ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة
تاريخ النشر: 9th, October 2023 GMT
د. محمد بن عوض المشيخي **
سطّرت كتائب عز الدين القسام مُعجزة جديدة تُكتب بحروف من الذهب، وتضاف إلى سجل هذه الأمة في الجهاد في سبيل الله ونصرة المُستضعفين في الأرض من الشعب الفلسطيني الذي انفردت به العصابات الصهيونية المتعصبة منذ قيام هذا الكيان الغاصب على أرض فلسطين التاريخية بداية من "بن جوريون" عند إعلان ما يعرف بزرع دولة إسرائيل في قلب الوطن العربي، مرورًا بشمعون بيريز ووصولا إلى العصابة الإرهابية التي تحكم إسرائيل حاليًا والمتمثلة بالثلاثي (نتنياهو وبن جفير وسموتريش) الذين يهدفون علنًا وبدون حرج إلى إبادة الشعب الفلسيطني وازالته من الوجود على مرأى من العالم ومنظماته الدولية.
كانت ساعة الصفر فجر السبت الموافق 7 أكتوبر، بانطلاق "طوفان الأقصى" نحو العمق الإسرائيلي، متجاوزة بذلك الأسلاك الشائكة والقلاع الحصينة لجيش الاحتلال الإسرائيلي طوال خطوط التماس في قطاع غزة والتي لا تقل قوة ومتانة عن خط برليف الشهير الذي عبره الجيش المصري على الضفة الشرقية لقناة السويس قبل خمسين سنة وبالتحديد في 6 أكتوبر 1973. فقد تمكنت المقاومة الفلسطنية من اختراق تلك التحصينات من عشرين نقطة مستخدمة سيارات الدفع الرباعي والدرجات النارية، وكذلك السير على الاقدام واستخدام المظلات الحاملة للجنود والكوماندوز البحري الذين استهدفوا بنجاح قاعدة زكيم العسكرية في عسقلان، بينما سيطرت المقاومة في غلاف غزة بالكامل على 11 معسكرًا للجيش الذين كانوا في سبات طويل بقدرة الله، وكذلك اختراق بنجاح عشرين مستعمرة، فقد باغت هؤلاء الابطال الجميع داخل دولة الكيان، خاصة الأجهزة الأمنية والعسكرية والحكومة، واستطاعت كتائب القسام وسريا القدس، قتل اكثر من 700 إسرائيلي من بينهم أحد قادة ألوية جيش الاحتلال وأسرمائيات الجنود ومن بينهم قائد المتطقة الجنوبية.
وهكذا تمكنت حماس وقائدها العسكري محمد الضيف من إعادة للأمة شرفها، وغسل عار الهزائم المتكررة للجيوش العربية وحكوماتها مجتمعة والتي عجزت طوال الصراع العربي الإسرائيلي المتد لأكثر من 70 سنة عجاف؛ عن صناعة هذا النصر المبين الذي تحقق خلال ساعات قليلة والمتمثل في تركيع حكومة الصهاينة واذلال جنودها؛ فالمعارك لم تتوقف منذ يوم السبت، واختراق معسكرات الجيش الإسرائيلي مستمرة حتى كتابة هذه السطور في اليوم الثالث لهذه الملحمة الأسطورية التي سطرها المقاومون من مختلف سرايا الجهاد الفلسطنية وخاصة ذات التوجه الإسلامي. وقال تبارك وتعالى في هذا الموقف "وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ".
ولعل منظر الهروب الجماعي للمستطوطنين نحو تلاابيب، وكذلك استسلام ضباط وجنود جيش الاحتلال الذي يعرف بالجيش الذي لا يقهر بدون مقاومة أمام شاشات الهواتف الرقمية خير دليل على هذا الإنجاز الاستثنائي الذي ابهر العالم الحر، وشكل صدمة وزلزالا غير مسبوق ولا يصدقه الخيال بالنسبة لإسرائيل وحلفائها الغربيين.
يجب أن يدرك العرب من المحيط إلى الخليج أن "ما أُخذ بالقوة لا يُسترد إلّا بالقوة" فهذه العبارة التي قالها الزعيم الخالد جمال عبد النصر رمز القومية العربية تُعبِّر عن حقيقة صادقة تتجاهلها بعض الحكومات العربية التي تعتقد بأن حل قضية فلسطين وتحقيق السلام بين العرب وإسرائيل يمكن تحقيقه عن طريق ما يُعرف بالمحادثات والتطبيع مع الكيان الصهيوني، على الرغم من مرور عقود عديدة على اتفاقيات "أوسلو"، وقبل ذلك كامب ديفيد و"وادي عربة" والنتيجة ليس اكثر من وَهْمٍ؛ فإسرائيل لا تعرف إلا لغة القوة فقط، فلا يمكن أن يتحقق السلام العادل القائم على المبادرة العربية وإقامة الدولة الفلسطنية وعاصمتها القدس الشريف، إلّا بالخيار الإسلامي والذي تأكد للأمة الإسلامية قاطبة بأنه الطريق الوحيد نحو النصر، فحماس والجهاد الإسلامي هما الحاضرين بقوة؛ فالميدان للجهاد والشهادة من أجل الأقصى.
لقد تراجعت القومية العربية ودورها النضالي منذ احتلال الكويت؛ والتي ارتبطت عن قرب بهذا الصراع التاريخي، فمنذ 1994 تحوّل قادة منظمة التحرير الفلسطنية بمختلف فصائلها بما فيها "فتح" التي كانت أيقونة النضال الفلسطيني إلى أعضاء في حكومة مدنية محاصرة من إسرائيل في رام الله، فأصبحت مع مرور الأيام غير مُواكِبة ولا تنسجم مع مطالب الشعب الفلطسيني الذي ينضال من اجل الحرية فاتفاقية اسلو كانت قاتلة ومثبطة للشعب الفلسطيني.
لقد سارعت الولايات المتحدة بتحريك أساطيلها وخاصة حاملة الطائرات "فورد" نحو الشواطئ الاسرائيلية لمساندة حليفتها في هذه الهزيمة غير المسبوقة في تاريخ هذا الكيان، وكذلك وعد بايدن بتعويض إسرائيل عن خسائرها العسكرية والمالية نتيجة حرب التحرير والزحف نحو الأراضي المحتلة، بينما اكتفت معظم الحكومات العربية ببيانات هزيلة تساوي بين الجلاد والضحية؛ فالاستثناء هنا خليجيًا في موقف سلطنة عمان ودولتي قطر والكويت؛ إذ أوضحت هذه الدول أن سبب قيام المقاومة بهذه الاقتحامات هو تعنت حكومة ناتنياهو ورفضها تنفيذ القرارات الدولية المتعلقة بإقامة دولة فلطسين وعاصمتها القدس الشريف.
في الختام.. كل المؤشرات تدل على أن المقاومة الإسلامية في جنوب لبنان سوف تدخل المعركة من الجليل الأعلى شمال فلسطين، وذلك خلال الساعات القادمة لمناصرة غزة التي تتعرض للقصف والدمار الشامل منذ يوم السبت الماضي، وربما الاجتياح البري كما أكدت ذلك الحكومة الاسرائيلية.
** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري
رابط مختصرالمصدر: جريدة الرؤية العمانية
إقرأ أيضاً:
ما الذي يُمكن تعلّمه من أحداث السويداء؟
الأحداث التي وقعت مؤخرًا في السويداء بسوريا لم تكن استثناء من العالم العربي، بل مرآة له. وعلى الرغم من أن جذور هذه الأزمة الطائفية لم تبدأ في الأحداث الأخيرة؛ إلا أن صدامات يمكن وصفها بالطائفية وقعت في شهر أبريل في جرمانا، وأشرفية صحنايا، ثم امتدت للسويداء، وتصاعدت الأحداث بعد ذلك إلى ما شاهده الجميع على الشاشات، ولا يعنينا هنا تسلسل الأحداث ذاتها بقدر ما يعنينا أن الحالة والخطاب الطائفي الذي وقع في السويداء ليس نشازًا في المنطقة العربية -كما هو معلوم-، بل نمط مأزوم من التسلسل التاريخي ليس حتميًّا بالطبع، لكنه متكرر بشكل كبير جدًّا، لا سيما مع سقوط دولة أو استبدالها بأخرى، ومثال عليه ما حدث عقب الإطاحة بنظام صدام حسين من حروب وقتالات طائفية، ما يصفه ستيفن سيدمان أنه «إرث استعماري بريطاني».
يتضح لنا أن المجتمعات العربية -أو كثير منها على الأقل- لا تزال حتى اليوم عاجزة عن تجاوز الطائفية، وكثير منها يعيش في الماضي على الرغم من تفاقم المشكلات التي نعانيها في هذه المنطقة، وتزايدها يوما بعد يوم، إلا أن كثيرًا من مجتمعاتنا لا تزال تستدعي الطائفة بل وتعيش في تاريخها محاولة أن تدافع عنها في كثير من الأحيان على أنها الحق الأوحد، «وكلٌّ يدّعي وصلًا بليلى/ وليلى لا تقرّ لهم بذاكا»؛ إذ الجميع يحاول باسم الحق والعدل والتوحيد والغيرة والتدين وغيرها أن يدافع عن الطائفة التي ينتمي إليها ناسيًا بذلك أن يعيش في عصره، ويطرح تساؤلات حول الوضع الذي يعيش فيه، أو عملية الإبادة الجماعية والتجويع التي يتعرض لها إخوته.
تبدأ الطائفية من الذات؛ لأن الحالة الجماعية للعيش داخل «الحظيرة» لا تتم إلا بإقناع الذات أولا بالتماهي مع الجماعة وإلا فلا قيمة لها؛ ولذلك تكثر عند الطائفيين الخطابات والشعارات التي تستدعي الماضي ورموزه دون باقي السياقات وتعقيداتها. لذلك فالذات هي المركز الأول للطائفية، وكلما كان الأمر منطلقا من الداخل أصبح أكثر استدامة؛ فالإرهابي الذي ينطلق إرهابه من الداخل لاعتقاده أنه بذلك يخدم فكرته أو دينه أو وطنه وغيره يكون أكثر تحمُّسًا وإقداما من الآخر الانتهازي؛ ولذلك يستغل هذا الصنف الأول لينفذ العمليات الانغماسية والانتحارية مقتنعين بذلك سيرهم إلى الجنة، أو خطوة في تحقيق الجنة على الأرض من خلال قتل المدنيين والأبرياء. والطائفيون كذلك؛ فكلما كان هذا الذي ينطلق في طائفيته مقتنعا من الداخل بالصحة المطلقة لفكرته والخطأ المطلق لأفكار الآخرين -وليتها بقيت عند الاعتقاد الداخلي فقط!-؛ فإن خطابه يتسم بالتشدد أكثر.
وهكذا يصنع منطق الانغلاق المذهبي دون محاولة النظر إلى الصورة الأكبر التي يُمكن للجميع العيش فيها في وطن واحد يكفيهم جميعًا. هذه الخطابات تصنع هويات طائفية لا هويات وطنية أو إنسانية -بعد أكثر من ربع قرن على كتاب أمين معلوف-، وهي المسيطرة على العقل، وليس أدل على ذلك من الأحداث المتكررة والمستمرة التي نراها؛ فالمشكلة أعمق من الخطاب الطائفي وحده، أو من عدم القدرة على الـ «عيش مع الآخر، لكنها تتعدى ذلك لتكون مشكلة عدم القدرة على بناء دولة، وعدم القدرة على بناء مجتمع من الأساس، ثم تصدير هذه الخطابات للأجيال التالية، وهكذا في دوامة مستمرة منذ ما قبل الحرب الأهلية اللبنانية حتى ما بعد أحداث السويداء.
تعاني كثير من الدول العربية من غياب واضح للعقد الاجتماعي بين السلطة السياسية والمجتمع، وبالتالي؛ فإن الأمر يتطور من عدم الاستقرار السياسي والقانوني حتى يصبح الوطن وما يتعلق به من مفاهيم أو ألفاظ لا يشكّل ملاذًا آمنًا للأفراد، فيضطرون حينها للبحث عن ملاجئ مختلفة، وهنا تظهر الطائفة باعتبارها الملجأ والملاذ لأفرادها؛ لأنها تشكلهم في مجتمعات مغلقة -غيتوهات- الكلمة العليا فيها للقيادات الدينية أو العرقية، حتى يتماهى الفرد مع الجماعة في حماية المفهوم الوهمي أو الذهني المسمى بالطائفة. ولذلك؛ فغياب هذا العقد الاجتماعي الواضح الذي يُمكّن الدولة والمجتمع من معرفة حقوق كل طرف وواجباته يقود لمثل هذا، وفي كثير من الأحيان يقود إلى الطغيان الذي يحاول أن يفرض عقدًا بالإجبار لا بالتشارك والرضى.
إن عدم تجاوز الطائفية حتى اليوم في المجتمعات العربية يشكّل فشلًا ذريعًا للنخب، سواء النخب السياسية أو الثقافية أو غيرها؛ لأنها لم تستطع حتى اليوم إيجاد مشروع حقيقي ينهي هذه الماضوية والسكن في التاريخ، بل ربما زاد بعضهم من حدتها والقطبية التي تحدث من خلالها. ويجب أن تتحمل هذه النخب مسؤوليتها في الوصول بالوعي الذاتي إلى الواقع -إذ سؤال المستقبل حتى اليوم مبكر للأسف-؛ لأن الوعي يجب أن يكون حاضرًا في الواقع اليومي، لا في مشكلات من مضى، فـ«تلك أمة قد خلت» وما على أهل هذا العصر من مشكلات أولئك أو صراعاتهم أو غيرها، وفي أحسن الأحوال يمكن فقط أخذ العبرة منهم، ودراستهم لإصلاح الواقع المعاصر، لا العيش معهم حتى يصبح الفرد أو المجتمع في زمنين لا يصلح لأي منهما، فلا هو القادر على العودة بالزمن للماضي، ولا هو قادر على العيش مع أهل هذا العصر.
والمتتبع لجميع حالات الانقسام الطائفي في المنطقة يجد أنها استغلت من قِبل طرف خارجي لتنفيذ أجندته السياسية أو العسكرية. فالطائفية فرصة المتربص الخارجي الذي يستغلها ليطبق المقولة القديمة «فرّق تسد»، وكثيرًا ما استغلت الصراعات الطائفية وضخمت الخلافات التفصيلية العلمية التي كان ينبغي أن تناقش في أروقة العلم، ثم يغلق عليها الباب ولا تخرج للشارع، فجُعلت قضايا ذات أهمية كبرى ينهدم بها الدين أو المذهب أو الطائفة.
وقد استعملت هذه الطريقة القوى الاستعمارية لقرون، بل حاولت صنع خلافات جديدة لم تكن موجودة سواء طبقية أو فكرية أو غيرها، وبقيت جميع هذه الخلافات حتى اليوم، فانظر إلى مقولة سيدمان التي جاءت في بداية المقال «إرث استعماري بريطاني» تشَكّل وظهر واضحًا في ما بعد 2003، فقد كان يتراكم تحت التجربة التاريخية والسياسية، ولما تسنّت له الفرصة ظهر على شكل صراعات أهلية. وهكذا اليوم تستغل إسرائيل هذه الصراعات الطائفية لتتغلغل في الداخل العربي، ليس سرّا كما كان في السابق، بل أمام شاشات الإعلام والهواتف التي تُصوّر. فقد استغلت الصراع في السويداء لتضرب القصر الرئاسي في دمشق؛ إذ أعطت الصراعات الطائفية الدافع لإسرائيل من أجل الدخول، ولا أود أن أقول «الشرعية» بالطبع؛ فوجود إسرائيل بأكمله ليس شرعيًّا، لكن ما الشرعية في عالم الغابات الذي نعيش فيه اليوم؟
لا بد أن يبدأ الإصلاح المجتمعي في الوطن العربي من الذات الفردية أولًا أن ينشأ الفرد متصالحًا مع ذاته ومتقبّلا للآخر، فلا يشعر منه بالخوف، بل بالألفة، وأن ينظر إلى ما هو أبعد من طائفته أو مذهبه، وأن تكون هويته الأولى هي الهوية الوطنية أو المدنية التي يتشاركها مع غيره في إطار الدولة، لا هوية الطائفة والمذهب؛ لأن الهوية كلما ضاقت وأصبحت أكثر حدية أبرزت السمات المتطرفة والسلوكيات العنيفة في الإنسان على عكس إذا ما اتسعت؛ فإنها تتقبل الآخر المختلف ليس بالضرورة أن تؤمن بما يؤمن به، لكنها تؤمن بأن له الحق في الحياة بحرية أيضًا دون اعتداء عليه أو الإضرار به لمجرد مذهبه أو طائفته. ولذا فالتغيير يبدأ من مراجعة الذات والخطاب الموجّه إليها سواء من الداخل أو من الخارج، خطاب الأسرة والمدرسة والمجتمع، وأن تحاول الذات طرح أسئلة متعلقة بمدى تعددية الخطاب الموجه إليها في المقام الأول.
إذا بقينا على هذا الحال دون تجاوز الطائفية وخطاباتها المقيتة فإن كل حديث حول النهضة أو الديمقراطية أو الحرية هو ترف؛ فالمجتمع يقتل بعضه بعضا، لكن -ولأن الكتابة وسيلة مقاومة وإصلاح- أقول: إن علينا أن نعي أن عدونا واحد، وسبله في قتلنا واحدة، وأننا في مقتلة واحدة، ومصير واحد، فإن بقينا نقتل بعضنا بعضا لم نخدم إلا هذا العدو بأن أرحناه من عمله، فإن لم نستطع الآن في هذه اللحظة التي ربما لم ولن نمر بحالة أكثر انحطاطا منها أن نفكر في مصيرنا المشترك بدل التفكير في الانقسامات الصغيرة فمتى نقدر على ذلك؟