انهيار معظم الأنشطة الاقتصادية بغزة نتيجة الإبادة الإسرائيلية

وأشارت مصادر سودانية إلى أن قوات الدعم السريع قامت بتصفية جميع الأطباء داخل المستشفي بالإضافة إلى النساء الحوامل والمواليد.

وأكدت المصادر أن قوات الدعم السريع ارتكبت مجزرة جديدة واقتحمت المستشفى الطبي بمدينة بارا بولاية شمال كردفان.

قالت المفوضية الأوروبية، امس الجمعة، إنهم يستخدمون أدواتهم للبحث عن حل سلمي في السودان.

وأدانت المفوضية الأوروبية بشدة الهجمات ضد المدنيين في السودان.

وقال برنامج الأغذية العالمي إن تم تفريغ شاحنات مساعدات في جنوب كردفان السودانية للمرة الأولى منذ أكثر من عام.

وقالت مؤسسة الهجرة الدولية إن طرق النزوح من الفاشر تشهد اضطرابات أمنية تعوق المدنيين

وذكرت المؤسسة أن 62 ألفا نزحوا من الفاشر بالسودان خلال 4 أيام.

وقال مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، امس الجمعة، إن مدينة الفاشر السودانية محاصرة ولم تصلها أي مساعدات إنسانية منذ أكثر من 500 يوم.

 وأضاف المكتب الأممي: "المدنيون المحاصرون في الفاشر يواجهون عنفًا مروعًا ويعيشون بلا طعامٍ أو ماءٍ".

 وأشارت مصادر سودانية إلى أن الجيش السوداني شنّ غارات جوية استهدفت مواقع للدعم السريع في ولاية غرب كردفان.وقالت شبكة أطباء السودان إن ولاية شمال كردفان تشهد موجة نزوح متسارعة من محلية بارا باتجاه مدينة الأبيض

 وأعرب مجلس الأمن الدولي عن قلقه البالغ إزاء تصاعد أعمال العنف في مدينة الفاشر وما حولها، محذرًا من التداعيات الإنسانية الخطيرة على المدنيين جراء استمرار القتال.

 وفي بيان صدر في وقت سابق دان المجلس هجوم قوات الدعم السريع على الفاشر، واصفًا إياه بأنه ذو أثر مدمر على السكان المدنيين، داعيًا جميع الأطراف إلى وقف الأعمال العدائية فورًا وضمان حماية المدنيين.

 كما حث مجلس الأمن قوات الدعم السريع على التنفيذ الكامل لأحكام القرار 2736، مشددًا على ضرورة الالتزام بالقانون الإنساني الدولي وتهيئة الظروف لاستئناف العملية السياسية في السودان

مقالات مشابهة

  • أيرلندا تعتزم فتح الأسواق الزراعية أمام المنتجات المصرية بمعايير أوروبية
  • وزير الزراعة يستعرض مع نظيره الأيرلندي فرص الشراكة في الأمن الغذائي والتكنولوجيا الزراعية
  • أحمد زايد: رئيس كرواتيا أشاد بالمتحف المصري الكبير ورسالة السلام التي يحملها للعالم
  • وكيل زراعة البحيرة: وقف "كارت الفلاح" فورًا لمن يخالف الحصر الزراعي الشتوي
  • لتطوير مهارات المزارعين.. زراعة أسيوط تنظم دورة لتأهيل مطبقي مبيدات الآفات الزراعية
  • الأمم المتحدة: فرار آلاف الأسر السودانية التي تعاني الجوع وسوء التغذية
  • مؤتمر في زحلة بحث في فوائد القنّب الزراعي والتحديات القانونية برعاية وزير الزراعة
  • وزيرة التنمية المحلية تعلن انطلاق المرحلة الرابعة من مبادرة 100 مليون شجرة بمحافظة الفيوم
  • وزيرة التنمية المحلية تعلن انطلاق المرحلة الرابعة من المبادرة الرئاسية "100 مليون شجرة" بمحافظة الفيوم