إن هويَّة لورَنس الإشكاليَّة هي موضوع التَّأبين التِّذكاري في المشهد الممتد (episode) في كاتدرائية القدِّيس بول الذي يتلو مباشرة المشهد التَّأسيسي (establishing scene) حيث يلقى لورَنس مصرعه في حادث الدَّراجة النَّارية في مستهل الفيلم. «مَن هو لورَنس؟» هو السؤال الضِّمني غير المنطوق به الذي يُقّدِّم الاسترجاع (flashback) الطَّويل الذي يكوِّن بقيَّة الفيلم.

يقول فرانك مَكَنِل Frank McConnell: إن «ذلك السؤال لا يُحيِّر الشخصيَّات التي تحيط بلورَنس في الحملة العسكريَّة العربيَّة فحسب، بل هو أيضا سؤال يحيِّر لورَنس نفسه ويجعله ممسوسا به بصورة مركزيَّة» (42). وإذ تتكشَّف القصَّة بالتدرُّج فإن سؤال «مَن هو لورَنس؟» يصبح مُلِحَّا أكثر ومباشِرا أكثر في مواضع عِدَّة من الفيلم؛ فعلى سبيل المثال، ولدى وصول لورَنس إلى مخيَّم الأمير فيصل (الذي سيصبح لاحقا ملكا للعراق في الحياة الفعليَّة) في وادي الصَّفراء يوجِّهُ له الأمير هذا السؤال: «من أنت»؟ لكن لورَنس لا يجيب، بل إننا نراه صامتا من خلال سحابة كثيفة من الدُّخان الذي خلَّفه قصفٌ جويٌّ تُّركي كان قد انتهى لتوِّه، وهذا ما يقترح علينا هويَّة غير واضحة المعالم ومجهولة حتى من جانب صاحبها نفسه. وبعد الهجوم النَّاجح على الحامية التُّركيَّة في العَقَبَة فإن الشَّريف علي، وقد أصبح الآن مقتنعا أكثر بالمزايا القياديَّة و«الكرِزماتيَّة» التي يتمتَّع بها «ذلك الإنجليزي»، يرمي في مياه خليج العَقَبَة الهادئة باقة أزهار حمراء ويوجِّه حديثه لِلورنس قائلا له وعنه بودٍّ واعتزاز: «أكاليل للفاتح! إجلالاتٌ للأمير! أزهارٌ للرَّجل»! غير أن لورَنس يجيب بردٍّ متأنٍّ ومُحيِّر: «إنني لست أيَّا من تلك الأشياء يا علي»!، فيردُّ هذا مرتبكا: «ماذا إذن»؟!، ليجيبه لورَنس بصوتٍ واهنٍ مكسور: «لا أدري»!

وبعد قَطع صحراء سيناء في مشهدٍ ممتدٍّ (sequence) مليء بالعواصف والدوَّامات الرمليَّة التي تحجب البصر، وبالتالي فإنها تُضفي الغبار على هويَّة لورَنس وتبتلعها حرفيَّا ومجازا، ولدى الوصول إلى قناة السُّويس، يصرخ جندي بريطاني يركب درَّاجة ناريَّة هاتفا بلورَنس من الضِّفَّة الأخرى للقناة مرَّتين: «من أنت»؟!، غير أن لورَنس لا يجيب إلا بنظرة حائرة وصامتة. من المفيد هنا أن أذكر أن المُخرِج، لين نفسه، قد سجَّل ذلك السُّؤال الهاتف بنفسه في المعمل السِّينمائي، وبالتالي فإن السؤال هنا استفهاميُّ واستنكاري، حرفيٌّ ومجازي، في الوقت نفسه، وهو صادر من «المؤلِّف» (بالمعنى الذي نقصد به الأمر في نظريَّة «المؤلِّف السِّينمائى film auteur»). أدريَن ترنر يُؤوِّل ذلك بأنه «حيرة المُخرِج في طبيعة بَطَلِهِ، وحيرته إزاء نفسه أيضا» (43).

ثلاث ثنائيَّات من الرِّجال

علاوة على ذلك فإن الفيلم يضع لورَنس في علاقةٍ إلزاميَّة مع ثلاث ثنائيَّات من الرِّجال. وغرض تلك الثنائيَّات هو أن تُخَرْجِنَ externalize (من «الخارج») بصورة مجازيَّة الذكوريَّ، والأنثويَّ، والأيروسيَّ في لورَنس وَلَهُ؛ أي، بكلماتٍ أخرى، الهويَّات المتعدِّدة التي هو مُمَزَّق بينها. لكن عليَّ أن ألاحظ هنا أن تلك الثنائيَّات، في الغالب، لا تستقيم بوصفها ثنائيَّات ضِديَّة (binary oppositions) بصورة دقيقة ومُتَصَلِّبَة؛ فَتَلاعُب الذُّكوري والأنثوي وتنويعاتهما يتقاطع ويَنْجَدِلُ. ومرة أخرى، وعلى الرّغم من عرْض تنويعات من الهويَّات فإن الفيلم، في نهاية المطاف، يصرُّ على كتابة لورَنس بوصفه «رجُلا» بالمعنى البطريركي للمفردة.

الثُّنائيُّ الأوَّل الذي يعكس المأزق التَّناقضي (paradox) الذي يَخبِره لورَنس، والذي يُقَدِّمه السَّرد في مُستَهل الفيلم، يتكوَّن من الجنرال مُرِيْ General Murray، وهو القائد الخشِن وجلف الطِّباع في مقر القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة، والسيِّد دْرَيْدِنْ Mr. Dryden، وهو السِّياسي الذي يعمل في المكتب العربي هناك. وبشخصه العيَّاب، والسَّاخر، والطُغيانيِّ، وافتقاره الكامل للحُنوِّ يظهر الجنرال مُرِيْ للعيان لاعبا دور الأب: الدَّور الذُّكوري؛ فمكتبه يبدو عبارة عن مخزنٍ زاخر بالمُقتنيات القضيبيَّة والأيقونات الذُّكوريَّة. أما التَّركيب المشهدي (mise-en-scene) فيؤكد على التَّنسيقات العموديَّة: ثمَّة قذيفة مدفعِ دبَّابة نراها بارزة بصورةٍ ناتئة في وضعٍ قائم على طاولة، وعمودٌ رخاميٌّ، وحامل معاطف، وتماثيل نصفيَّة لرجال. وهناك أيضا نموذجان مُصَغَّران لمدفعين، وكذلك لوحة معلَّقة على الجدار تصوِّرُ ثلاثة مدافع مصفوفة بصورة عموديَّة. عليَّ أن أذكر هنا أن المَدافع، وهي رموز قضيبيَّة جليَّة، تُسْتَحْضَرُ طوال الفيلم باعتبارها ما «يَنقُصُ» العرب؛ فالأمير فيصل يطلب من البريطانيِّين بإلحاح تزويد جيشه بالمدفعيَّة، ولكنهم يتجاهلون ذلك. «إذا ما أنت أعطيتهم المدفعيَّة فإنَّك تكون قد أعطيتهم الاستقلال»، هكذا ينصحُ دْرَيْدِنْ الجنرالَ أللنبي. وكذلك فإننا نرى من خلال نافذة مكتب الجنرال مُرِي برجا في خلفيَّة الكادر، وهذا ما يوسِّع لدى العسكري الجلف التَّصور الذُّكوري للعالم الذي يوجد خارج محيطه المباشر في مكتبه. إن هذا الجنرال، وقد وافق على طلب دْرَيْدِنْ إرسال لورَنس إلى الصَّحراء العربيَّة على مضض، يعزو بصورة صريحة هويَّة جنسيَّة غير محدَّدة لِلورَنس، وهذه الهويَّة قد تكون المثليَّة الجنسيَّة، أو ربما حتى الهويَّة اللاجنسيَّة من الأساس: «أنت ذلك النَّوع من «المخلوق» الذي لا أُطيق»، وهو نفسه - الجنرال مُرِيْ- من يضيف بعد فترة قصيرة من ذلك قائلا: «من يدري، فالمهمَّة الشَّاقة في الصَّحراء العربيَّة ، يمكن حتَّى أن تجعل منه «رَجلا». وعلى النَّقيض من الجنرال مُرِيْ، فإن دْرَيْدِنْ ليِّنٌ، وهادئ، ويؤدي دور الحنو والحماية، ومتعاطِفٌ، وهو بهذا يظهر لاعبا دور الأم: الدَّور الأنثوي. إنَّه، على سبيل المثال، يشير إلى لورَنس بيده خِفْيَةً كي يكبح جماحه في وجه الجنرال الغاضب كما تفعل أمٌّ لولدها في وجه أبٍ طاغٍ. وبالتباين مع مكتب مُرِيْ، ذي الإضاءة الخشنة والجافَّة، فإن مكتب دْرَيْدِنْ مُضَمَّخ بِتَوَرُّدٍ ضوئيٍ ناعم يبوح بتركيبٍ مشهدي يؤكد على التَّنسيقات البصريَّة الأفقيَّة..

--------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(42): Frank McConnell, Storytelling and Mythmaking: Images from Film and Literature (New York: Oxford University Press, 19679), 126.

(43): Turner, The Making of David Lean s Lawrence of Arabia, 8.

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجنرال م ر ی الذی ی

إقرأ أيضاً:

الرهوي يطلّع خلال لقائه المحافظ باراس على مستجدات الأوضاع في حضرموت

وأشار رئيس مجلس الوزراء لدى لقائه محافظ محافظة حضرموت لقمان باراس، اليوم، إلى أن مخططات ومشاريع العدوان والاحتلال موجهة ضد أبناء الشعب اليمني كافة وأمنهم واستقرارهم ومستقبل وطنهم.

ولفت إلى المسؤولية الواقعة على عاتق أحرار المناطق المحتلة بصورة عامة ومحافظتي حضرموت والمهرة بصورة خاصة في مقاومة المحتل بمختلف الإمكانات والوسائل المتاحة، موضحًا أن صنعاء بقيادة السيد القائد عبدالملك بدر الدين الحوثي، لن تتأخر في تقديم العون اللازم للأحرار في مواجهة المحتل ومشاريعه وأطماعه وصولًا إلى تحرير الأرض اليمنية.

وأشاد الرهوي بالشخصيات الوازنة والأصوات الحرة الشريفة في حضرموت والمهرة وعموم المحافظات المحتلة التي عبرت عن مناهضتها للمحتل والتزامها بوحدة اليمن ورفضها القاطع لمشاريع التجزئة القديمة الجديدة.

واستمع رئيس مجلس الوزراء من المحافظ باراس إلى إيضاح حول الأوضاع في المحافظة ومستجداتها الأخيرة وما تعيشه المحافظة وأبنائها من حالة من عدم الاستقرار في مختلف الجوانب كنتاج لصراع النفوذ بين المحتل السعودي والإماراتي وعملائه ومرتزقته للسيطرة على المحافظة ومقدراتها.

وأكد محافظ حضرموت، تزايد السخط والغليان الشعبي لأبناء المحافظة تجاه الاحتلال ومشاريعه، لافتًا إلى حجم الإرهاب الأمني الذي يمارسه المحتل ومرتزقته على أبناء محافظة حضرموت للنيل من الوعي الجماهيري المتزايد الرافض لوجود المحتل.

مقالات مشابهة

  • مشاريع مبتكرة بين شرطة رأس الخيمة ودائرة المعرفة
  • هل يلمح الأهلي لضم زيزو؟ قناة النادي تثير الجدل بصورة القميص رقم 25
  • ترقية قائد الجيش الباكستاني إلى مارشال بعد اشتباكات الهند
  • ماذا يعرف العرب عن مشروع إيستر الخطير الذي تبناه ترامب؟ وما علاقته بحماس؟
  • استنكار الجنرال غولان لقتل أطفال غزة يوحّد ساسة إسرائيل
  • شيماء سيف تحسم الجدل حول انفصالها بصورة ورسالة محبة لزوجها
  • الرهوي يطلّع خلال لقائه المحافظ باراس على مستجدات الأوضاع في حضرموت
  • وزارة الأوقاف تصدر كتابًا مبسطًا يشرح مناسك الحج
  • الدكتور هيثم الزبيدي..الفارس الذي إستعجل الرحيل
  • الأوقاف تصدر كتابًا يشرح مناسك الحج بطريقة مبسطة