نحو مصالحة بيئية مع المتوسط
تاريخ النشر: 28th, September 2023 GMT
د. عزالدين عناية
ها هي مدينة درنة الليبية تذكّرنا بهوية المتوّسط الحقيقية، البحيرة الهادئة التي يتحلّق حولها أقوام وشعوب، سرعان ما تتحوّل في غفلة من البشر إلى مصدر لألم هائل. فقد اعتاد المتوسّطيون عوائد المتوسط، إلى حدّ تطبّعهم بطباعه. فإن يكن رزقهم وأملهم، فَلاحهم ونماؤهم، على صلة وثيقة بالبحر، فإن هذا المجال المشرع على العجيب والغريب، هو أيضاً ميدانٌ حافل بمآسٍ ونزاعات دائمة.
لقد اعتاد المتوسطيون اللجوء إلى البحر في أفراحهم وأتراحهم، بما يشبه المناجاة التي يعيشها الإنسان الضعيف المتوسّل. فالبحر لدى كثيرين هو الملجأ الأقصى للروح والجسد حين تضيق السبل.
وما يلوح جلياً في عصرنا، مما يجري في المتوسط وعلى ضفافه، أن الإنسان الحداثي لم يتعلّم ما يكفي في مدرسة الطبيعة. استبدّ به شَرَه الاستنزاف والاستغلال لموئل يحتضنه ويمدّه بأسباب الحياة. هكذا تبدو مآسي الطبيعة التي يعيشها المتوسطي، بعدما فقد صلته الرحيمة مع أراضٍ وبحار وصحارى وغابات. لذا تبدو البيئة المتوسطية بعناصرها المتنوعة وكأنها تشكو يأساً. وها هي الطبيعة تثور وتنتفض، بشكل غير مألوف، من خلال أعاصير وفيضانات وزلازل وحرائق، غاضبة أشد الغضب. مياه منهمرة، وسيول جارفة، ورياح عاتية، تبدو وكأنها جميعاً متواطئة مع بحر يعرف الناجون أنه مقبرة مروّعة منذ القدم.
ارتبكت العلاقة جراء عنف اقترفته أيادي البشر. إنسان مستنزِف، مع طبيعة صامتة وبيئة تئنّ تحت وطأة التلوث والاحتباس الحراري والإمعان في اللامبالاة. أضحى العنف المتبادل بين الطرفين لغةَ التحاور بين الإنسان وبيئته. وساد الإجحاف عبر تطرف في استغلال الموارد، ودون مراعاة الكائنات المعمّرة أرض المتوسط وبحره. فقابلت هذا الوضع ردود عنيفة من الطبيعة بأشكال وأنواع مختلفة. لقد فقد الإنسان المتوسطي لغة التخاطب مع البرّ والبحر، فكانت النتيجة ماثلة أمامه.
حواضن حية
يضعنا تأزم علاقة البشر مع محيطهم أمام ضرورة إقامة صُلح عاجل ومستوجَب للإنسان مع محيطه، يعيد من خلاله بناء أسس التعايش مع البيئة من جديد. فلا البحر مصبّ للفضلات، ولا البرّ مكبّ للنفايات، ولا الجو مصرف تصرف فيه الغازات، بل هي حواضن حية ينبغي التعامل معها بلين ورفق.
لقد احتوت الطبيعة مجاري أطلقنا عليها، في مسمياتنا، أودية وأنهاراً، لم نقبل بها، وحولناها إلى مواطن للسكنى والزراعة والصناعة، كأنّ الأرض ضاقت بما رحبت. وأصررنا على تحويل تلك القنوات إلى مواضع حكراً علينا، وتغافلنا عن أن الوديان هي شرايين البسيطة. تناسينا منطق الطبيعة وخياراتها الحرة. أمعنّا في تحدي التوازن الطبيعي بالتزاحم على البناء على أطراف الوديان وجنباتها، أو بردمها وتسويتها أيضاً، زهواً بقدراتنا، حتى جاء الطوفان والإعصار في درنة الضحية ليذكّرنا ويذكّر العالم أن للطبيعة حقوقاً ينبغي مراعاتها ونواميس ينبغي إجلالها، وأن الوديان هي شرايين البسيطة التي ينبغي تسريحها وضمان سيلانها، لا سدّها وتحويرها. على تلك الشاكلة وأسوأ ساد التعامل مع الجبال والوهاد والصحارى في العديد من الأصقاع المجاورة للمتوسط، فكانت النتيجة دماراً مباغتاً.
لقد باتت الشواطئ المغلقة، على ضفاف المتوسط، في شماله وجنوبه، العنوان الأبرز لأزمة هذه البحيرة العريقة. وهي نُذر صارخة، تقلّصت الغابات المجاورة للمتوسط بشكل واضح، واستُبدلت بأراض جرداء قاحلة. لم يجر الأمر على مدى قرون، بل صارت العقود القليلة شاهدة على هذه التحولات وهذه الاختلالات. ولم نأبه إلى أنّ علاقة الإنسان بالطبيعة هي علاقة أمّ بِبنيها. حوّلنا العيش في بيئة سليمة إلى معركة ضارية للتجريب والتلويث، وها هي الطبيعة بغضبها الجارف ترمي بنا جميعاً، بآمالنا وأحلامنا، بحُسننا وقبحنا، في أتون الأزمة والمآسي.
مدن متوسطية كانت في مضى عرائس تختال بحسنها، ودرنة إحداها، تحولت في سويعات إلى خرائب ومآسٍ، نتيجة فقدان التواصل مع الطبيعة وغلبة منطق التسلط على البيئة. فقد أدمن الإنسان تدمير معاشه، وكأن البحر الذي يأكل من خيراته ويستنشق من عليل هوائه لا تربطه به رابطة سوى الاستنزاف. هكذا أضحت ثقافة اللامبالاة هي الطاغية في التعامل مع حوض يطلّ عليه الجميع. استفقنا على هول قادم، جارفاً من البر ودافعاً إلى البحر، في غضب لم نعهده، تحالفت فيه عناصر الطبيعة على دحرنا. وكأن العنف المصدَّر إلى البر والبحر، عبر التلوث والاستنزاف المقتَرفين بأيادي البشر، هو المآل المحتوم لفعل مسبَق ارتدّ إلينا بقوة غاشمة فاقت أوهامنا.
المصدر: صحيفة الاتحاد
إقرأ أيضاً:
القط "بيبر" يساعد في اكتشاف فيروس جديد
عاد القط الأليف الذي تصدر عناوين الصحف العام الماضي لدوره في اكتشاف أول فيروس جيلونغ في الولايات المتحدة، من جديد. وهذه المرة، ساهمت براعته في الصيد في تحديد سلالة جديدة من فيروس أورثوروفيروس.
قام جون ليدنيكي، مالك بيبر وعالم الفيروسات في كلية الصحة العامة والمهن الصحية بجامعة فلوريدا، بأخذ صيد بيبر - وهو حيوان زبابة قصير الذيل من نوع إيفرجليدز ميت - إلى المختبر للاختبار كجزء من عمله المستمر لفهم انتقال فيروس جدري الغزال، بحسب موقع UF Health - University of Florida Health.
كشفت الاختبارات أن الذبابة مصابة بسلالة غير معروفة سابقًا من فيروس أورثوفيروس. من المعروف أن فيروسات هذا الجنس تصيب البشر، والغزلان ذات الذيل الأبيض، والخفافيش، وغيرها من الثدييات. وبينما لم تُفهم آثار فيروسات أورثوفيروس على البشر جيدًا بعد، فقد وردت تقارير نادرة عن ارتباط الفيروس بحالات التهاب الدماغ، والتهاب السحايا، والتهاب المعدة والأمعاء لدى الأطفال.
وقال ليدنيكي، أستاذ الأبحاث في قسم الصحة البيئية والعالمية في برنامج الصحة العامة والصحة العامة وعضو معهد مسببات الأمراض الناشئة في جامعة فلوريدا : "الخلاصة هي أننا بحاجة إلى الاهتمام بالفيروسات الأورثوذكسية، ومعرفة كيفية اكتشافها بسرعة".
نشر فريق جامعة فلوريدا تسلسلات الترميز الجينومي الكاملة للفيروس الذي أطلقوا عليه اسم "سلالة UF-1 من فيروس الزبابة الثديي في جينزفيل" في مجلة Microbiology Resource Announcements.
قالت إميلي دي رويتر، الباحثة الرئيسية في الدراسة، والمرشحة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة فلوريدا في مجلة ون هيلث : "هناك العديد من أنواع فيروسات أورثوريو الثديية المختلفة، ولا تتوفر معلومات كافية عن هذا الفيروس المُكتشف حديثًا تدعو للقلق". وأضافت: "كانت فيروسات أورثوريو الثديية تُعتبر في الأصل فيروسات "يتيمة"، موجودة في الثدييات، بما في ذلك البشر، ولكنها لا ترتبط بالأمراض. ومؤخرًا، رُبطت بأمراض الجهاز التنفسي والجهاز العصبي المركزي والجهاز الهضمي".
يأتي اكتشاف مختبر ليدنيكي لفيروسي جيلونغ وأورثوريوفيروس في أعقاب نشر الفريق اكتشافه لفيروسين جديدين آخرين وُجدا في غزال أبيض الذيل المُربّى في المزارع. وصرح ليدنيكي بأنه بالنظر إلى ميل الفيروسات للتطور المستمر، إلى جانب التقنيات المختبرية المتطورة التي يستخدمها الفريق، فإن اكتشاف فيروسات جديدة ليس مفاجئًا تمامًا.
قال ليدنيكي: "أنا لست أول من يقول هذا، ولكن في الأساس، إذا نظرت، فستجد، وهذا هو السبب في أننا نستمر في العثور على كل هذه الفيروسات الجديدة". وأضاف أنه مثل فيروس الإنفلونزا، يمكن لنوعين مختلفين من الفيروس المسبب للمرض أن يصيبا خلية مضيفة، ما يتسبب في اختلاط جينات الفيروسات ومطابقتها، ما يؤدي في الأساس إلى إنشاء فيروس جديد تمامًا.
في عام 2019، عزل ليدنيكي وزملاؤه أول فيروس أورثوروفيروس موجود في غزال. كانت جينات هذه السلالة متطابقة تقريبًا مع فيروس أورثوروفيروس موجود في المنك المُستزرع في الصين وأسد مُصاب بمرض مُميت في اليابان. تساءل المجتمع العلمي كيف يُمكن أن يظهر الفيروس الهجين نفسه في غزال مُستزرع في فلوريدا ونوعين من آكلات اللحوم حول العالم؟ تكهن بعض الخبراء بأن مكونات علف هذه الحيوانات قد تكون من نفس المُصنِّع.
وقال دي رويتر وليدنيكي إنه مع وجود العديد من الأسئلة التي لم تتم الإجابة عليها حول الفيروسات الأورثورية وطرق انتقالها، وانتشارها بين المضيفين من البشر والحيوانات، ومدى قدرتها على التسبب في المرض لنا، هناك حاجة إلى إجراء المزيد من الأبحاث.
وتشمل الخطوات التالية دراسات علم الأمصال وعلم المناعة لفهم التهديد الذي قد يشكله فيروس الزبابة الثديي من النوع 3 UF-1 على البشر والحياة البرية والحيوانات الأليفة.
للقراء المهتمين بصحة بيبر، كونوا مطمئنين. لم تظهر عليه أي علامات مرض خلال مغامراته الخارجية، ومن المرجح أن يواصل المساهمة في الاكتشافات العلمية من خلال جمع العينات.
وقال ليدنيكي: "كانت هذه دراسةً انتهازية. إذا صادفتَ حيوانًا ميتًا، فلماذا لا تُجرّبه بدلًا من دفنه؟ هناك الكثير من المعلومات التي يُمكن الحصول عليها".
فيروس جديدالقط بيبرفيروس أورثوروفيروس