إن مكتب درَيْدِن مؤثَّث بِقِطَعٍ دائريَّة وبيضاويَّة تحيل إلى الأنوثة ومنها، على سبيل المثال، طاولة مستديرة موضوع عليها طاسَتَا زينة، واحدة كبيرة والثانية صغيرة. وبالإضافة إلى تُمَيْثيِلٍ لِفِينِس Venus (إلهة الحب والخصوبة لدى الرُّومان)، فإن المكتب يضم أيضا تذكارات من الحضارة المصريَّة القديمة مثل تمثال لِباسْتِتْ Bastet (وهي إلهة أسطوريَّة بدأت عبادتها في مصر الفرعونيَّة اعتبارا من المملكة الثَّانية 2890 قبل الميلاد.

وتظهر تلك الآلهة في مختلف الآداب والفنون بتصوُّرات شكليَّة مختلفة لكنها جميعا متشابهة في أن لها رأس قطَّة. كانت في الأصل لبؤة إلهة محاربة شرسة، ثم تحول شكلها ودورها بالتدرُّج إلى خليط من امرأة وقطَّة تضطلع بدور الحمل، والولادة، والحماية من الأمراض المعدية والأرواح الشِّريرة). يتوقَّف لورَنس أمام تمثال باسْتِتْ مبديا دهشته قائلا: «هذا جديد»!، ما يعني أنه تردَّد على المكتب «الأنثوي والأمومي» من قبل بحيث إنه أدرك فورا ما أضيف إليه. ويأتي تضمين ذلك الرَّمز الميثولوجيِّ المصريِّ القديم في مثال على تصوير مصر في الآداب والفنون الغربيَّة بأنها «أنثى»، وهذه المقولة ليست غريبة أبدا عن «الهَوَس المصري» (Egyptomania) الذي كثيرا ما تتوسَّله السينما الكولونياليَّة والاستشراقيَّة (44).

لكن المشكلة هنا هي أن درَيْدِن، وهو السيَّاسي الضَّليع الدَّهقن الدَّاهية، مقرون بامتلاك المعرفة والحكمة الذي يرتبط عادة بشخص الأب (البطريرك النَّموذجي في كل الثَّقافات تقريبا) وصورته، وليس بِـ«الطَّبيعة الوحشيِّة»، المُرَمَّزة بالجنرال مُرِيْ. إنَّه درَيْدِن من يشرح لِلورَنس أن غرض مهمَّته هو معرفة أهداف الأمير فيصل بعيدة المدى. وهو، في ذلك، يبرهن على معرفة حَسَنَة بالأمير وقومه، ووضعهم، وقدراتهم: «إنهم على بعد ثلاثمائة ميل من المدينة المُنوَّرة ، وهم بدوٌ هاشميُّون، ويستطيعون قطع ستِّين ميلا عبر الصَّحراء في اليوم». عبر طرحه هذه الضُّروب من المواقع المتناقضة (درَيْدِن «أنثوي» لكنه يحوز على الحكمة والمعرفة) فإنَّ الفيلم يمضي في تحدِّيه لتلازمات الأدوار الجَنْدَرِيَّة، وعلى لورَنس أن يكتب هويَّته ورغبته ضمن تلك المعطيات.

إن الثُّنائيَّ الأول، أي الجنرال مُرِيْ/ درَيْدِن، يوجَد ويؤدي دورَه المِهني في محيطٍ مدينيٍّ (القاهرة) الذي هو مكان تواجد البريطانيِّين، وبالتالي مكان وجود «الحضارة»؛ فمن النَّموذجي والمعياري في الأفلام الاستشراقيَّة أن تربط «الحضارة المدينيَّة» بالمستعمِرين (وهم البريطانيُّون في هذه الحالة)، بينما تربط السُّكان الأصليِّين (وهم العرب في هذه الحالة) بـ«التَّضاريس المقفرة». تشير إيلا شُحْطْ إلى فيلم «لورَنس العرب» بوصفه مثالا على تلك النَّزعة المُكرَّسة تقليديَّا (45). وفي ذلك المحيط المديني (القاهرة) فإن الفيلم يُرينا لورَنس، وعلى الرغم من ارتدائه زيَّه العسكري، بوصفه شخصا أخرقَ، غير قابل على التَّماس مع البيئة المِهَنيَّة، الذكوريَّة والعسكريَّة، التي يعمل فيها، والتي تبدو غريبة عنه وهو غريب فيها. إنه غير قابل للانصياع للقواعد والشَّعائر العسكريَّة الصَّارمة؛ فهو، على سبيل المثال، يدخل إلى مكتب آمِرِهِ الجنرال مُرِيْ من دون أن يؤدِّي التَّحية المعروفة في التَّقاليد العسكريَّة. وحين يأمره الجنرال أن يؤدِّي التحيَّة التقليديَّة فإنه ينفِّذ الأمر بطريقة غير عسكريَّة وغير احترافيَّة، ومائعة، بل ومُضحِكة حقَّا. بكلمات أخرى فإن الفيلم يصوِّر لورَنس في هذه المرحلة من القصَّة باعتباره غير رجولي، بل أنثوي، وهناك ما «ينقُصه» بوضوح شديد.

يدلُّ موقف الجنرال مُرِيْ وموقف درَيْدِن المتعارضان تجاه لورَنس على انقسام في المواقف ضمن إطار المؤسَّستين العسكريَّة والسِّياسيَّة البريطانيَّتين في القاهرة، وهو انقسام يؤلِّف تصرُّفات السُّلطة الكولونياليَّة؛ فالجنرال مُرِيْ (الأب) يمثِّل الحرس القديم، والمبادئ التقليديَّة للرُّجولة والطُّقوس العسكريَّة التي عليها أن تؤدَّى على نحوٍ تَعَبُّدي. أمَّا دْرَيْدِنْ (الأم) فإنَّه، بانفتاحه وتفهُّمه ولين عريكته، يمثِّل اتِّجاها مختلفا. هذا ويجري الحكم على لورَنس من خلال صيغتي الفهم المتضاربتين هاتين؛ فهنا يراه الجنرال غير مؤهَّل للمهمَّة، بينما يراه السِّياسي مناسبا جدا لها («إنه يعرِف شُغْلَهُ يا سيدي»، كما يقول درَيْدِن). والأمر ذو الشَّأن هنا هو أننا نرى الجنرال مُرِي الذي -بالنَّظر إلى رأيه غير المتحمِّس لِلورَنس- ما كان قطعا ليأتمنه، مثلا، على قيادة رهط من الجنود البريطانيِّين يُفسح، على الرغم من ذلك، مجالا لتقييم درَيْدِنْ أن لورَنس، في الحقيقة، مؤهَّل بصورة مثاليَّة للقيام بالمهمَّة تحديدا وبالضبط لتلك الأسباب عينها التي جعلت الجنرال يرى فيه شخصا غير ملائم لأداء المهمَّة. هكذا، إذن، تصبح «لا رجولة» لورَنس، وميوله الجنسيَّة والأيروسيَّة «المشبوهة»، أرصدة استثماريَّة ذات ميزة وليست عوائق. هذا الانعطاف الغريب لمنطق الأشياء له علاقة جوهريَّة بِفَرَضِيَّة درَيْدِن الضِّمنيَّة أن لورَنس سيكون قادرا على التَّعامل مع العرب لأنَّه من شاكلتهم، فهو ليس «رَجلا» بصورة جازمة وصريحة. وهكذا فإن نظريَّة درَيْدِن لا تشذُّ عن الصورة التقليديَّة الموروثة للشَّرقي في التَّخليقات والأدبيَّات الغربيَّة باعتباره موقع تجميعات (syntheses) خلائط واستيهامات حسيَّة وأيروسيَّة متباينة. لورَنس هو «الرَّجل» المناسب لأداء المهمة ليس فقط لأنه «يعرف شُغْلَهُ» بل كذلك لأنه يمثِّل ذات «الشُّغل» الذي سيجعل العرب قابلين للتَّعاطي والتَّفاعل معه. وهكذا فإن الجنسانيَّة والأيروسيَّة المثليَّة مُتَضَمَّنَتان في الخطاب الاستشراقي للفيلم، وهو خطاب ينتِج ويعيد إنتاج المعرفة بالآخر.

نار، وشمس، وأخْمِرَةٌ، وأودية

هكذا فإن الموقع المُلتبِس الذي يحتلُّه لورَنس فيما يخصُّ الأيروسيَّ قد جرى تأسيسه مبكِّرا في الفيلم. ومازوشيَّته تلوِّح بعلوِّ شأنه في قدرته على السَّيطرة على ألمه، وبتحقيقه لِذَاته في انسحاره بإيلام نفسه؛ فالمشهد الممتد الأول الذي يحدث في القيادة البريطانيَّة العامَّة في القاهرة يعرِّفنا إلى مازوشيَّة لورَنس.

------------------------------

تتواصل أرقام الحواشي من الحلقات السابقة:

(44): للوقوف على معالجة مضيئة ومستفيضة لهذا الموضوع أنظر:

Antonia Lant, The Curse of the Pharaoh, or How Cinema Contracted Egyptomania in Visions of the East: Orientalism in Film, ed., Mathew Bernstein and Gaylyn Studlar (New Brunswick, N. J.: Rutgers University Press, 1997), 69-98.

(45): Ella Shohat, Israeli Cinema: East/West and the Politics of Representation (Austin: University of Texas Press, 1989), 149.• •

عبدالله حبيب كاتب وشاعر عماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: الجنرال م ر ی

إقرأ أيضاً:

مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية

في بعض الوجوه تسكن أوطان، وفي بعض الأصوات تنام ذاكرة شعب بأكمله.. هناك وجوه لا تُنسى، لا لأنها لامست الشاشات، بل لأنها لامست القلوب دون استئذان.. أشرف محمود… ليس مجرد اسم لمعلق رياضي، بل حكاية مصرية تمشي على قدمين، رجل حين يتحدث، تسمع في صوته رائحة الشاي على مصطبة الجد في آخر النهار، تسمع أنين أبو الهول وصبر الفلاح، ودفء السلام عليكم من جارٍ لا يغلق بابه.

مؤمن الجندي يكتب: مهما صفق الواقفون مؤمن الجندي يكتب: عندما ينطق الوجه مؤمن الجندي يكتب: أزرار السوشيالجية مؤمن الجندي يكتب: بين العرق والذهب وصمت الكادحين

هو لا يعلّق على المباراة فحسب، بل يُمسك بالميكروفون كمن يُمسك بفرشاة ألوان، يرسم بها مشهدًا حيًّا تنقلك من الملعب إلى الحارة، من الهدف إلى الضحكة المصرية الخجولة، ومن تمريرة سحرية إلى حكمة قالها الأب زمان: "اللي ملوش كبير يشتري له كبير".

تراه فلا تتساءل عن معدنه، هو معدن "ابن البلد" النقي، صادق كالنيل، بسيط كالرغيف، نظيف كضحكة طفل في عز المولد.

أشرف محمود لم يجمّل نفسه، لم يصطنع شخصية، بل اختار أن يكون هو... فقط هو، وفي زمن يتصارع فيه الناس على الأضواء، كان هو الضوء ذاته، ضوءٌ يُشبه عيون أمك حين تدعو لك، ويُشبه نبرة أبيك حين يقول لك: "راجل يا ابني".

هو لا يركض خلف "الترند"، بل يمشي على خطى الكبار، لا يلهث خلف اللقطة، بل يصنعها بهدوء، كالفلاح حين يحرث الأرض.. يعلم أن الخير سيأتي.

أشرف محمود ليس ظاهرة صوتية، بل ظاهرة هوية وطنية.. هو مصر حين تتحدث بعقلها وقلبها ولسانها السمح، أثناء التعليق على المباريات.

في هذا الرجل تتجلى الهوية المصرية بكل ما فيها: بشهامتها، بكرامتها، بخفة ظلها، بجدعنتها، بحكمتها، بلغتها العربية، وبإيمانها العميق أن الأصل هو الأصل.. مهما تبدّلت الأزمان.


قبل النهاية، نحن في زمن امتلأت فيه الشاشات بالتصنع، والمنصات بالتصيد، لكن خرج هذا الصوت المصري الدافئ في بطولة مونديال الأندية، من الميكروفون لا يشبه إلا نفسه.. لا يستعير لهجة، ولا يبالغ في تعبير، ولا يتكلّف حماسة رغم خروجه عن شعوره.. لكنه فجأة! أصبح "تريند"، ولم يكن ذلك لأنه يملك خطة تسويق، أو فريق سوشيال ميديا محترف، أو يسعى خلف "اللايك والشير"، بل لأنه فقط قرر أن يكون كما هو: مصريًا جدًا.. بصوته، بكلماته، بنُكاته، بحماسه، وبهدوئه حين يجب أن يهدأ.

أشرف محمود لم يعلّق على المباريات فحسب، بل منحها طعمًا ولونًا ورائحة.. جعل المتابع يشعر أن المباراة تُلعب في ساحة بيتنا، وأن الهدف ليس مجرد كرة في الشباك، بل حكاية تُروى على القهوة، وضحكة تنطلق من القلب، وعصبية ابن بلد يعرف قيمة اللحظة.

لقد أصبح تريند.. لا لأنه أراد، بل لأن الناس اشتاقت لما يُشبهها.. وأشرف يشبهنا جدًا.

للتواصل مع الكاتب الصحفي مؤمن الجندي اضغط هنا

مقالات مشابهة

  • يوميات جاري “أبو فرح” في الحرب(1)
  • الدمار الذي خلفه القصف الإسرائيلي على مبنى التلفزيون الإيراني
  • خبير: القضاء على البرنامج النووي الإيراني أمر صعب
  • قصة الممثل المصري المسيحي الذي ألقى خطبة الجمعة على زملائه
  • مؤمن الجندي يكتب: أشرف محمود.. الذي علق فأنطق الهوية
  • الانفصال لا يعني العداء.. أيتن عامر تقدم درسًا في النضج الأسري
  • الانتقاء الفني والرغبة الإدارية
  • رغم طلاقهما.. محمد عز العرب ينشر صورته مع آيتن عامر وأبنائهما
  • مصرع وإصابة 3 أشخاص في حادثين متفرقين بالإسكندرية
  • العرباوي: نندد بالعدوان الوحشي الذي يتعرض له الشعب الفلسطيني