لماذا تغدو دراسة السيرة النبوية ضرورة في عصر الحداثة السائلة وتشيّؤ الإنسان؟
تاريخ النشر: 25th, September 2023 GMT
في كل حين وكل عصر وكل جيل يحتاج المسلم سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتعرفها ويحيا معها وبها، وما تزال السيرة النبوية على مر الأيام منهلا عذبا يرتوي منه الظامئ فيصل الري أطراف روحه وعقله، وإنها كلما تقادم الزمان عادت جديدة تناسب العصر بل تتسرب إلى كل تفاصيله مهما كان شائكا لتعالج أمراضه وتغسل أدرانه.
وفي عصر ما بعد الحداثة الذي تعيشه البشرية اليوم ويتلاطم المسلمون بين أمواجه؛ فمنهم من تاهت سفينته في عبابه فيلتمس منارة هداية، ومنهم من يبحث عن طوق نجاة بعد أن سقط من السفينة وصار يعارك الموج الغلاب؛ وفي هذا العصر العاتية أمواجه الطاغية سماته والمهيمنة على كل تفاصيل الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية والأدبية والجماعية والشخصية تبرز السيرة النبوية منارة هداية عند الشاطئ الآمن وطوق نجاة في قلب الموج المتلاطم.
الصلابة في مواجهة السيولة"السيولة" من أبرز سمات عصر ما بعد الحداثة، وقد سرعت في تكريسها واقعا حالةُ الانفجار التواصلي الذي شهدته البشرية وأدى إلى نزوح أفواج هائلة من البشر من العالم الواقعي إلى العالم الافتراضي، والسيولة في مرحلة ما بعد الحداثة -على حد تعبير عالم الاجتماع البولندي زيغمونت باومان- "مرحلة تفكك المفاهيم الصلبة والتحرر من كل الحقائق والمفاهيم والمقدسات"، فنحن نعيش في عصر ما بعد الحداثة حالة السيولة في كل شيء؛ سيولة المفاهيم وسيولة الأفكار وسيولة المبادئ وسيولة القيم بل سيولة الإنسان نفسه، فمفهوم الإنسان يعيش تفككا غير مسبوق في عصر الجندر الذي أوصل الإنسان فيما يسمى "مجتمع الميم" إلى 99 نوعا في آخر نسخة.
وفي سلسلته عن السوائل وما أنتجته الحداثة السائلة تحدث باومان عما طالته السيولة في كتب عدة منفصلة وهو "الحياة، والحب، والأخلاق، والأزمنة، والخوف، والمراقبة، والشر"، ولقد ارتكزت السيولة الطاغية على التفكيك والتقويض والعدمية والإقصاء، وتحطيم المرجعيات المركزية في حياة الإنسان.
في السيرة النبوية يجد المرء نفسه في خضم حياة من نوع مختلف عما يعيشه في الواقع؛ حياة تواجه بطريقة هادئة وتجسيدية كل هذه السيولة التي تحيط بنا؛ حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته التي تمثل الترجمة العملية للأوامر والأفكار النظرية التي جاء بها القرآن الكريم، وتمثل الإطار التطبيقي التدريبي للمسلم على وضوح المرجعية وصلابتها وتحويلها من أفكار نظرية إلى واقع سلوكي معاش، وهذا ما عبرت عنه أمنا عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خُلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت "كان خلقه القرآن"، أي انظروا إلى القرآن الكريم فما فيه من أوامر وأخلاق وفضائل فقد كان يترجمها إلى سلوك عملي تطبيقي صلوات ربي وسلامه عليه.
إن الحياة مع سيرة النبي صلى الله عليه وسلم تمثل نموذجا تجسيديا تطبيقيا لصلابة الفكرة وصلابة المبدأ وصلابة القيم وصلابة الأخلاق وصلابة الأهداف، وقبل ذلك كله صلابة المرجعية؛ ففي سيرة النبي صلى الله عليه وسلم يرى المسلم نموذجا حيا متحركا في واقع شائك، ومع ذلك -وهو في كل تفاصيل حياته متحمور حول مرجعية الوحي- فهو على صلة دائمة بوحي السماء، ينتظر الوحي لتطبيقه وتعليمه ويبين فاعلية الوحي في كل الأحداث الشائكة، وحضور الوحي جلي في حركة الحياة اليومية لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كل تفاصيلها السياسية والاقتصادية والعسكرية والاجتماعية، وفي العلاقات بين أفراد المجتمع الواحد مسلمين وغير مسلمين، وبين أفراد الأسرة الواحدة، وفي العلاقة بين الحاكم والمحكوم. والسيرة النبوية هي مرجعية سلوكية صلبة قائمة بذاتها، كما أنها تمثل الترجمة السلوكية للمرجعية الصلبة النظرية المتمثلة بالوحي القرآني، وكونها مرجعية سلوكية صلبة فهذا تدليل على أنها قابلة للتطبيق في السلوك الإنساني، فهي من جهة تواجهه السيولة المهيمنة، وتقدم النموذج الصلب ممكن التطبيق الواقعي من جهة أخرى، وتمثل كذلك نموذجا تطبيقيا لحياة تعاش لأجل هدف أكبر من الذات، ورسالة أكبر بكثير من المنفعة الشخصية، واستعلاء على الجسد لأجل الفكرة، وتضحية بالنفس لأجل الرسالة. وكل هذا مما تعمل السيولة في عصر ما بعد الحداثة على تقويضه واعتباره غريبا عن حياة الإنسان المعاصر.
في مواجهة نزعة الاستهلاك وتشيؤ الإنسانتحدث مالك بن نبي عن العوالم الثلاثة؛ عالم الأفكار وعالم الأشخاص وعالم الأشياء، وفي عصر ما بعد الحداثة انتقل الإنسان من الدوران حول الفكرة إلى الدوران حول الأشياء فصارت الأشياء المادية هي أهم مرتكزات حياة الإنسان في هذا العصر، وصارت الأفكار لا تدور حول الأشياء فحسب بل غدت خاضعة لها وخادمة لها، وصار الاستهلاك أهم سمات هذا العصر المغرق في المادية والنفعية.
بل إن الأمر تجاوز ذلك بكثير فلم يعد الإنسان يدور حول الشيء بل تحول هو إلى شيء؛ ودخلنا في حالة تشيؤ الإنسان، والتي عبر عنها الدكتور عبد الوهاب المسيري بقوله "التشيؤ هو أن يتحول الإنسان إلى شيء، حيث تطبق الصيغ الكمية والإجراءات العقلانية الأداتية على الإنسان إلى أن يتساوى الإنسان وعالم الأشياء والسلع؛ فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح "الطبيعة؛ المادة" أو "السوق؛ المصنع" هي المرجعية الوحيدة النهائية؛ فتنتفي إنسانية الإنسان وتعمل فيه آليات التشييء والتنميط والتفكيك".
وتحول الإنسان إلى سلعة مثل بقية السلع، بل غدا الجسد لا سيما عند المرأة سبيلا إلى خدمة الأشياء والسلع الأخرى والترويج لها، وغدا الإنسان رقما ربحيا في صراع الاستهلاك المحموم؛ فتأتي السيرة النبوية لتعيد الأمور إلى نصابها، فتؤكد مركزية الإنسان في أي بنيان حضاري؛ إذ نرى فيها من لحظة ولادة النبي صلى الله عليه إلى وفاته إعلاء شأن الإنسان، فكان الإنجاز الأول لولادته على سبيل المثال عتق ثويبة مولاة أبي لهب في إشارة ضمنية لولادة مفهوم جديد في ذلك الواقع الصنمي مع ولادة النبي صلى الله عليه وسلم يقوم على تحرير الإنسان الرق.
كما يعيش المرء في السيرة النبوية مع الآليات العملية لتحرير الإنسان من سطوة المادة وتحريره من الرق والطغيان والاستبداد؛ فيكون الضعفاء والمستضعفون والمضطهدون أول من يسارع إلى اعتناق الإسلام لأنهم وجدوا فيه إنسانيتهم بعد أن عاملهم المجتمع بوصفهم محض أشياء تباع وتشترى.
ويعيش المرء مع السيرة النبوية منهج النبي صلى الله عليه وسلم في عتق الإنسان من الدوران حول الشخص الاعتباري؛ وهو القبيلة في جاهلية جهلاء ليدور حول الفكرة وهي الوحي، فتتحول مرجعيته من الشخص الصنمي الاعتباري إلى مرجعية الفكرة؛ فيعلو شأنه الإنساني بمقدار تعلقه بالفكرة ودورانه حولها، ويصل الأمر في تربية المجتمع على الدوران حول الفكرة أن ينادى يوم أحد لقد قتل ابن قمئة رسول الله صلى الله عليه وسلم فينزل الله تعالى قوله في سورة آل عمران: "وما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل ۚ أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ۚ ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا ۗ وسيجزي الله الشاكرين"، في تربية عملية على الدوران حول الفكرة وهي الوحي كتابا أو سنة جاء بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعندما يحاول شاس بن قيس أن يحيي نزعة الدوران حول الشخص الاعتباري عصبية وجاهلية في أول الأمر في المدينة بين الأوس والخزرج، ويحاول آخرون إحياءها بين المهاجرين والأنصار يوم المريسيع في غزوة بني المصطلق فينادي "يا للمهاجرين"، ويأتيه الرد "يا للأنصار"؛ فيتدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم في الموقفين تدخلا سريعا معلنا أنها دعوى جاهلية آمرا "دعوها فإنها منتنة؛ دعوها فإنها خبيثة".
في كل تفاصيل سيرة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه يدحض الإنسان ذي البعد الواحد الذي تشيأ ودار حول الشيء؛ فيبني الإنسان الحر ذي الأبعاد المتعددة مادة وروحا، الذي يعيش لروحه وقلبه كما يعيش لجسده بتوازن دون طغيان، كما أنه يربي المجتمع كله على الدوران حول الفكرة حتى إذا مات رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إعلان أبي بكر الصديق رضي الله عنه انعكاسا لهذه التربية "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".
من يدرس سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم بقلبه وعقله فإنه يجد نفسه بشكل تلقائي يعلي مركزية الوحي أي مركزية الفكرة، ومركزية الإنسان الحضارية بوصفه إنسانا لا سلعة، وهذا كفيل بمواجهة إحدى أهم تأثيرات ما بعد الحداثة على الإنسان.
فالسيرة النبوية عنوان صلابة المرجعية وصلابة الأفكار وصلابة القيم وصلابة المبادئ وصلابة المفاهيم في وجه السيولة التي تجعل كل شيء من المبادئ والمفاهيم والمرجعيات يميد من تحت أرجلنا وعقولنا وقلوبنا، وهي عنوان إعلاء شأن الإنسان ليكون إنسانا مكرما يخرج من عبادة العباد وعبادة الأشياء والخضوع لهيمنة الاستهلاك والمادة ليكون رائدا في إخراج البشرية من أوحال المادية إلى أنوار الوحي.
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: رسول الله صلى الله علیه وسلم النبی صلى الله علیه وسلم صلى الله علیه وسلم فی السیرة النبویة السیولة فی
إقرأ أيضاً:
خطبتي الجمعة من المسجد الحرام والمسجد النبوي
المناطق_واس
أوصى إمام وخطيب المسجد الحرام الشيخ الدكتور عبدالرحمن السديس المسلمين بتقوى الله -عز وجل-.
وقال فضيلته في خطبة الجمعة التي ألقاها اليوم في المسجد الحرام: “في زمان كثرت فيه الفتن الظلماء، وعمت محن الدهماء، وفي أغوار الأحداث وأعماقها تتألق قضية فيحاء عريقة بلجاء، من الضرورات المحكمات، والأصول المسلمات، ومن أهم دعائم العمران والحضارات، إنها قضية الأمن والأمان، والاستقرار والاطمئنان”.
أخبار قد تهمك خطبتي الجمعة من المسجد الحرام و المسجد النبوي 2 مايو 2025 - 2:00 مساءً رئاسة الشؤون الدينية تستقبل طلائع ضيوف الرحمن بالإهداءات والمحتوى التوعوي 30 أبريل 2025 - 10:55 مساءًوأوضح أن الأمن أول دعوة دعا بها خليل الرحمن إبراهيم عليه السلام حيث قال: ( رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ )، فقدَّم الأمن على الرزق، بل جعله قرين التوحيد فجمع في دعائه بين أمنين عظيمين؛ الأمن العام الشامل لحفظ الأنفس والأبدان، والأمن العقدي، الذي يُراعى فيه التوحيد الخالص لله تعالى، وهذا معنى عظيم من معاني الإيمان الذي جاءت به شريعة الإسلام.
وبين أنه منذ أشرقت شمس هذه الشريعة الغراء ظللت الكون بأمن وارف، وأمان سابغ المعاطف، لا يستقل بوصفه بيان، ولا يخطه يراع أو بنان.
وقال: “تلك هي المنهجية الإسلامية الصحيحة لهذه القضية الشاملة الربيحة، قضية الأمن والأمان، فهما جنبان مكتنفان للإيمان، منذ إشراق الإسلام، إلى أن يُحشر الأنام، فلقد أعلَى الإسلام شأنها، ورفع شأنها، من خلال التزام الإيمان والتوحيد وجانب الوسطية والاعتدال والابتعاد عن الإفراط والتفريط في كل أمور الحياة”.
ولفت النظر إلى أن من قضايا العصر المؤرقة التي رمت الإنسانية بشرر، واصطلى بها العالم الإسلامي وتضرر، ذلكم الغزو الفكري المتتابع، والاستهانة بعقول البسطاء المتراقع المصادم لشريعة الإسلام، والمضاد لهدي خير الأنام، لم تنشب آثاره، تتأرجح بعقول بعض الشباب الأغرار، ومن يغرر بهم، ويقتل لهم في الذرى والغوارب لذا فإن من أهم أنواع الأمن: الأمن الفكري، بل هو لب الأمن وركيزته، لأن الأمم والأمجاد والحضارات إنما تقاس بعقول أبنائها وأفكارهم، لا بأجسادهم وقوالبهم.
وحذر فضيلته من الاختراقات الإلكترونية بشتى صورها وأنواعها، وجرائم الذكاء الاصطناعي الذي أصبح متاحًا للجميع مبينًا أنه أمام تلك الأنشطة الإجرامية متعددة الأوجه؛ فإن الواجب الوقوف صفًا واحدًا في وجه كل من يحاول شق الصف وإحداث الفرقة والخلل، بالكذب على القيادات والرموز والعلماء بمقاطع مكذوبة، أو أقوال منتحلة من خلال تفعيل الأمن المجتمعي، والإبلاغ عن كل ما يخل به، فهو ضرورة حتمية لمعرفة أساليب النصب والاحتيال، وكيفية التعامل معها والوقاية منها، وحملات الحج الموهومة والمضللة؛ لوقاية المجتمع من الجرائم المستحدثة التي تنتهك الحقوق والحريات، وتستهدف الدين والأنفس والعقول والأعراض والأموال، وأن من البشائر والآمال أن نسبة الوعي بهذه الحرب محل إشادة وتقدير، فلا تهزها الشائعات المغرضة، والافتراءات الكاذبة، التي هي نتاج أحقاد مفضوحة مكشوفة، ولهذا فإن الوعي المجتمعي أساس الأمن المجتمعي، محذرًا البعض أن يكون أدوات أو مطايا للأعداء دون أن يشعروا، بتصديق تلك الترهات.
ورأى الشيخ عبدالرحمن السديس أن الناجحين والطموحين أفرادًا ومؤسسات، ودولًا وكيانات، تتناوشهم سهام الحاسدين والحاقدين في كل مكان وزمان.
وأكد أن من أعظم النعم والآلاء نعمة الأمن والأمان؛ فبلادنا بحمد الله آمنة وهي بحفظ الله محفوظة، مشددًا على أهمية أمن الحرمين الشريفين وقاصديهما، ذلك أن الحج عبادة شرعية، وقيم حضارية، تلبية ورجاء ودعاء، وذكر ونداء، وخشوع وصفاء، وتوبة وثناء، فهو نظام كامل، ومنهج شامل، وعبادة خالصة مؤكدًا أهمية التزام الأنظمة والتعليمات والتوجيهات ومنها: لا حج إلا بتصريح، وهو من لوازم شرط الاستطاعة، تحقيقًا للمقاصد الشرعية الكبرى في جلب المصالح وتكميلها، ودرء المفاسد وتقليلها، وإثراء تجربة القاصدين والزائرين الدينية والقيمية، وأنه يجب تعاون المواطنين والمقيمين والمسلمين جميعًا في هذا الجانب الأمني المهم.
وأوصى إمام وخطيب المسجد الحرام المسلمين بضرورة الوحدة والاعتصام لمواجهة المخاطر والتحديات، خاصة مآسي إخواننا المستضعفين وأحبتنا المكلومين في فلسطين العزيزة، والمسجد الأقصى المبارك، فلا ننساهم من دعائنا، ونبتهل إلى الله أن يكشف عنهم ما نزل بهم، وينصرهم على عدوهم.
كما تحدّث إمام وخطيب المسجد النبوي الشيخ الدكتور عبدالباريء بن عواض الثبيتي عن سيرة النبي محمد – صلى الله عليه وسلم – بوصفها منهجًا ودستورًا يصلُحُ بها حالُ البشرية جمعاء في كل زمان ومكان، وتمثّل رسالة تنبضُ بالحياة، تُحيي القلوب والضمائر، وترسّخ مباديء العدل والرحمة والمساواة، وتُلغي كل تفاضُلٍ زائف بين البشر قائمٌ على العِرق أو المال أو اللون أو الجِنس، وتمنحُ البصيرة في زمن الفتن.
وأوضح الشيخ عبدالباريء الثبيتي في خطبة الجمعة من المسجد النبوي اليوم، أن سيرة نبينا محمد – صلى الله عليه وسلم – تُمثّل رحلة مفعمة بالدروس من المهد إلى اللّحد، من خلوته في غار حِراء حيث بدأ الوحي، إلى مِنبر المدينة حيث أُعلنت الرسالة، من يُتمٍ وابتلاءٍ إلى ريادةٍ وتمكين، من أول نداءٍ بالعلم: “اقرأ” إلى آخر وصية خالدة،”الصلاة الصلاة، وما ملكت أيمانُكُم”.
ويسرد إمام المسجد النبوي السيرة العظيمة لنبي الرحمة والهدى – صلى الله عليه وسلم – مبينًا أنه وُلِد يتيمًا، لكن اليُتم ليس ضعفًا، وإن بدا في ظاهره حرمانًا، فهو حافزٌ للنبوغ، ودافعٌ للتوكُّل على الله أولًا، ثم الاعتماد على النفس بثقة وثبات، فحطن يلتقي اليُتم بالإرادة، يتحوّل إلى شعلة تضيء الطريق، وهذا ما تجلّى في سيرة النبي الكريم – صلى الله عليه وسلم -، وسِيَر العُظماء قبله وبعده، فكم من يتيم خطّ اسمه في سجلّ الخالدين، وارتقى بالإيمان، وتسلّح بالعلم، وسما بالعمل، حتى أصبح من روّاد النهضة، وصُنّاع الحضارة،
وبين أن النبي – عليه الصلاة والسلام – تزوّج خديجة بنت خويلد – رضي الله عنها-، فكان زواجًا أُسّس على حبٍّ صادقٍ، ووفاءٍ ثابت، ومودة ورحمة، وشراكة صادقة، وأي بيت تُبنى دعائمه على هذه القيم النبيلة، لا تهزّه العواصف، ولاتفته الخلافات، ولا ينهار أمام أتفه الأسباب.
وأضاف: وفي سن الأربعين، وبينما كان النبي يختلي بنفسه في غار حراء، متأملًا في ملكوت الله، نزل عليه جبريل عليه السلام، يحملُ أعظم نداءٍ سَمعتهُ البشرية: “اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ” نداءٌ لم يكن مجرد أمرٍ بالقراءة، بل إعلانٌ لميلادِ أمة، شعارها القراءة باسم الله، ومنهجُها العلم، وحِصنُها الإيمان، فبدأت الرسالة الخالدة بـ “اقرأ” لِتؤسّس إنسانًا يعي، وعقلًا يُفكّر، وقلبًا يؤمن، وأمة تنهضُ على نورٍ من الوحي.
وتابع فضيلته بقوله، عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى بيته، وقد ارتجف جسدُه من هول أول لقاء بالوحي، فلم يجِد مأوىً أحنُّ ولا أصدقَ من حضن خديجة – رضي الله عنها-، فاحتوته بسكينة المرأة الحكيمة، وثبات القلبِ المُحبّ، وقالت كلمتها الخالدة التي سكنت قلبه، وبدّدت خوفه: “كلا، أبشر، فوالله لا يُخزيك الله أبدًا، إنك لتصِلُ الرّحِم، وتصدُقُ في الحديث، وتحمل الكلَّ، وتُقريء الضيف، وتُعين على نوائب الحقّ”، وبناء على ذلك لن يُخزي الله أبدًا، من سار على هدي نبيّه، فجعل الإحسان طريقه، والرحمة خُلُقه، والنبوّة قدوته.
وأضاف الشيخ عبدالباريء الثبيتي أن المنهج النبوي في الدعوة كان مؤسسًا على التوجيه الإلهي: “ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ” فانطلقت دعوته بكلمة طيبة تلامسُ القلوب، وصبرٌ جميلٌ يغلبُ الصُّدود، يردُّ على الجهل بالحِلم، ويقابل القسوة بالرفق، كانت دعوة النبي – صلى الله عليه وسلم- رحمة تسري، لا سطوة تُفرض؛ قال تعالى: “وَمَآ أَرْسَلْنَٰكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَٰلَمِينَ”، رحمة بالحائر، ورفقٌ بالجافي، وحِلمٌ على من أساء، حتى في أشدّ المواقف، لم يُقابل الجهل بجهلٍ، ولا الغِلظة بغِلظة، بل قاد القلوب إلى الله باللين، وفتح المغاليق بالمحبة.
وذكر أن زمننا هذا كثُرت فيه الأصوات، وارتفع فيه الجدل، وقلّ فيه الأسلوبُ الحكيم، ونحن في أمسّ الحاجة للعودة إلى ذلك المنهج النبوي الراشد، منهجٌ يُخاطب العقول بالحكمة، والقلوب بالرحمة، ويدعو إلى الله برفقٍ يُحيي، لا بغلظةٍ تُنفّر.
وبيّن إمام وخطيب المسجد النبوي أنه إذا تحدثنا عن خُلُق النبي محمد – صلى الله عليه وسلم -، فلن توفيه الكلمات قدره؛ فهو خُلُق تجسّد، ورحمة تمشي، فكان الصفحُ عنده سجيّة، والكرم عادة، والتواضع طريقًا، وكان يعفو عمن ظلمه، ويصلُ من قطعه، ويُُكرم من أساء إليه، يُواسي الحزين، ويمسح على رأس اليتيم، ويَرحمُ الصغير، ويوقِّر الكبير، لا يُفرّق بين غنيٍ وفقير، يجلس بين أصحابه، يُصغي إليهم ويؤانسهم، كأنه واحدٌ منهم، ومع ذلك كانت له هيبة تملأ النفوس، ومحبةٌ تأسر القلوب.
وتابع قائلًا، كان عليه الصلاة والسلام قائدًا يُربّي الرجال على الإيمان والصِدق، وحاكمًا يُدير دُفة أمة، ويُقيم أركان حضارة، وزوجًا حنونًا يرعى شؤون بيتِه بمحبة ومسؤولية، وعبدًا شكورًا يقوم بين يدي ربه في جوفِ الليل حتى تتفطّر قدماه، ومُصلحًا حكيمًا يُداوي عِلل المجتمع بالرحمة والعقل والبصيرة، وفي كل جانب من هذه الجوانب، كان النبي – صلى الله عليه وسلم – نموذجًا فريدًا، ومُعلمًا للقدوة والاقتداء.
وذكر أنه في حجته الأخيرة، وقف النبي – صلى الله عليه وسلم – على صعيد عرفات، تُحيطُ به أمواج من القلوب المؤمنة، أكثر من مئة ألف نفسٍ، تُنصت بخشوعٍ، لِتشهد أعظم بيانٍ عرفه التاريخ.
وأورد الشيخ الدكتور عبدالباريء الثبيتي ما تضمنته خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع، مبينًا أنه رسم فيها للأمة خارطة الطريق، وحدّد فيها معالم البقاء وعوامل العزّ، وأعلن فيها المساوا ة بين البشر، وأبطل كل تفاضُلٍ زائفٍ قائمٌ على النَسَب أو المال أو اللون أو الجنس، وغَرَس في القلوب ميزانًا ربانيًا واحدًا هو التقوى، ثم أوصى بالنساء خيرًا، وحذّر من الظُلم، وذكّر بحرمة الدماء والأعراض، وأرسى مبادئ العدل والرحمة، وختم عليه الصلاة والسلام خطبته العظيمة، بوصيةٍ خالدة، هي حبل النجاة، ودستورُ الفلاح في الدنيا والآخرة، فقال: ” تركتُ فيكم أمرين؛ لن تضلّوا ما إن تمسّكتم بهما: كتابُ الله، وسُنّتي”.
وأضاف أنه بعد أن بلّغ النبي -صلى الله عليه وسلم- الرسالة، وأدى الأمانة، وربّى أمة، وأقام حضارةً، اشتد عليه المرض في أيامه الأخيرة، لكنه لم يغفل عن أمته، بل كانت آخر وصاياه: “الصَّلاة الصَّلاة وما ملكت أيمانكم”، لعِظمِ شأنها، وجلالة قدرها.
وختم إمام وخطيب المسجد النبوي خطبة الجمعة مُذكرًا بوفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- إذ خرج إلى الناس في لحظاته الأخيرة، يتأمّلهم بعين المحبة، وكأن قلبهُ يطوفُ بهم مودّعًا، ثم عاد إلى بيته، وأسلم روحه الطاهرة في حِجر عائشة – رضي الله عنها، وارتجّت المدينة، لكن نوره لم ينطفئ، وسُنتهُ لم تَغِبْ، بل بقيت حية في قلوب المؤمنين راسخة في حياة الأمة، فمات الجسدُ، لكن بقي الأثر، وبقيت الأمانة في أعناق هذه الأمة، ليسيروا على هديه، ويحيوا سُنّته، ويُبلّغوا رسالته للعالمين، فمن أحبّ النبي حقًا، فليقتفِ أثره، وليُحيي سُنته في نفسه وأهله ومجتمعه، فالمحبة الصادقة ليست ادعاء باللسان، بل اتباع بالأفعال.