التحول الديمقراطي في السودان والمفكر التقليدي المتأخر قرن من الزمن
تاريخ النشر: 30th, September 2023 GMT
في هذا المقال أريد أن أنبه الى أن التحول الهائل في المفاهيم في المجتمع الحديث يحتاج لدقة عالية في مراقبته بل التنبؤ به كما نجده في جهود علماء الاجتماع و الاقتصاديين و كيف يمكن طرح الأفكار التي تحتاج لعقود من الزمن حتى تتضح ملامحها مثلا منذ عام 1922 بعد نشر أفكار ماكس فيبر و كيف إنتقد ماركسية ماركس إحتاجت لزمن طويل جدا حتى تتضح الرؤية و ينضج الهدف و ينهار جدار برلين عام 1989 و يصادف إحتفالية مرور قرنيين من الزمن على الثورة الفرنسية و ما أنتجته من أفكار تتعلق بقيم الجمهورية و مواثيق حقوق الانسان التي عجزت عن تحقيقها المجتمعات التقليدية.
في نفس الوقت نجد في أفكار ماكس فيبر حديثه عن زوال سحر العالم و نهاية الايمان التقليدي و إنتهاء فكرة الدولة الإرادة الألهية و لو تتبعنا هذه الفكرة نجدها لم تظهر بشكل جلي إلا في فكر عالم الاجتماع الفرنسي مارسيل غوشيه في حديثه عن بداية الثورة الخفية عام 1970 و فيها يؤكد بأن آخر أشعة الفكر الديني قد أفلت و الى الأبد.
ما يجب قوله هنا أنظر جيدا أيها القارئ قرن من الزمن يمر على أفكار ماكس فيبر و فيها يؤكد على أن الماركسية الى زوال و قد حدث و أن الفكر الديني الذي يتحدث عن دولة الإرادة الإلهية الى زوال و قد كان و لكن أنظر كيف تجاهلت النخب السودانية أو قول كيف فات عليها التحول الهائل في المفاهيم؟ و ها هو قرن من الزمن يمر و ما زالت النخب السودانية محبوسة في أيديولوجية متحجرة متمثلة في النسخة الشيوعية السودانية و أخرى كاسدة في أحزاب اللجؤ الى الغيب أي أتباع المرشد و الامام و الختم.
ماكس فيبر عندما تحدث عن نهاية زمن الايمان التقليدي و أن النزعة الانسانية قد أصبحت ثمارها يانعة في مجد العقلانية و إبداع العقل البشري يعني ذلك أن ظاهرة المجتمع البشري من نتائجها الدين و في حقبة في تاريخ الانسانية كان الدين منظم و آمر للمجتمع من خارجه الى لحظة نضوج تجربة الانسان و أصبح العقل البشري قادر على تنظيم نفسه دون حوجة الى الأوامر من خارجه كما في مجتمعات أتباع الايمان التقليدي كما هو حاصل في السودان الآن و بالتالي يسهل الطريق نحو عقلنة الفكر و علمنة المجتمع.
و هذا ما أوكده عالم الاجتماع العراقي علي الوردي عندما دعى لليبرالية و أنها ملائمة لمجتمع تقليدي هش التركيبات و الهياكل الاجتماعية لكي تخرجه من تخلفه الاجتماعي و الاقتصادي و حينها قال إصرار حملة الخطاب الديني على خطابهم الداعي للدولة الإرادة الإلهية كخطاب الترابي التقليدي ما هو إلا توضيح لفكر ينتج من كهنة لا علاقة لهم بعلامنا الحديث و كذلك إنتقد علي الوردي نخب العالم العربي و ما يعانونه من التناشز الاجتماعي و إزدواج الشخصية و حينها قد هاجمه أتباع الشيوعية التقليدية التي لا تعرف سبيل لفهم نمط الانتاج الرأسمالي و القوميين و الاسلاميين.
علي الوردي كان يقول إذا فوّت العالم العربي و الاسلامي تبني الفكر الليبرالي سيحتاج لزمن طويل حتى تأتي الفرصة من جديد و قد كان. ضربنا مثل علي الوردي لأنه عندما قدم أطروحته للدكتوراه في أمريكا 1950 كان علي الوردي متسلح بعلم الاجتماع و كانت خلفيته كاقتصادي قد ساهمت و رفعت من قدرته على التنبؤ بمستقبل العالم العربي و الاسلامي التقليدي المحفوف بالمخاطر إذا لم يقتنع بالفكر الليبرالي بشقيه السياسي و الاقتصادي.
الصدفة وحدها جعلت زمن علي الوردي و تحضيره في علم الاجتماع في امريكا تتزامن مع زمن الدكتور عبد الله الطيب و عودته من بريطانيا لكن الفرق هائل بين عبد الله الطيب الذي يقول لطه حسين عميد الأدب العربي بأنه يريد أن يكون بجانب التراث و الدين و الأمة بعد أن فشل طه حسين أن يجعل من عبد الله الطيب طه حسين السودان.
و عبد الله الطيب مثال يوضح لك تقليدية المثقف السوداني في هجومه غير المبرر على علماء الاجتماع و الانثروبولوجيين و محاولته اليائسة في إرجاع الأبهة لرجال الدين في كتابه المرشد الى فهم أشعار العرب و صناعتها في الجزء الأول و الثاني و يمكنك أن تأخذه كمؤشر على تأخّر النخب السودانية و تقليدية فكرها أي تقليدية فكر عبد الله الطيب مقابل محاولات طه حسين في الخروج من أفكار المجتمعات التقليدية و طه حسين و نجيب محفوظ من المتأثريين بأفكار احمد لطفي السيد و أفكاره الليبرالية.
و كذلك نجد تقليدية المفكر السوداني قد تكررت مرة أخرى في تقليدية أفكار الترابي مقارنة بأفكار الحداثة و النزعة الانسانية في فكر محمد أركون الذي ينتقد كتاب الترابي و يصفه بأنه كتاب يقدم فكر تقليدي في وقت تفرغ فيه المحبوب عبد السلام للترويج لكتب الترابي التي وصفها محمد أركون بأنها تقليدية و هنا يتضح لك أيها القارئ تأخر النخب السودانية بسبب نومها العميق و سباتها الدوغمائي و هو نوم دوغمائ يفصلنا بمقدار قرن كامل مما وصل له وعي النخب في العالم المتقدم.
قد يقول قائل أن الفكر الليبرالي هو تاريخ يخص أوروبا في تطورها لتاريخها الخاص بها و لا يمكن أن يتحقق في مجتمعنا السوداني و هذا قول لا يتوافق مع فكر نظريات النمو الاقتصادي التي ترى بأن المجتمعات التقليدية مسألتها مسالة وقت لا غير و سوف تمر بما حققه تاريخ أوروبا لأنه يختصر تاريخ البشرية و نفس هذه الفكرة نجدها في فكر محمد أركون الذي يقول أن العالم العربي و الاسلامي التقليدي سوف يحقق ما حققته أفكار عقل الأنوار في أوروبا يوم ينتبه لقطيعته مع نزعته الانسانية و قطيعته مع الحداثة.
هنا ينفضح فكر الدكتور عبد الله الطيب الذي يقف بجانب الدين و التراث و الأمة و فكر الترابي و أتباعه و فكر الامام و الختم كفكر تقليدي بل تمتد الفضيحة لتشمل منتجي فكر التوفيق الكاذب في ترقيعهم و عجزهم عن تجاوز و تخطي الخطاب الديني التقليدي المعطل للفكر في السودان و نقصد أصحاب فكرة المساومة التاريخية بين يسار سوداني رث و يمين غارق في وحل الفكر الديني و فكرة المؤالفة بين العلمانية و الدين و فكرة مهادنة الطائفية و النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية و فكرة لاهوت التحرير.
بسبب كساد فكرهم أفشلوا مسيرة التحول الديمقراطي في زمن حكومة حمدوك و ميوعته و تردده في طرح ما ينقذ ثورة ديسمبر و شعارها حرية سلام و عدالة. اذا كان هناك فكر ليبرالي متجذر في الساحة السودانية كما دعى له علي الوردي منذ عقود بعيدة أو كما حاوله أحمد لطفي السيد كليبرالي مصري و بسبب فكره الليبرالي رفض بأن يخدم دكتاتور كجمال عبد الناصر لما وقع أتباع قحت في خطيئة الشراكة مع العسكر و لما ورث ثورة ديسمبر أحزاب الطائفية لأن الفكر الليبرالي لا يجعل النخب يظهرون كالحمقاء كما فعل أتباع قحت و قبولهم بشراكة مع العسكر.
بالتالي فشلت حكومة حمدوك الإنتقالية و هنا نلوم حمدوك و نحمله الجزء الأكبر من المسؤولية لأنه كاقتصادي هو الأقرب لفهم الفكر الليبرالي إلا أنه في تأبيده لخنوع النخب السودانية نجده إنخدع بفكرة الشراكة مع العسكر بل ظل يمتدحها بشكل يجعلك تشك في فكره كاقتصادي أقرب للعقلانية من بقية النخب السودانية التقليدية. و هنا نقول من المفترض أن يرفض حمدوك الشراكة مع العسكر لو كان متسلح بعقلانية الاقتصاديين الليبراليين التي تحدث عنها ماكس فيبر و لكن حمدوك اقتصادي سوداني تقليدي يدخل في دائرة نقدنا للنخب التقليدية السودانية و تهاونهم في مسألة الفكر.
هذا سبب تخلفنا قرن كامل عن وعي نخب العالم. و نؤكد اذا كان حمدوك في وعي احمد لطفي السيد الرافض لخدمة جمال عبد الناصر و منعه و عيه و فكره الليبرالي من خدمة عسكري كجمال عبد الناصر لفكّر حمدوك ألف مرة و أقنع قحت بعدم الشراكة مع العسكر و يكون مؤسس للامة السودانية و هي تدخل على أعتاب الدولة الحديثة.
لأن قحت لم تأتي بحمدوك إلا لأنهم كانوا مقتنعيين بأنهم خاليي وفاض من فكر يخدم التحول الديمقراطي و هذا الجانب الذي لم ينتبه له حمدوك بأن مهمته كانت مهمة صعبة و لكن بميوعته قد ضحك عليه عسكري كوز كالبرهان و ضحك عليه مرتين حميدتي و جنجويده كأداة موت صنعها الكيزان بل نجد تهاون حمدوك عندما ترك مهمة المشروع الاقتصادي تحت مسؤولية حميدتي و ظهر يحلف في كتاب قرأن يزعم حميدتي انه يعود لجده و لم يبقى إلا أن يقول لحمدوك و ردد خلفي الخائن الله يخونه.
حينها ظهر حمدوك و كأنه قد غاب عقله بالكلية و هو خانع و أذكر حينها كتبت مقال و قلت فيه يا حمدوك انت و قحت تعتقدون أن ما تركته الإنقاذ و أتباع الحركة الاسلامية من ركام أنه دولة و العكس هو الصحيح أنت المطلوب منك عمل جبّار عبره نستطيع رؤية ملامح الدولة و لم يفعل شئ الى حين الإنقلاب البرهان و ظهر حمدوك كخايب يقول أنه حقنا للدماء على الناس أن ترضى بشراكة العسكر من جديد و ترضى بانقلاب البرهان. و من حينها قد تأكد لي أن الأحسن من بين النخب السودانية التقليدية الفاشلة ينطبق عليه المثل النصيح شارب صفيح.
أما أتباع النسخة المتكلسة من الشيوعية السودانية أحسنهم ما زال عالق في أفكار 1968 زمن ثورة الشباب التي وصفها ريموند أرون بأنها ثورة وعي زائف و أكثرهم وعي يردد أفكار ميشيل فوكو قبل رجوعه عن أفكار ما بعد الحداثة و هجومهم على عقل الأنوار و ما زال أكثرهم تعظيم لأفكار دريدا و كأنه لم يتراجع عن أفكاره بعد نقد لوك فيري لفكر ما بعد الحداثة و ما زال أكثر أتباع النسخة المتكلسة حديث عن سارتر و الشيوعية كأفق لا يمكن تجاوزه و كأنهم لم يسمعوا بهزيمة سارتر أمام ريموند أرون.
و كأنهم لم يسمعوا بأفيون المثقفين و بعده لم يعد غير المثقف التقليدي الذي يكثر الحديث عن سارتر و فرانز فانون و نجد من المدافعيين عن النسخة المتخشبة من الشيوعية السودانية يتحدثون عن ثورة في الثورة لريجيس دوبريه و ينسون كتابه الذي تخلى فيه عن ثورة في الثورة و هو مذكرات برجوازي صغير و كأن دوبريه لم يكن يقول أو يتحدث عن الشيوعية و بريق الأيديولوجيات الذي يعمي و كأن فرنسا ما زالت تحت تأثير الماركسي في وقت يعلم الكل أن فرنسا قد أصبحت توكفيلية.
بالتالي إنتصر توكفيل على ماركس في جميع أنحاء العالم إلا في السودان و بدوره إنتصر ريموند أرون على سارتر إلا في السودان و ما أكثر حديثهم عن سارتر و ما أوسع جهلهم بريموند أرون. من هنا نعيد و نكرر أن التحول الديمقراطي يحتاج لفكر ليبرالي و يكاد يكون غير مطروح وسط النخب السودانية لأن أغلبها تظن في أن الفكر الليبرالي فكر رميم و بدون الفكر الليبرالي يصعب تحقيق تحول ديمقراطي.
لذلك ندعو النخب السودانية الى دراسة الفكر الليبرالي في القرن الأخير على أقل تقدير و محاولة توطينه بشكل جاد وسط النخب السودانية المتأخرة عن الفكر الليبرالي بقرن من الزمن و حينها سوف يفسح ماركس و دوركهايم و أوجست كونت الطريق لماكس فيبر و سيغادر سارتر و فرانز فانون ساحة الفكر السودانية تاركا المجال لريموند أرون متحدث عن ديمقراطية توكفيل و الشرط الانساني و العقلانية.
و الشرط انساني لم يك غير السياسة التي تحتل المرتبة الأولى حيث يعقبها علم الاجتماع و هنا لا مجال لفكر الشيوعية الذي لا يؤمن بفكرة الدولة من الأساس معتقدا أن الدولة هي أداة في يد الطبقة المهيمنة لتقضي بها على الطبقات الفقيرة و هيهات.
لأن السياسة تجعلنا نستطيع توسيع مساحة الطبقة الوسطى حيث يقل الفقر الذي يعتقد الشيوعي السوداني التقليدي أنه قداحة الثورة و نهاية الرأسمالية و لهذا قلنا أن اليسار السوداني الرث ما زال عالق في زمن ثورة الشباب 1968 حيث كانت إلتباس فكرتها عن فكرة الدولة و ممارسة السلطة بمفهومها الحديث لهذا كان ريموند أرون ضد ثورة الشباب في فرنسا عام 1968.
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: التحول الدیمقراطی النخب السودانیة العالم العربی فی السودان علی الوردی طه حسین فی فکر ما زال
إقرأ أيضاً:
المثقف اللبيب الحسَّاس وفضيلة الفكر
الأحداث الكبرى -من حروب وكوارث- تولِّد في نفوس الناس مشاعر مضطربة والتباسات وغوامض وأخلاط من الأسئلة والشبهات.
وهنا تكون الحاجة ملحّة إلى أثمن ما نفتقده اليوم وهو المثقف اللبيب الحسَّاس الذي يبحث ويبيّن ويدقق ويعلل ويجادل ويبرهن، ويضع الأمور في مواضعها الصحيحة، يكشف عن المختلِف بين أشياء وأحوال ومفاهيم ومقامات وإمكانات وفرص تبدو للعوام واحدة متجانسة، أو عن المتفق بين أشياء تبدو للعوام مختلفة متنافرة.
هذا المثقف هو ذاته “الفيلسوف الجاد” الذي وصفه توماس هوبز في أحد كتبه بأنه شخص يسمح لعقله بالتحرك “في أعماق التصورات والتجارب بحيث يقوم بإدراك الأشياء المختلطة المضطربة ويفصل بينها ويعزلها ويميزها، ثم يختم كل واحدة منها باسمها الخاص، ويضعها في نظام محدد وترتيب معين”.
وهو الذي يعنيه الجاحظ حين قال: “إنما يَعرفُ العاقل فضل العاقل في مضايق الأمور، وساعة الجولة، والعجلة والحيرة، وظهور الفتنة، وموجان السفلة، واضطراب العلية، واختلاط الخاصة بالعامة”.
وقد تحدث الفارابي في معظم كتبه عن “الفضيلة الفكرية”، بوصفها المَلَكة التي بها يتمكّن الإنسان من استنباط الأنفع والأجمل لأممٍ أو لأمّةٍ أو لمدينةٍ، في ضوء ما يعرض لها من وقائع وتغيرات.
ينطلق الفارابي من وجهة نظر أرسطية تقول إن الإنسان يتشوّق إلى ضربين من العلم:
علم يُطلب للانتفاع به في سلامة الأبدان، وسلامة الحواس، وسلامة القدرة على تمييز ما يُفضي إلى تلك السلامة، وكذلك سلامة القوة التي تسعى إلى تحصيلها. وهذا هو “العلم العملي”، وتندرج تحته السياسة والأخلاق.
وعلم آخر يُطلب لذاته لا لشيءٍ آخر، وهو فضلٌ وزائدٌ على العلم النافع، ويُسمّى “العلم النظري”.
ثم ينتقل الفارابي إلى التمييز بين نوعين من المعقولات: “معقولات طبيعية” و”معقولات إرادية”.
المعقولات الطبيعية هي التي تُوجد عن الطبيعة، وتقترن بها الأعراض الملازمة لها.
أما المعقولات الإرادية، فهي التي توجد خارج النفس بفعل الإرادة، وتكون أحوالها وأعراضها مقترنة بالفعل الإرادي، لا بذاتها.
تنتمي حوادث التاريخ، من مدن ودولٍ وسنن وسياساتٍ وفضائل وأعمالٍ وحروبٍ وعلاقات، إلى المعقولات الإرادية، وهي معقولاتٌ تتبدّل أحوالها بتبدّل الزمان والمكان. ولهذا السبب، تستحيل إحاطتها بالعلوم النظرية؛ لأن هذه العلوم لا تعنى إلا بـ”المعقولات التي لا تتبدل أصلاً”.
وهكذا، فالعلم العملي موضوعه المعقولات الإرادية، والفضيلة الفكرية تابعةٌ له،
أما العلم النظري فموضوعه المعقولات الطبيعية التي لا تتغير.
يعرّف الفارابي الفضيلة الفكرية بأكثر من طريقة، سنكتفي منها بهذا النص من “فصول منتزعة”:
“الفضيلة الفكرية هي ما يَقْدِر بها الإنسان على جودة الاستنباط لما هو أنفع في غايةٍ فاضلةٍ مشتركةٍ للأمم أو لأمّة أو المدينة عند واردٍ مشترك.
ومنها ما يُستنبط لما يتبدل في مُددٍ قصار، وهذه تسمّى القدرة على أصناف التدبيرات الجزئية الزمنية عند ورود الأشياء التي ترد أولًا فأولًا على الأمم أو على أمّة أو على مدينة.
فأمّا القوة الفكرية التي يُستنبط بها ما هو أنفع في غايةٍ هي شرّ، فليست هي فضيلةً فكرية”، (فصول منتزعة، ص99).
وهنا تظهر الصلة بين الفضيلة الفكرية و”العقل العملي”، الذي يعرّفه الفارابي في موضعٍ آخر بأنه:
“قوةٌ بها يحصل للإنسان، عن كثرة تجارب الأمور وعن طول مشاهدة الأشياء المحسوسة، مقدماتٌ يمكنه بها الوقوف على ما ينبغي أن يُؤثَر أو يُجتنب، في شيءٍ شيءٍ من الأمور التي فِعلُها إلينا”.
وقد نقابل بين “الفضيلة الفكرية” كما صوّرها الفارابي، ومفهوم “الحسّ المشترك” كما ورد عند كانط، وهو يشير إلى القدرة على رؤية الأشياء لا من وجهة نظر المرء نفسه فقط، بل من منظور الآخرين، أي منظور المجال العمومي.
إن أسباب العَوَام من الناس -في الرضا والسخط- حسيِّة لا عقلية، جزئية لا كلية.
يُرضيهم ما يجعل حياتهم أسهل وأرقى وأقل كُلفة وأكثر أمناً، ويُسخطهم ما يسد عليهم منافذ وسُبل الحياة الكريمة الرخيّة، ويكلفهم العناء، ويجور عليهم بالأثقال.
لا يهتم الرجل العادي ما إن كان الحكم جمهوري أو ملكي، ديمقراطي أو استبدادي، ديني أو علماني،
لأنه لا يرى الأمور إلا من زواية تأثيرها المحسوس على حياته وحياة أمثاله من الناس،
فإن كان تأثيرها حسناً، فهي جديرة بالاستحسان، وإن كان مزعجاً ومكدِّراً، فهي جديرة بالذم والسخط.
بينما ينظر المثقف والمفكر ورجل السياسة (الخاصة، صفوة المجتمع)، إلى الحوادث الجزئية والأوضاع المتفرقة ويعلِّلها بالمفاهيم والمبادىء والأفكار الكلية، أو العكس.
يَجمع الأجزاء في كلٍّ موحَّد.
يصنع من الوقائع التفصيلية مقولة منطقية تفسيرية.
يُخبر الناس مثلاً أن فساد وقسوة أوضاعهم ناتجان عن فساد وقسوة مبدأ الحُكم. ثم يعطي المبدأ الفاسد اسماً، ويشجع على الالتفاف حول مبدأ أصلح وأرشد وأعدل منه.
في مقال يعلق فيه طه حسين على كتاب “خيانة المثقفين” للفرنسي جوليان بندا، نقرأ أن المثقف ليس مسئولاً عن عقله فحسب، بل هو مسئول عن نتائج هذا العقل وعن آثاره في معاصريه من جهة، وفي الأجيال المقبلة من جهة أخرى.
فالمثقف الممتاز، كما يقول طه حسين، هو أستاذ، “سواء أشغل منصب التعليم أو لم يشغله، ومن الحق على الأستاذ لتلاميذه أن يكون لهم مثلًا صالحًا وقدوةً حسنةً، وأن يعصم لهم نفسه من الضعف الذي يفسد رأيهم في العقل، ويشككهم فيه، ويدفعهم أن ينظروا إليه كما ينظرون إلى مصادر الإنتاج المختلفة، كالتجارة والزراعة والصناعة، على أنه شيء قابل للبيع والشراء والأخذ والعطاء، وعلى أنه يصلح موضوعًا للمساومة التي مهما تكن شريفةً نقيةً فإنها لا تليق بالحق ولا بالعقل الذي يلتمس الحق ويبحث عنه.
ثم هو آخر الأمر مسؤول عن نفسه؛ فقد ينبغي للرجل الكريم ألا يأتي من الأمر ما يستخذي منه أمام نفسه إذا خلا إليها، وألا يشارك فيما لا يطمئن ضميره الخالص إلى المشاركة فيه”.
إن اليمني المهزوم أمام الآفات التي أطاحت بكيانه الوطني، يعاني منذ سنوات من حالة مريعة من العمى العقلي والأخلاقي، من العجز عن النظر الصحيح في الأعمال والأقوال، والعجز عن الحكم عليها تصويباً أو تغليطاً، بالتحسين أو التقبيح، وعن تمييز النافع من الضار، النفع العام والضرر العام.
فوضى عارمة في القيم والمرجعيات والمبادىء.
وهذا ليس غريباً بالنظر إلى طبيعة المرحلة التاريخية التي يعيش فيها.
ذلك أن الحروب وانهيار الدول هي مناسبات عنيفة تعيد طرح ما هو أساسي وجوهري من أسئلة الوجود الأولى للبحث والتداول: ما الحياة وما الموت؟
ما العدل وما الجور؟ وما الخير وما الشر؟
أسئلة الصواب والخطأ، القوانين والأخلاق والأديان والدول والعادات والطبائع والموازين، الهوية والاختلاف، الواحد والمتعدد، الحرية والأمن، التاريخ والطبيعة، الفرد والجماعة، العقل والغريزة، أصل الأشياء وفصلها، البداية والمصير.
ويقف العقل اليمني، أمام طوفان الأسئلة هذا، عاجزاً عن تجميع الحقيقة المتشظية الجارحة المفسِّرة لألمه وانحطاط أحواله.
فالألم يسأل دوماً عن السبب، بينما تميل المتعة إلى الاكتفاء بذاتها، كما يقول نيتشه.