نقترب من إتمام شهر كامل منذ بدء عملية طوفان الأقصى والحصار والإبادة الوحشية التي يتعرض لها أهل غزة الأباة، ومع استمرار هذه العملية ولفاعلية وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت بديلا قويا وحياديا للإعلام الكلاسيكي، أصبح العالم كله يرى حقيقة ما يحدث «هناك» في غزة وفلسطين ككل.
وبما أننا تحدثنا عن «هناك»، فإن الواقع اليوم وما تتيحه وسائل التواصل من تشكيل للوعي الجمعي، فإن الآلة الصهيونية لم تغفل هذا القطاع الإعلامي المهم، بل جيشت له علماء وأطباء وأناسا فائقي الذكاء ومؤثرين من شتى القطاعات والمجالات ليسردوا السردية المعروفة منذ بدء الاحتلال الصهيوني على فلسطين والتي تبرئ المحتل وتمنحه حقا في أرض مغتصبة وصكا للمجازر المرتكبة يوميا.
«لا أكترث بما يحدث هناك، لكن ليس لهذا الأحمق أن يفعل ما يريده هنا» تعليق قرأته في أحد مواقع التواصل الاجتماعي باللغة الإنجليزية ردا على منشور يظهر فيه مناصرون للقضية الفلسطينية يمزقون الدعاية الكاذبة للمحتل ويستبدلونها بالحقيقة الدموية المؤلمة، واستوقفتني كلمة «هناك» ودلالاتها النفسية والسياسية والاجتماعية. فنحن نكني الشيء حين نكرهه ونعلم أن الحق معه وله، أو يخيفنا، أو حين لا نكترث لأمره ولكننا في الوقت نفسه نخشى من الهجوم. بمعنى أنه لن يستطيع رجل أن يقول صراحة وعلى الملأ «لا أكترث بمن يموت في غزة وفلسطين ما دام الأمر لن يصل إلى بلدي» لأنه سيتعرض للهجوم والنقد وستتضح ملامح المرض النفسي الذي قتل فيه روح العدالة الإنسانية وحرمة الدم. إن كلمة «هناك» التي كنا نسمعها في الغرب «اعتدنا أن يحدث هذا هناك في الشرق الأوسط، وليس في أوروبا» انتقلت إلى كثير من العرب بفعل الدعاية الدائمة لفصل البلدان عن بعضها في المنطقة العربية خصوصا، لما تتمتع به هذه المنطقة من خيرات طبيعية عظيمة ترى القوى الاستعمارية بأنها ليست أهلا لها ولا تستحقها، فتقسيم المنطقة إلى طوائف وأحزاب وبلدان ما يفرقها يطغى ويغطي ما يجمعها، مما يخدم مصالح هذه القوى ويحقق أقصى استفادة لها. ومن المفارقات العجيبة أن الوعي الذي نستبشر به في الجيل الجديد الذي راهن الكثيرون على أنه جيل مغيب عن الواقع ذو اهتمامات ضئيلة؛ أثبت نقيض هذه المقولة ودحضها تماما. فالجيل الذي أطلق عليه المتعالون على الواقع «جيل البرجر» و«جيل الآيباد» استخفافا وتهميشا، يقوم بدوره الفاعل في شتى المجالات حسب استطاعته. فهذا الشاب الذي يدافع عن بلده بالمحتوى المميز الذي يبين الصورة الحقيقية لبلده، وهذا الآخر الذي ينقل الصورة الكاملة لا المجتزأة كما في الإعلام المدفوع، وذاك الذي يرى بأن الوطن العربي الكبير كله وطن له وأهله أهل له، كلها دلائل على أن القوى الاستعمارية ليس لها يد حقيقية ولا فاعلة في تحييد وعي الشعوب وتقسيمها، رغم ما تجيّش له من وسائل لتحقيق أهدافها التي لن تتحقق إلا بالفُرقة والشقاق.
إن عملية طوفان الأقصى أعادت توجيه البوصلة وهدمت أوهاما عدة كانت ترددها جوقة المنتفعين بالأنظمة السياسية القائمة في المنطقة، فقد كان النقاد التاريخيون ونقاد الحركة الصهيونية مثل الدكتور عبدالوهاب المسيري يرون اختلافا جوهريا بين الإبادات التي جرت بحق السكان الأصليين في الأمريكيتين وأستراليا وجنوب إفريقيا وبين ما يحدث في فلسطين، وكانوا يراهنون على أن الاحتلال لن يستطيع إبادة شعب في عصر الصورة وأن الشعوب الغربية المغيبة عن الواقع ستثور لوقف الجرائم أمام قادتها الذين يحكمون العالم، ولكن أثبتت هذه النظرية فشلها. فنحن أمام وحش استيطاني لا ينفك عن طلب المزيد، ولو قلنا جزافا بأن الحل يكمن في حل الدولتين أو في دولة واحدة اسمها إسرائيل؛ فإن المحتل الحالي لا يختلف عن أي محتل آخر، بل هو أكثر جرما ووحشية وسيطلب مزيدا من الأرض كلما طال بقاؤه، رغم أن ما بني على باطل -الاحتلال- فهو باطل، فمن الغريب أن تطرح مسألة إقامة دولة للمحتل. ورغم أننا نرى هذا كله عيانا ولم يكبدنا المحتل عناء تخيل الفظاعة عبر القصص والكتب التي تروى عن هذه الإبادة، بل يرتكبها على مرأى ومسمع من الجميع ولم يفعل أي أحد -سوى المقاومة- شيئا غير التنديد والخطابات المهلهلة التي تتبدى فيها ملامح الهزيمة النفسية والرضا بواقع الضعف.
أعاد طوفان الأقصى توجيه البوصلة وتصحيح المسار، فمن كان يراهن على المجتمع الدولي أو على الحلفاء من بني جلدته وجنسه وعرقه ودينه؛ يرى بأم عينيه كيف تخلوا عنه جميعهم في مشهد يشبه السخرية السوداء. فكيف أقول للمقاوم بأنه مجرم حين يدافع عن وطنه وأرضه؟ وكيف أطلب من المقاوم أن يتبع المقاومة السلمية بينما يباد أهله وذووه؟. إنه أشبه بأن نقول إن الإمام البطل ناصر بن مرشد الذي حرر وطننا الحبيب من قبضة البرتغاليين بأنه إرهابي! وبأنه كان ينبغي أن نقدم للمحتل الورود كي يغادرنا بسلام ومحبة! فعجبا من هذا المنطق المأفون.
تحدثت في مقالي السابق «المقاومة بالكلمة» عن أهمية تصحيح المسار، وأرى بأن المناهج الدراسية التي تحتفي بالأرض والوطن وترسّخ قدسيتها لدى النشء حاجة ملحة وعاجلة. ونحن نرى كل يوم أصواتا غابت عنها هذه المفاهيم، فترى الوطن كالشركة التي يأخذ منها الموظف راتبه، ومتى انقطع الراتب غادرها إلى شركة أخرى. إن هذه المسألة خطيرة يجب علاجها عاجلا غير آجل، ويجب التعامل معها كما نتعامل مع مسائل الأمن القومي. فلا الأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي يحميان أحدا بحق، وكان الرأي العربي سابقا يظن بأن المجتمع الدولي لا يحمي العربي فقط؛ لكن الحرب الروسية الأوكرانية شاهد ناطق عن واقع الحال الذي يعيشه العالم المليء بالوحشية والظلم تطبيقا لمبدأ الغاب «البقاء للأقوى».
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: طوفان الأقصى
إقرأ أيضاً:
كمين بيت حانون.. دروس في تكتيكات المقاومة وإرباك العدو
يمانيون | تقرير
شهدت ساحة المواجهة في قطاع غزة خلال الساعات الماضية واحدة من أعقد الضربات النوعية التي نفذتها المقاومة الفلسطينية ضد قوات الاحتلال الصهيوني، وذلك عبر كمين محكم في محيط بلدة بيت حانون شمال القطاع، أسفر عن مقتل وإصابة عدد كبير من جنود العدو، وسط ارتباك شديد في صفوف قوات الإنقاذ وتخبط في القيادة الميدانية الصهيونية.
الكمين لم يكن مجرد عملية عسكرية ناجحة فحسب، بل مثّل تحولاً استراتيجياً عميقاً، أكد أن العقيدة البرية التي يعتمدها العدو في محاولاته لاجتياح قطاع غزة، لم تعد قابلة للتنفيذ دون تكلفة بشرية ومعنوية باهظة.
المقاومة، بما راكمته من خبرات وقدرات تفجيرية واستطلاعية، استطاعت أن تحوّل جنود العدو من “صيادين” كما كانوا يدّعون، إلى “صيد سهل” في كمائنها المحكمة، التي باتت تلتهم القوات الصهيونية الواحدة تلو الأخرى.
حرب استنزاف مفتوحة… ومعادلات جديدة
منذ انطلاقة معركة “الطوفان المقدس”، رفعت المقاومة من وتيرة العمليات المعقدة في عمق التماس والاشتباك، ونجحت في إدارة حرب استنزاف طويلة المدى، تقوم على إرهاق العدو نفسيًا وعسكريًا، وتشويش قراره السياسي والعسكري على حد سواء.
وفي كمين بيت حانون الأخير، استُخدمت عبوات ناسفة بقدرات تفجيرية عالية، أربكت تحركات العدو، وأفشلت محاولات الإنقاذ، حتى أن بعض وحدات الإسناد سقطت هي الأخرى في دائرة النيران.
وأمام هذا المشهد، لم تجد القيادات الصهيونية العسكرية ما تقوله سوى الاعتراف بالهزيمة الجزئية، وتقديم التعازي المتكررة لعائلات جديدة دخلت دائرة “الصدمة والفقد”.
صدمة في الإعلام الصهيوني.. من صيادين إلى صيد
أحد المحللين العسكريين الصهاينة عبّر بمرارة في تقرير بثته القناة 13 العبرية عن عمق الإخفاق قائلاً: “نحن أمام صباح صعب جداً، فهم يستخدمون عبوات بمستوى عالٍ جداً من القدرة التفجيرية. قلبي مع العائلات الجديدة التي انضمت إلى دائرة القتلى… لقد تحوّلنا من صيادين إلى صيد. نحن نمكث في غزة وهم يخططون للعمل ضدنا، يكمنون لقوات الإنقاذ، والجيش يحاول إنقاذ جنوده بأي ثمن… لكن لا أعلم إلى أين تقودنا هذه العمليات، ولماذا يحصل كل هذا؟”
هذه الكلمات، وإن جاءت في لحظة انفعال، إلا أنها تكشف حجم التصدع النفسي الذي أصاب الصفوف الخلفية للمؤسسة العسكرية الصهيونية، وأعاد إلى الأذهان سيناريوهات فشل مماثلة جرت في حرب تموز 2006 مع حزب الله في جنوب لبنان وفي معارك غزة السابقة، لكنها اليوم أكثر تعقيداً وخطورة.
نيتنياهو في واشنطن.. أزمة سياسية تتزامن مع الفشل الميداني
وفي الوقت الذي كانت فيه الدماء الصهيونية تسيل في بيت حانون، كان رئيس حكومة العدو بنيامين نيتنياهو يجري زيارة رسمية إلى واشنطن، يُقال إنها تهدف إلى تنسيق موقف سياسي جديد بشأن غزة، ومناقشة تسوية طويلة المدى تحت مظلة “وساطة أمريكية”. غير أن تزامن الكمين مع الزيارة حوّلها إلى مادة للسخرية والتساؤلات داخل الإعلام الصهيوني والدوائر السياسية.
في تقرير بثّته القناة 13 العبرية، علّق أحد المحللين السياسيين الصهاينة على اللقاء بين نيتنياهو وترامب قائلاً: “نيتنياهو جمع الكثير من التطلعات من قبل ترامب وويتكوف حول السلامة، لكن عندما نتكلم بالخلاصة: هل يمكن أن يقدّموا شيئاً فعلياً؟ لقد كانوا حذرين جداً، وتجنبوا الغوص في تفاصيل المفاوضات، حتى إن وصلت لمراحلها الأخيرة. فقد كنا في أوضاع شبيهة من قبل، وطالما لم نصل إلى خواتيم حقيقية، فلا يوجد شيء. وهذا تكرّر مراراً في السابق.”
المعارضة الصهيونية: أوقفوا النزيف… وتفاوضوا
الفشل الميداني لم يمرّ بهدوء داخل الكيان، فقد خرجت العديد من الأصوات، خاصة من داخل ما يُسمى بـ”المعارضة الصهيونية”، تطالب نيتنياهو بالإسراع في التوصل إلى اتفاق مع حركة حماس، يوقف ما وصفوه بـ”النزيف اليومي” الذي يتعرض له الجيش في قطاع غزة.
ودعت هذه الأوساط إلى الدخول في مفاوضات جدية بشأن استعادة الجنود الأسرى لدى المقاومة، بعد أن بات واضحًا أن الحسم العسكري لن يحقق أي إنجاز يُذكر.
وفي هذا السياق، نشرت صحيفة “يديعوت أحرنوت” العبرية افتتاحية حملت عنوان “الجنود يُقتلون… والقيادة تائهة”، جاء فيها:”لقد باتت التكلفة اليومية للحرب أعلى من أي وقت مضى. على الحكومة أن تتحلى بالشجاعة، وتقرّ بأن الوقت قد حان لحلول واقعية، لا أوهام انتصار مستحيل.”
المقاومة تصوغ معادلة الردع الجديدة
ما جرى في بيت حانون ليس مجرد ضربة أمنية، بل هو عنوان لفصل جديد من المعركة. المقاومة الفلسطينية أثبتت أنها قادرة على تعطيل الاستراتيجية البرية للعدو، وتحويل أي تحرك بري إلى مقبرة للجنود والضباط.
وفي المقابل، يعيش الكيان أزمة قرار حقيقية، تتجلى في تردد القيادة، وانقسام النخب، وانهيار المعنويات داخل المجتمع الصهيوني.
ومع تزايد القتلى وتوسع العمليات النوعية للمقاومة، يقترب العدو من مرحلة اللاعودة، حيث لا تهدئة تلوح في الأفق، ولا حسم يبدو ممكناً، ولا ثقة بقيادته السياسية والعسكرية، التي لم تُنتج سوى الدماء والخيبات. أما المقاومة، فقد دخلت مرحلة ترسيم المعادلات الكبرى… وعلى العدو أن يستعد للأسوأ.