[email protected]
تمثل البناءات الذاتية أصعب المراحل في تجذير السلوك سواء عند البشر، أو حتى عند الكائنات الأخرى غير العاقلة، ذلك أن السلوك الظاهر الذي يتفاعل الناس من خلاله هو النابع من الذات، وبالتالي فالذي يحكم توازن هذا السلوك، وهو المعبر عن مجموع المدخر من البناء الذي حصلت عليه الذات طوال سني مراحل العمر، وأثبتها هي مرحلة الطفولة؛ التي تتشرب كل توجيه، وتؤمن بكل ما يملى عليها، الطفولة تظل مشروعا مهما لتأصيل الأوامر والنواهي، إلى حد المستوى العمري الذي يصل إليه الإنسان ليتيح له القدرة على التفريق بين الصالح والطالح، والخير والشر، والقدرة على القبول أو الرفض.
وفي مسيرة هذا البناء للذات هناك حث السير على الوصول إلى مرحلة من التوازن بين متطلبات الجسد المادية والمعنوية، وهي- بلا شك- مرحلة تستهلك الكثير من الجهد، وتستهلك الكثير من الزمن، وقد تتعرقل هذه المسيرة في مراحل النمو عندما تتداخل مع عناوين أخرى غير متوقعة، أو غير مدرجة ضمن جدول البناء، كأن يسلك الإنسان مسلكا مشينا، يغير مسار حياته من الأصلح إلى الأسوأ، بقصد أو بغير قصد، حيث يدخل على البناءات السليمة نتوءات تظل مشوهة لمسيرة هذا الإنسان أو ذاك، فتحتاج إلى كثير من الجهد والزمن؛ أيضا؛ حتى تلتئم جروحها، أو على الأقل يقل تأثيرها فيتحرر الإنسان شيئا فشيئا، ولو حقق البناء السليم على مشارف الفترات المتأخرة من عمره، فعلى الأقل أنقذ نفسه من هلاك، سواء لآخر العمر، أو لما بعد الحياة الدنيا.
يولد الإنسان وذاته صفحة ناصعة البياض، ولكن مع بدء أول حركة جسدية له في الحياة، يبدأ في المقابل تشويه هذه الصفحة البيضاء بكثير من الخربشات، وعليه بعد ذلك ومن خلال سنوات حياته التي يعيشها أن يعيد ترميم هذا التشويه، فيصلح ما يقدر عليه، أو يستسلم للكثير منه، خاصة إذا وافق ذلك عوامل ضاغطة في الاتجاه نفسه، وما أكثر هذه العوامل المؤثرة على تشويه الذات، يتلقاها الإنسان من القريب والبعيد؛ على حد سواء، وما يتعرض له من مصائب وأحداث قد يكون له يد في ذلك، وقد لا يكون، ويؤكد هذا الحديث المروي عن الرسول صلى الله عليه وسلم: « كل مولود يولد على الفطرة؛ فأبواه يهودانه، أو يمجسانه، أو ينصرانه» - حسب المصدر - ويشار إلى الفطرة هنا على أنها فطرة الإسلام، وهي الفطرة السوية. الذات الإنسانية هي خاضعة لكثير من عوامل البناء والهدم؛ على حد سواء، ولكن في ظروف بيئة اجتماعية؛ تكون أقرب إلى الفطرة؛ يتسامى الصلاح في الذات أكثر، وفي بيئة اجتماعية مشوهة، يتراجع هذا الصلاح، فتصبح ذاتا مستنفرة، تتعب صاحبها، وتتعب من حوله، فـ «الذات هي جوهر الشيء وشخصيته، التي تعبر عما به من شعور وتفكير» كما يقول الدكتور عبدالوهاب المسيري، وتكملة لمعنى النص، أن هذا الشعور والتفكير سيعكس ما تجيش به الذات: إن كانت ذاتا صالحة، أو ذاتا طالحة.
السؤال المهم: هل يمكن تدارك تشويه الذات قبل أن تفضي بمجموعة سلوكياتها على الواقع؟ والإجابة على هذا السؤال: أن هذا ليس بالأمر الهين، صحيح أن الوالدين ومجموعة محاضن التربية تبذل جهودا مقدرة في حماية هذه الذات من كثير من التشويه، ولكن هناك الذات المستقلة التي لا تؤمن بكامل الاستسلام، لكل ما يوجه إليها، حيث تُخْضِعُ كل ما تتلقاه إلى «فلترة» ذاتية، فتقبل هذا، وترفض ذاك، بناء على خبراتها، وتجاربها في الحياة.
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
فندق الجيروسالم.. قصر عثماني بأثاث مصري في قلب القدس
"بأرض ما اشتهيتَ رأيتَ فيها فليس يفوتها إلا الكرامُ" ببيت الشعر هذا المحفور يدويا على باب خشبي والذي يعود للشاعر أبي الطيّب المتنبي، يستقبل فندق "جيروسالم" الذي يبعد بضع خطوات عن باب العمود نزلاءه وزوّاره.
شُيّد الفندق إبّان العهد العثماني وبالتحديد في عام 1890 كقصر لعائلة شرف المقدسية، وفي عام 1960 وأثناء تقليب إحدى الصحف عثر المقدسي سامي سعادة على إعلان عن بيع هذا القصر-الذي تبلغ مساحة بنائه 200 متر مربع وحديقته 100 متر مربع، بالإضافة لتسوية صغيرة- فاشتراه، وكان يستخدم حينها كفندق.
كان هذا البناء الأثري يستخدم خلال الحكم العثماني مقرا للجيش بهدف تعبئة الشباب للحرب العالمية الأولى، ولاحقا استخدم مدرسة إبّان الاحتلال البريطاني، ثم تحول إلى فندق إبّان الحكم الأردني وبقي كذلك حتى يومنا هذا.
ورغم أن إصابات مباشرة بالقذائف أحدثت أضرارا في الجانب الشرقي من الفندق خلال حرب النكسة عام 1967، فإن البناء الأثري ظلّ صامدا حتى اليوم، وحرصت عائلة سعادة المقدسية على صيانته ورعايته بشكل يخطف أبصار النزلاء والزوّار الراغبين بالاستمتاع بأجواء تاريخية وتراثية استثنائية.
يضم الفندق 14 غرفة ويحتوي على الكثير من المقتنيات الأثرية الفلسطينية من أثواب وأوان حجرية وفخارية ونحاسية، بالإضافة للمقاعد الخشبية العتيقة المزخرفة يدويا وأخرى مصنوعة من الخيزران.
إعلانويقع هذا الفندق الأثري في شارع "عنترة بن شداد"، وفي داخل كل غرفة يوجد شعر لهذا الشاعر، وخارج كل غرفة شعر لأبي الطيب المتنبي، أما أثاث الغرف فتمّ تصميمه وتفصيله خصيصا لصالح الفندق في مدينة دمياط المصرية، وعندما وصل إلى القدس قبل عقود كانت لدى صاحب الفندق المقدسي رائد سامي سعادة بعض الملاحظات والتعديلات فأُعيد الأثاث إلى مصر وأدُخلت عليه التعديلات قبل أن يُعاد مجددا إلى القدس.
وبالخروج من الفندق يودّع هذا المقدسي النزلاء ببيت شعر آخر للمتنبي محفور على الباب وهو "يا من يعز علينا أن نفارقهم وجداننا كل شيء بعدكم عدمُ".
تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline