تم نشر هذه الدراسة في كتاب صدر عن مركز الدراسات السودانية بعنوان (خمسون عاما على ثورة أكتوبر السودانية) تحرير حيدر إبراهيم على وآخرون، الصادر في عام 2014. أعيد نشره بمناسبة ذكرى الثورة العظيمة، ولان أغلب القراء لم يطلعوا على الكتاب.

هزت ثورة أكتوبر الشعبية ساكن الحياة في السودان، وخلقت وعيا ديمقراطيا طاغيا ، جعل من الصعب على كافة القوى السياسية، تجاهل الرغبات الاكيدة لجماهير الشعب السوداني ، في التغيير السياسي والاجتماعي.

وأدت الثورة ايضا لتحجيم نفوذ قوى اجتماعية كانت تتمتع بالسلطة المطلقة والطاعة العمياء من قبل قطاعات جماهيرية كبيرة ومؤثرة. كما ان الثورة اعطت قوى اجتماعية صاعدة مزيدا من النفوذ وابرزت تأثيرها على الحياة السياسية و تزايد القبول الجماهيري لبرامجها البديلة وافقها الثوري. واحدى اهم تلك القوى الاجتماعية ، التي تصاعد نفوذها بعد انتصار الثورة ، هي الحركة العمالية السودانية. وسنحاول هنا مناقشة دورها في انتصار الثورة ، و تأثير انتصار ثورة اكتوبر على نفوذ الحركة العمالية ،ومناهجها في العمل ، وتحالفاتها وبرامجها واثر تلك التحولات عليها ، في المدى القصير والثمن الباهظ الذى دفعته في المدى المتوسط ، و افاق تطورها في المدى الطويل.
تنقسم الورقة الى اربعة اجزاء : اولها يناقش نشوء الحركة العمالية وثانيها يتعرض لوضع الحركة ما قبل انقلاب 17 نوفمبر 1958 ، وثالثها يعكس بعضا من المعارك والمواجهات ضد الحكومة العسكرية ، ونختتم الورقة بقراءة تدرس اثر ثورة اكتوبر على الحركة العمالية في المديين القصير والمتوسط وتحاول التنبؤ بمستقبل موقع الحركة العمالية في الحياة السياسية العامة و بمصيرها في المدى الطويل.

نشوء الحركة النقابية العمالية:
فجرت الحرب العالمية الثانية تحولات ذات طبيعة جذرية على نطاق العالم وداخل السودان. فعلى النطاق العالمي كان لدعاية الحلفاء ضد دول المحور ، ورفعهم لشعارات الديمقراطية وحقوق الشعوب ، اثرها الفعال وسط سكان المستعمرات، كما ان انتصارات الجيش السوفيتي ، في الحرب ، قد فتحت الاعين والعقول على نظام اجتماعي جديد ، واضاف تصاعد حركات التحرر الوطني في افريقيا واسيا زخما اضافيا حول ضرورة انهاء النظام الاستعماري. وادى تنكر الحلفاء ، بعد نهاية الحرب ، للوعود التي قدموها للمستعمرات لإحباط وغضب ومن ثم لاشتداد وتيرة نضال حركات التحرر الوطني.
تصاعدت الحركة الوطنية السودانية بقيادة مؤتمر الخريجين والذى شكلت مذكرته في 1942 خطوة متقدمة في نشاطه. كما تم تجنيد الاف السودانيين للحرب في صفوف الحلفاء ، فاحتكوا بجنود من شعوب ذات خبرات اقدم من السودان في مواجهة الاستعمار وتنظيم حركات التحرر، كما تأثر السودانيون بدعايات الحلفاء حول الديمقراطية ولكنهم اصيبوا بالإحباط بعد تنكر الحلفاء لكل ذلك واستمروا بنفس السياسات الاستعمارية القديمة. وهنا حدث التصادم بين الروح الجديدة المتشوقة للتغيير التي انعشتها دعايات الحرب والسياسات الاستعمارية المتسلطة والرافضة للتغيير في السودان.
وشهدت نفس السنوات انفتاح باب البعثات الدراسية الى مصر وتشجيع مؤتمر الخريجين لسفر الطلاب. فاحتك المبعوثون بالحركة الوطنية المصرية في نهوضها العارم ، بعد الحرب العالمية الثانية ، وعادوا للسودان بأفكار ورؤى و خبرات جديدة من ضمنها ضرورة واهمية التحالف في النضال الوطني بين الطلاب والعمال. فهرع اولئك الطلاب ، في اجازاتهم ، الى عطبرة ينشرون الوعى الجديد ، وكانت اضافة و مواصلة لجهود بعض رفاقهم من طلاب كلية غردون ودفع الحصار البحري على بريطانيا بالإدارة الاستعمارية في السودان لإنشاء ورش، لإصلاح الات الحرب والمواصلات ومصانع جديدة لإنتاج المواد التي تحتاجها الجيوش المحاربة في شمال افريقيا والشرق الاوسط. ونتج عن ذلك تدريب العمال السودانيين على استخدام الآلات الجديدة مما ادى الى ارتفاع مستوى تدريبهم الفني والى ازدياد اعدادهم ، فتوسعت القاعدة النوعية و الاجتماعية والمعرفية للطبقة العاملة. وساهمت الأجيال الجديدة من خريجي مدرسة الصنائع في نشر الوعى النقابي. وكانت مجلة العامل السوداني منبرا لحواراتهم وحاملة للرسالة النقابية الجديدة لجماهير العمال. فارتفعت وتيرة المطالبة بإنشاء جسد نقابي يدافع عن العمال في ظل الاوضاع الاقتصادية والمعيشية المتدهورة .
تصاعدت وتوسعت الدعوة ، لإنشاء جسد نقابي لعمال السكة الحديد ، وبدأت الاجتماعات تنعقد وتتواتر ، واللجان التمهيدية تكون مما ادى لنشوء موجة جديدة وقوية من الحوار، والنشاط وسط جماهير العمال. وتفيد مذكرات بعض القادة انهم عقدوا عدة اجتماعات ، ودرسوا تجارب الماضي، واسباب فشلها وتداولوا كثيرا حول افضل السبل لقيام نقابتهم، وقرروا اخيرا تكوين لجنة تمثلهم وتقود المطالبة بحقهم في التنظيم النقابي . بعد تكوين اللجنة التمهيدية الممثلة لكل الاقسام ، تم اعداد مذكرة ، سلمت للسلطات ، تحوى مطلبهم بإنشاء جسد نقابي.
كانت السلطات الاستعمارية تراقب تطور النشاط العمالي ، وقررت التحرك لتطويقه واستيعابه في اطر لا تشكل خطرا. ووضعت خطة لقيام ما سمى باللجان المصلحية تحت اشراف رؤساء الاقسام البريطانيين وتعمل كلجان استشارية ليس لها وضع نقابي. رفضت لجنة العمال ذلك ، وطالبت بجسد نقابي كامل السلطات لتمثيل العمال ،والدفاع عن مطالبهم. رفضت السلطات الاستعمارية ذلك ، وصارت تراوغ بإجراء اتصالات فردية بقادة العمال ، وتهديد بعضهم بانهم لا يمثلون الا انفسهم. قررت اللجنة تسليم مذكرة بموكب عمالي تم قمعه بعنف مفرط فدخل العمال في اضراب فورى. تيقت السلطات الاستعمارية من اصرار اللجنة التمهيدية على المضي حتى النهاية في مطالبها. فقررت اقامة استفتاء حول مدى تمثيل اللجنة للعمال ، فكانت النتيجة اعلانا كاسحا يعكس تمسك العمال بها كممثل شرعي ، ووحيد لهم. بدأت اللجنة اعمالها ، بتقديم مطالب العمال لإدارة السكة الحديد ، التي استخدمت اسلوب المراوغة التي اوصلت التفاوض لطريق مسدود. بعد ذلك تمت عدة مصادمات ادت لإضراب ال33 يوما الشهير ، الذى عطل الحياة الاقتصادية تماما ، و ادى لحضور وفود من الخرطوم للوساطة ورفع الاضراب بعد تراجع السلطة الاستعمارية. ادى كل ذلك للاعتراف الكامل، بهيئة شئون العمال كنقابة لعمال السكة الحديد ، والنظر بجدية للمطالب التي تقدمها. الاعتراف الرسمي بالهيئة لم يجعلها تهادن فخاضت مواجهات واضرابات مطلبية عدة .
في 1949 تقرر رسميا تغيير اسم الهيئة واصبحت " نقابة عمال السكة الحديد السودانية" والتي واصلت التقاليد المصادمة لهيئة شئون العمال وساهمت في تكوين عدة نقابات عمالية ثم انشات المؤتمر العمالي، الذى طور ليكون اتحاد عام عمال السودان. وواصل اتحاد العمال تقاليد الصدام والمواجهة الموروثة من نضال عمال السكة الحديد والتي تحولت لتقاليد راسخة يحدد العمال بموجبها من يدعمون في الانتخابات السنوية لاختيار قياداتهم.
وكانت لنقابات العمال مواقف وطنية مشهودة في النضال ضد الاستعمار والمطالبة بالجلاء وحق تقرير المصير للشعب السوداني. وشاركت الحركة العمالية في مواجهة ما سمى بمشاريع التدرج الدستوري وقاومت الجمعية التشريعية وقدمت شهداء في تلك المعركة الوطنية.
قنن اتحاد العمال تلك التقاليد المصادمة في مؤتمره العام الثاني حيث عدل دستوره ليشمل بوضوح عدم التعاون مع الدولة الاستعمارية ومواجهة الامبريالية في كافة اشكالها واحلافها ودولها ، والتنسيق التام مع كافة القوى الوطنية السودانية لتحقيق ذلك. وتبع ذلك مشاركة الاتحاد في عدة جبهات وهيئات وطنية بمباركة الجميع وتأييدهم. خرجت النقابات ، قيادات وقواعد، من تجربة النشوء ومواجهة الاستعمار وهى حركة مقاتلة ، مرفوعة الرأس معتزة بنفسها ،لا تعرف المهادنة، تحافظ على وحدتها وتتمسك بديمقراطيتها و باستقلالية قراراتها .

siddigelzailaee@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: السکة الحدید فی المدى

إقرأ أيضاً:

كيف عوّضت الأرض فلسطينيا بعد فقدان عمله خلال الحرب؟

الخليل– اشتغل المواطن الفلسطيني عدنان علي الرجوب (أبو علاء) نحو 35 عاما في قطاع البناء لدى فلسطينيي 48 (داخل الخط الأخضر)، إلى أن أصبح مقاولا في القطاع نفسه، ومعه على الأقل 10 عمال يعيل كل منهم أسرة.

مع إغلاق الضفة الغربية خلال جائحة كورونا عام 2020 وتوقف العمال عن أعمالهم، اتجه إلى قطاع الزراعة بمشروع صغير لزراعة الخضار وخاصة البندورة (الطماطم) والخيار، في محاولة لتوفير مصدر دخل بسيط يعيل أسرته، وبذلك توقف تماما عن العمل الذي اعتاده لأكثر من 3 عقود، في حين عاد بعض أبنائه إلى أشغالهم في قطاع البناء داخل الخط الأخضر بعد انتهاء الإجراءات التي رافقت الجائحة.

وما يميز العمل في أراضي الـ48 بالنسبة لفلسطينيي الضفة، الدخل العالي والثابت، حيث الحد الأدنى وفق القانون الإسرائيلي اليوم يعادل 1760 دولارا، وهو رقم كبير بالحد الأدنى في الضفة الذي لا يتجاوز 530 دولارا.

المزارع الفلسطيني عدنان الرجوب وجد في الأرض ما عوضه عن العمل داخل الخط الأخضر (الجزيرة) تحول ملموس

التحول الملموس في حياة أبو علاء، وهو من بلدة دورا، جنوبي الضفة، جاء بعد إغلاق الضفة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وبدء حرب الإبادة على غزة، ومنع عمال الضفة الغربية من العودة إلى أعمالهم، فقرر توسيع مشروعه وهو حمامات بلاستيكية (بيوت محمية) من دونم واحد (الدونم يساوي ألف متر مربع) إلى عدة دونمات.

يقول المواطن الفلسطيني للجزيرة نت إنه وجد في الأرض ما عوّضه بأكثر مما كان يجنيه لنفسه وأبنائه وعماله من العمل داخل الخط الأخضر، موضحا أنه وأبناءه وعائلاتهم يعتمدون اليوم على المشروع الزراعي، إضافة إلى عدد من العمال من خارج العائلة.

يشعر أبو علاء بالندم على تأخره في استغلال الأرض ويخطط لمزيد من التوسع في مشروعه، لكن ما يمنعه حاليا شح المياه، موضحا أنه يعتمد في توفير المياه على تجميع مياه الأمطار في فصل الشتاء من فوق البيوت البلاستكية ونقلها عبر أنابيب بلاستكية إلى بئر مخصصة للري.

إعلان

ونظرا لشح مياه الأمطار هذا العام، قال إنه يضطر لشراء بعض احتياجاته من البلديات المجاورة، وبأسعار عالية أحيانا.

الطماطم والخيار أكثر المزروعات شيوعا في البيوت المحمية بالضفة (الجزيرة) آلاف الطلبات لوزارة الزراعة

التحول إلى الزراعة كان ملحوظا بعد إغلاق الضفة، سواء من فئة العمال أو غيرهم، لأن كل القطاعات تأثرت مع استمرار الحرب، وفق حديث الناطق باسم وزارة الزراعة الفلسطينية محمود فطافطة للجزيرة نت.

وقال المسؤول الفلسطيني إن كثيرا من الفلسطينيين، وبينهم العمال، ممن كانوا يهملون أراضيهم عادوا إليها في آخر عام ونصف، مشيرا إلى آلاف الطلبات التي ترد الوزارة من مواطنين للمساعدة في مشاريع زراعة، وهي ظاهرة لم تكن موجودة قبل الحرب.

وأضاف: هناك من يطلب المساعدة سواء بتوفير بيوت بلاستيكية أو آبار أو خزانات مياه وأغلبهم ليسوا من جمهور الوزارة المعتاد وأولئك المشتغلين في الزراعة في سنوات سابقة.

وأوضح فطافطة أن ما تقدمه الوزارة يبقى في إطار "المساعدة" وقد لا يكون مشروعا كافيا أو قائما بذاته، ولا يمكن احتسابه ضمن مشاريع كبرى، ذات إنتاجية عالية.

وأشار إلى عدة اتفاقيات قيد التنفيذ أو في طريقها للتنفيذ تتجاوز قيمتها 77 مليون دولار، للوزارة مع عدة جهات وخاصة الاتحاد الأوروبي تتعلق بمشاريع زراعية واستثمارية ودعم متضررين من اعتداءات الاحتلال.

بلاستيك سقف للبيوت المحميه وزعتها وزارة الزراعة الفلسطينية بالتعاون مع الفاو (الجزيرة) بطالة مرتفعة

وفق معطيات نشرها الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني  بمناسبة الأول من مايو/أيار الجاري، اليوم العالمي للعمال، فإن عدد العاطلين عن العمل في الضفة الغربية ارتفع إلى 313 ألفا في عام 2024، مقارنة مع حوالي 183 ألفا عام 2023، كما ارتفعت معدلات البطالة من 18% إلى 31%.

وأشارت المعطيات إلى انخفاض عدد العاملين من الضفة الغربية في إسرائيل بشكل كبير جدا ما بين العامين 2023 و2024 نتيجة الإغلاقات المشددة التي فرضها الاحتلال عقب العدوان على قطاع غزة "فبلغ العدد الإجمالي للعاملين في إسرائيل حوالي 21 ألف عامل في العام 2024، مقارنة مع حوالي 107 آلاف عامل في العام 2023".

كما انخفض عدد العاملين في المستوطنات الإسرائيلية من حوالي 16 ألف عامل في عام 2023 إلى 15 ألف عامل في عام 2024، وفق نفس المصدر.

ووفق معطيات الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين، لمناسبة يوم العمال، فإن عشرات الآلاف من العمال الفلسطينيين محرومون من رواتبهم منذ 17 شهرا، مشيرا إلى أن 89% من عمال فلسطين لا يوجد لهم حماية اجتماعية وصناديق تقاعد.

إعلان

ويقدر الاتحاد الخسائر الشهرية الناتجة عن تعطل العمال العاملين في إسرائيل بنحو مليار و350 مليون شيكل (380 مليون دولار).

وفق المصدر ذاتها، فإن 33 فلسطينيا استشهدوا منذ 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023 وحتى الأول من مايو/أيار خلال محاولتهم اجتياز الجدار الفاصل متوجهين إلى أماكن عملهم أو عائدين منها أو خلال اقتحام مواقع العمل التي يعملون بها، أو إثر التحقيق معهم في معتقلات الاحتلال.

مقالات مشابهة

  • السعودية تُحدث نقلة نوعية بموسم الحج.. ساعات ذكية ومشروع رائد للترجمة بـ34 لغة
  • مدبولي: مشروع جريان نقلة نوعية في مستقبل المدن الذكية صديقة البيئة
  • نائب: الأتوبيس الترددي يمثل نقلة نوعية في منظومة النقل الجماعي
  • مصادر: رد حماس على مقترح ويتكوف كان إيجابياً وهذه التعديلات التي تطلبها الحركة
  • نقلة نوعية.. تجديد الاعتماد المؤسسي والبرامجي لكلية الطب البيطري بجامعة القاهرة
  • الفراية: ميناء العقبة يشهد نقلة نوعية بمنظومة الأمن والسلامة العامة
  • وزير الداخلية: ميناء العقبة يشهد نقلة نوعية بمنظومة الأمن والسلامة العامة
  • نقلة نوعية نحو عصر رقمي جديد .. مصر تطلق خدمات الجيل الخامس خلال أيام
  • كيف عوّضت الأرض فلسطينيا بعد فقدان عمله خلال الحرب؟
  • شحادة: شراكتنا مع القطاع الخاص نقلة نوعية في العمل الحكومي