التعرّي أمام الذات: تأملات في هدم أقنعة الزيف وبزوغ الحقيقة من رماد الخداع
تاريخ النشر: 23rd, May 2025 GMT
قد تكون الكلمات قاصرة أن تلتقط الرغبة في الاعتراف. رغم ذلك سأظل أسعى جاهداً لاستخلاص الكلمات التي قد تلمس شيئاً من هذا العبء العميق الذي يعصف بأرواحنا، ويسكن أعماق قلوبنا، فيسحبنا معه إلى بحرٍ من التردد والحيرة. إنه ليس حملاً يسهل تخفيفه أو التخلص منه، بل هو حصار داخلي لا يظهر للعيان، ولكنه يرهق الوجود بأسره.
حين تتغلغل العنصرية في نسيج الوعي الجمعي، لا تبقى مجرّد انحياز أعمى، بل تتحوّل إلى منظومة فكرية مريضة تُشرعن الصراع، وتُبقي نيران الحرب مشتعلة، وكأنها قدرٌ لا يُرد. في ظلّها، تُختزل الهوية إلى حدود ضيّقة، وتُستخدم سلاحاً للإقصاء لا لسببٍ جوهري، بل لاختلاف لون، أو جهة، أو لهجة. فهي ليست قوة كما تروّج لنفسها، بل ضعف مقنّع، ومرض نفسي يلبس قناع السيطرة بينما ينخر الذات من الداخل. إنها إسقاط هشّ لأوهام تفوّق لا يستند إلى عقل، بل إلى خوف دفين من الآخر. وحين تُزرع في ذاكرة الأجيال، تُورَّث كعبءٍ على القلوب والعقول، ويغدو الشفاء منها تحدياً عسيراً، إذ تتغذى على الجهل والتكرار حتى تُعمِي البصيرة وتُبلّد الإحساس. ومع ذلك، يبقى الأمل ممكناً. فالعلاج يبدأ من لحظة إدراكٍ شجاع: أن الاختلاف ليس تهديداً، بل فرصة لفهم أوسع وعيش أعمق، وأن الجمال الحقيقي لا يُقاس بالشكل، بل بالقدرة على التلاقي في إنسانيتنا المشتركة.
الأمراض النفسية ليست سوى انعكاسات لظلالٍ سوداء، تشكّلت من الخوف والضعف، واستقرت في زوايا أرواحنا دون أن نجرؤ على مواجهتها. فهي مرآة مكسورة تعكس تناقضاتنا، وصرخات صامتة تكشف هشاشتنا أمام اختلاف الآخر، تخفيها الأقنعة التي نرتديها، ونعللها بزخرفٍ من التبريرات الواهية. إنها مشاعر مدفونة تحت ركام الضعف، تسكننا بصمت، فتتسلل إلى سلوكياتنا اليومية، وتتحكم بأفكارنا دون أن نعيها، حتى تتحول إلى جزء من هويتنا التي نتجنب مواجهتها. لكن، مهما اجتهدنا في طمسها، تظل أشبه بجمرة تحت رماد، تنتظر أول نسمة ريح لتشتعل. فالعنصرية ليست فقط رفضاً للون أو عرق، بل هي نظرة دونية لكل اختلاف، سواء كان في الفكر أو المعتقد أو نمط الحياة. أما الحقد والتعالي، فهما وليدا ضعفٍ داخلي وخوفٍ مستتر من فقدان امتيازات نتمسك بها بغير حق، أو من مواجهة حقيقة تهز عروش ما نظنه أفضل أو أصوب. عدم الاعتراف بالآخر، في جوهره، أكثر أشكال الظلم قسوة، لأنه يسلب الإنسان حقه الأساسي في أن يكون، ويحرمه من مساحة الاحترام التي يستحقها. إن الطريق إلى عالم أكثر عدلاً لا يبدأ إلا بمواجهة الحقائق المرة. علينا أن نرفع الغطاء عن أعماقنا، وننظر إليها بشجاعة، والاعتراف بما نخفيه من ضعف أو تناقضات. فالمواجهة الصادقة وحدها قادرة على تحريرنا من قيود الكراهية والخوف، وتدفعنا نحو قبول الآخر، ليس كجزء من واقعٍ نرضخ له، بل كركيزة أساسية في بناء مجتمعٍ ينعم بالتآلف والرحمة والسلام.
هذه التصرفات، وإن كانت غير واعية، تكشف عن مدى التحيز الذي يختبئ في عقولنا، وكيف أن ردود الأفعال التي قد نعتقد أنها محايدة، هي في الواقع امتداد لموروثات اجتماعية وأفكار مغلوطة. نطالب الآخرين بالالتزام بالقوانين، بمساواة الحقوق، ومع ذلك لا نطبق هذه المبادئ على أنفسنا عندما يتعلق الأمر بالآخرين، عندما يكون الاختلاف مجرد مبرر لتحقيرهم أو التقليل من شأنهم. إن هذا التناقض بين أقوالنا وأفعالنا يعكس هشاشة العلاقات الإنسانية في ظل القوالب الجاهزة التي نعيش ضمنها. فكيف نطالب بالتغيير والمساواة بينما نحن أنفسنا نتمسك بأحكام ضيقة تفرق بين الناس بناءً على خلفياتهم وأصولهم؟ هذه هي لحظات الحقيقة التي يجب أن نواجهها، لنعترف بأن التغيير الحقيقي يبدأ من داخلنا، من إصلاح نظرتنا للآخر والتعامل معه بإنصاف كامل، بعيداً عن أي تصنيف أو تحامل. ولكن، كما أن الشمس لا يمكن أن تخفى وراء السحب إلى الأبد، فإن هذه المشاعر لا بد لها أن تجد طريقها للخروج. لن يبقى شيء مخفياً إلى الأبد، فالصمت عن الحقائق التي نخشى مواجهتها هو ما يعرقل تقدمنا ويدمر روابطنا.
قد يكون هذا التعرّي أمام نفسي وأمامكم مؤلماً، ويزعزع ما تبقى لدينا من صور مثالية عن أنفسنا، تلك الصور التي طالما رسمناها بعناية لنُخفي وراءها عيوبنا ونقاط ضعفنا. لكن لا مفر من الاعتراف، فالتغيير الحقيقي لا يبدأ إلا من أول خطوة في مواجهة الذات بصدقٍ تام، مهما كانت قاسية، ومهما كانت الظلال التي تحملها ثقيلة. إذ أن ما نكبت عنه طوال الوقت من مشاعر مكبوتة وأفكار غير مفصح عنها، قد يكون هو السبب في تراكم الجروح بيننا، تلك الجروح التي تلوث علاقاتنا وتفصلنا عن بعضنا البعض. قد نعيش في وهم وخيال، نتظاهر بأن كل شيء على ما يرام، لكن الحقيقة أن هذا التهرب من الواقع هو الذي يعمق الشرخ في أرواحنا. إن الكشف عن هذا السر، مهما كان مراً، هو بداية الطريق نحو التحرر من قيوده. هو المفتاح لفهم أعمق لأنفسنا، ودواخلنا التي نخشى النظر إليها. وعندما نفهم أنفسنا بشكل صحيح، نتمكن من فهم الآخرين بشكل أعمق، ومن ثم نخلق الفرصة الحقيقية للمصالحة والتغيير.
التغيير لا يأتي إلا عندما نتصالح مع أنفسنا، ونواجه أعماقنا دون تردد، ونقبل بكل عيوبنا وضعفنا قبل أن نبحث عن عيوب الآخرين. فالتصالح مع الذات هو الخطوة الأولى نحو التحرر من قيود الماضي التي تخلق جدراناً بيننا وبين من حولنا، وبيننا وبين التغيير الذي نحتاجه. حين نتخلص من تلك القيود التي تراكمت على مر الزمن، نفتح الباب على أمل جديد، أمل يمنحنا القدرة على البناء من جديد على أسس متينة من الصدق والاحترام. حين نكون صادقين مع أنفسنا، نتقبل الآخرين كما هم، نرى فيهم فرصاً للتعاون والنمو، وليس تهديداً لمكانتنا أو معتقداتنا. إن التغيير يبدأ عندما نمتلك الشجاعة للاعتراف بأخطائنا وتجاوزها، وعندما نتوقف عن النظر إلى الماضي كعائق أمام مستقبلنا. فقط عندها، نستطيع أن نخلق واقعاً جديداً، يبنى على الأسس التي تضمن أن يكون كل فرد جزءاً من هذا البناء، يتشارك مع الآخرين في الفهم والاحترام، ويعمل من أجل غدٍ أفضل للجميع.
abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
الروائيّة زينب خضور: الكتابة وسيلتي لفهم نفسي وترتيب مشاعري ومواجهة العالم
الجزائر "العُمانية": تمتازُ الروائيّة زينب بنت غسّان خضور، بتجربة فريدة في الكتابة السّردية؛ ذلك أنّ خيار التوجُّه لكتابة الرواية لديها لم يكن وليد الصّدفة، وإنّما كان نزوعًا أملاه شغفٌ يعود إلى سنوات الطفولة الأولى، وتمكّن منها لأسباب نفسيّة، مشكّلًا رؤى فلسفيّة، تطوّرت عبر الزمن، فأصبحت قاطرة تجر وراءها محاولات لفهم الذات والإنسان.
وقالت زينب بنت غسّان خضور في حديث لوكالة الأنباء العُمانية: "حصلت على شهادة في الهندسة المدنيّة، وهو مجالٌ علّمني الانضباط والدقة، لكنّه لم يكن يومًا بديلاً عن شغفي الأول الكتابة. فمنذ طفولتي وجدتُ نفسي أهرب إلى الورق كلّما عجز لساني عن التعبير، فالكتابة بالنسبة لي لم تكن هواية، بل وسيلتي الوحيدة لفهم نفسي وترتيب مشاعري، ومواجهة هذا العالم. وبدأتُ بخواطر ونصوص نثرية كنت أكتبُها في دفاتري الخاصّة، ثم تطوّرت التجربة إلى ما يشبه الكتابة المنتظمة، حتى صدر لي أول عمل بعنوان "مرآة تفيض بالأرواح"، وهو مجموعة نصوص متفرّقة نُشرت بالتعاون مع دار ومضة للنشر بالجزائر.
وأوضحت أن رواية "الخطيئة التي تُغتفر"، عملٌ روائيٌّ نابعٌ من حاجة داخليّة إلى الغوص في عمق الإنسان، لاسيما في لحظاته المتأرجحة بين الذنب والغفران. وهي ليست فقط قصّة تُروى، بل حالة شعورية كتبتها كي تفهمها أولاً، ثم تشاركها مع القارئ". وليست مجرّد عمل سرديّ، بل رحلة فلسفيّة في دهاليز النفس البشرية، حيث تتقاطع أسئلة الوجود مع صراعات الذات. وتدور الرواية حول شخصيات تواجه ماضٍ لا يُمحى، وذنوبًا تشكل ملامحها وتفرض عليها مسارات من الألم والتأمل. لا يُطرح الغفران كفعل يتلقاه المرء من الآخر، بل كأصعب معركة يخوضها مع نفسه، ومع الذاكرة، ومع الذنب الذي لا يهدأ.
وذكرت أن الرواية تغوص في معنى الفقد، لا كغياب لأشخاص أو أشياء، بل كشرخ داخلي في الهوية. وتُعيد مساءلة فكرة الحرية: هل نملك حقًا أن نبدأ من جديد؟ أم نظلُّ أسرى لما مضى؟ بين الحطام والنجاة، بين الانكسار وإمكانية الترميم، وتنسج الرواية عالمًا من الأسئلة التي لا تمنح إجابات، بل تفتح للقارئ بابًا نحو ذاته.
وقالت الروائيّة: "لم أعتمد على تقنية سردية واحدة بقدر ما حاولتُ أن أكون وفيّة لحالة الشخصيّات النفسيّة وصدق التجربة الداخلية. استخدمتُ البناء غير الخطي، بحيث لا تسير الرواية في تسلسل زمني تقليدي، بل تتنقلُ بين الماضي والحاضر، كما تفعل الذاكرة في لحظات الألم أو التأمل. كما أنّني راهنتُ على اللُّغة كوسيلة للكشف، فاعتمدتُ أسلوبًا شعريًّا يلامس الداخل، بعيدًا عن الوصف المباشر أو السّرد الخارجي. جعلت لكلّ شخصيّة صوتها الداخلي، ومساحتها الخاصّة لتقول ما لا يُقال بصوتٍ عالٍ. الرواية ترتكز أكثر على الغوص في المشاعر والطبقات العميقة من الذات، لذلك كانت التقنيات التي استخدمتُها مرنة ومتعدّدة، بما يناسب الحالة النفسيّة لكلّ مشهد أكثر من التقيّد بقالب واحد".
وأضافت: "اللُّغة العربيّة الفصحى تمنح النصّ طابعًا إنسانيًّا شاملاً يتجاوز الحدود الجغرافيّة واللّهجات، ولأنّها اللُّغة الأقدر على حمل عمق المشاعر والأسئلة الوجودية التي تطرحها الرواية. وأردتُ لنصّي أن يكون قريبًا من القلب دون أن يُختزل في خصوصيّة محليّة، وأن يحافظ، في الوقت ذاته، على رصانته وامتداده الشعوري".