ظلت قضية الإصلاح السياسى فى مصر مثار جدل شديد بين شد وجذب فى ظل الأنظمة التى تتابعت على السلطة فى فترة الجمهورية الأولى، وتحولت الأحزاب السياسية أمام الضغوط إلى مجرد ديكور يحمل وجه النظام، انتهت بأن دفعت الدولة بالكامل ثمنه بعد ثورة 25 يناير 2011! وكانت قد شهدت مصر أكثر من تجربة حزبية، أولها بدأت فى العشرينات بعد ثورة 1919، وانتهت بإلغاء الأحزاب السياسية بعد ثورة 23 يوليو، ثم تجربة الرئيس السادات بإنهاء التنظيم السياسى الواحد ممثلاً فى الاتحاد الاشتراكى وتفكيكه إلى أحزاب يسار ويمين ووسط، الوسط مثل حزب مصر الذى أصبح الحزب الوطنى الحاكم، وأحزاب الأحرار والتجمع يميناً ويساراً، وساعد السادات فى إنشاء حزب العمل الاشتراكى، وظهر حزب الوفد، والحزب الناصرى وعدد آخر من الأحزاب الصغيرة التى ظلت بلا وجود أو فاعلية.
استمر الحزب الوطنى بالأغلبية الميكانيكية حاكماً طوال 30 عاماً فى عهد مبارك، وتآكلت معظم الأحزاب بحكم الزمن والتقادم وظلت غائبة عن مفهومها التقليدى.
أمام رفض الأحزاب السياسية وفى مقدمتها حزب الوفد العيش فى جلباب السلطة دون إصلاح سياسى حقيقى يحترم التعددية الحزبية والتداول السلمى للسلطة، وأمام جمود دستور 1971 الذى صدر فى عهد السادات دون تعديل لمدة قاربت على 35 عاماً، تقدم مبارك بحزمة تعديلات دستورية عام 2005 كان على رأسها تعديل المادة 76 من الدستور التى نقلت طريقة اختيار رئيس الجمهورية من نظام الاستفتاء الذى كان سائداً منذ قيام ثورة 23 يوليو 1952، إلى نظام الانتخاب بين أكثر من مرشح، وكشف التطبيق للتعديلات الدستورية أنها مجرد كمبنى سياسى للأحزاب السياسية، وأنها مقدمة لتوريث الحكم! وظل الحزب الوطنى هو المهيمن الذى كان يحصل فى كل انتخابات عامة على نسبة الثلاث تسعات بكل الأساليب.
دارت الأيام ومدتها، وجرت انتخابات مجلس الشعب عام 2010، واستولى الحزب الوطنى على جميع مقاعد المجلس، وكان هذا التكوين بمثابة القشة التى قصمت ظهر النظام، حيث كان تزوير الانتخابات أحد أسباب قيام ثورة 25 يناير 2011 وتم حل الحزب الوطنى، وسقط النظام، ولم تقوَ الاحزاب السياسية التى كانت مهمشة فى ذلك الوقت، وتقريباً لا وجود لها فى الشارع على ضبط الإيقاع، وظهرت جماعة الإخوان التى كانت أكثر تنظيماً، واستولت على السلطة، وكشفت عن نواياها بأنها كانت جزءاً من مخطط خارجى لتقسيم البلاد، وتحويل سيناء إلى إمارة، وتعاملت مع الوطن على أنه حفنة تراب، واستطاع الشعب المصرى الذى انحاز له الجيش إسقاط جماعة الإخوان.
عادت مصر إلى المصريين، وجاء نظام 30 يونيو الذى استطاع أن يجعل الشعب والجيش والشرطة يداً واحدة، وتم القضاء على الإرهاب، ودب الاستقرار والأمن فى قلب الوطن، وظل الحديث عن الإصلاح قائماً ولكن بطريقة مختلفة، وتحدث الرئيس السيسى فى أكثر من مناسبة بأن الإصلاح السياسى مرتبط بحركة الجماهير والأحزاب السياسية وقدرتها على التأثير، وقام بدمج الشباب وأعضاء تنسيقية الأحزاب فى حركة المحافظين وفى التعديل الوزارى، كما أنه ليس لديه حزب حاكم، وليس رئيساً لحزب كما كان فى السابق، ويريد مؤسسات لديها القدرة على منع استهداف الدولة، وتحدث عن رغبته فى اندماج الأحزاب السياسية الموجودة على الساحة فى أربعة أو خمسة أحزاب من أجل المنافسة، كما دعا إلى حوار وطنى يشارك فيه جميع المصريين لتحديد أولويات العمل، وفى عهد الرئيس السيسى عادت الفرقة البرلمانية الثانية ممثلة فى مجلس الشيوخ.
ويستكمل الحديث عن الإصلاح الدكتور هانى سرى الدين، أستاذ القانون التجارى بكلية الحقوق جامعة القاهرة ورئيس لجنة الشئون الاقتصادية والمالية والاستثمار بمجلس الشيوخ الذى أهدانى كتابه الجديد ويحمل عنوان إصلاح مصر بين الاقتصاد والسياسية وهو كتاب جدير بالقراءة من متخصص يحاول تقديم رؤى إصلاح حقيقى لمصر سعياً لواقع أفضل ومستقبل أعظم للأجيال القادمة، وهو أحد المؤمنين بأن الإصلاح الاقتصادى والسياسى وجهان لعملة واحدة، وأن التنمية بمفهومها الشامل لن تحقق إلا بإصلاح اقتصادى مدعوم بإصلاح سياسى، وأن التنمية المستدامة تحقق أيضاً بتطبيق مبدأ سيادة القانون، وتشجيع المشروعات الصغيرة، والاهتمام بالتعليم والصحة ودعم العدالة الاجتماعية مع احترام حقوق الإنسان ويكون ذلك مدخلاً مناسباً إلى الديمقراطية الكاملة. ويشيد الدكتور هانى سرى الدين ويقول للتاريخ وبلا حرج أنه كان وما زال مؤمناً بعظمة الدور الذى لعبه الرئيس عبدالفتاح السيسى فى حماية الأمن القومى المصرى، والحفاظ على وحدة وتماسك الدولة المصرية، والتعامل بحسم مع أزمات حدود مصر الشرقية والغربية والحفاظ على أراضى الوطن من التفكيك.
وعلى المستوى الشخصى فإن الدكتور هانى سرى الدين ومن خلال كتابه القيم صحح لى فكرتى عن السياسة التى كنا نرددها وتحت طلاب بأن السياسة هى فن الكذب، فقال إن البعض يتصور أن السياسة هى أن تراوغ، وتكذب وتدعى، ويعتقد البعض أن السياسى البارع هو بالضرورة إنسان ماكر، خبيث، يظهر غير ما يبطن، ويخدع الآخرين، ويلفق أموراً لتحقيق غايات يعبثها، لكن هؤلاء هكذا يقول الدكتور هانى سرى الدين أن الانجازات العظيمة فى العالم الحديث حققها ساسة عظام ارتكزوا فى الأساس على الأخلاق والقيم النبيلة، وهؤلاء لا يعرفون أن تبرير كافة الوسائل فى سبيل تحقيق الغايات لا يصنع مجدًا ولا يحقق نفعاً.
كما يقول إن الأمم التى نجحت فى تخطى صعابها، وخطت نحو المستقبل بنيان ونجاح هى تلك التى صحت فيها الممارسات السياسية الديمقراطية، وتخلت عن فكرة «الكل فى واحد» وفتحت الأبواب لتعددية حقيقية. ودعا الأحزاب السياسية بالنزول للناس والاحتكام بمشكلاتهم وهمومهم، والعمل على وضع حلول حقيقية لها، كما طالب الأحزاب السياسية بنقد ذاتها، ومراجعة أدائها واستكمال بناء مؤسساتها، والخروج من فخاخ الخلافات الضيقة إلى رحاية التفاعل المباشر من المواطنة.
كتاب إصلاح مصر بين الاقتصاد والسياسة يحتوى على توصيات مهمة من أستاذ متخصص، دعا فيها إلى طرح تصورات وأفكار وبرامج ومقترحات من كافة التيارات السياسية، بما يضيف إلى صانع القرار وينير له جوانب قد تبدو ملتبسة.
المصدر: بوابة الوفد
كلمات دلالية: حكاية وطن بين الاقتصاد والسياسة مصر الاحزاب السياسية الدولة بالكامل الحزب الوطنى أحزاب الأحرار الأحزاب السیاسیة الحزب الوطنى
إقرأ أيضاً:
د. منال إمام تكتب: دبلوماسية مصر الشامخة ( 3 )
تناولنا في الفترة الماضية الدبلوماسية من عمق التاريخ إلى تحديات الحاضر ثم اعقبها في الاسبوع الماضي الدبلوماسية المصرية في العهد الإسلامي واليوم نختتم هذه الحلقات بالجزء الأخير "الدبلوماسية المصرية في العصر الحديث" منذ لحظة ميلاد مصر الحديثة من جديد: حين جاء محمد علي، كانت مصر كمن يستيقظ من سبات طويل… فنهض بها، وبنى لها أشكالًا جديدة من القوة:
• علاقات دولية مستقلة.
• بعثات علمية تنقل مصر إلى المستقبل. رؤية تجعل من مصر دولة تتكئ على ذاتها، وتكتب قرارها بيدها وتعمل على بناء دولة قوية وقادرة. كانت تلك البداية الحقيقية لعودة الشخصية المصرية إلى المسرح الدولي بقوة ووضوح.
وفي زمن الاحتلال… وصوت مصر الذي لم يُكسر ورغم وطأة الاحتلال البريطاني، لم يخفت الصوت المصري فقد تحوّلت الدبلوماسية إلى صوت الشعب من الثورة العرابية إلى ثورة 1919، كانت مصر تقول للعالم: إن الحرية ليست مطلبًا… بل قدرًا. وإن الاستقلال ليس خيارًا… بل حقًا خالدًا لا يمكن التفريط فيه. وكانت الإرادة الوطنية أقوى من أي قيد. ثم ثورة يوليو: حين ارتفعت الراية المصرية عاليًا: لتفتح فصلًا جديدًا من القوة السياسية فمع ثورة 1952، ارتفعت مصر من جديد، وتحدثت أمام العالم بصوتٍ قوي وواثق:
• تأميم قناة السويس لم يكن قرارًا اقتصاديًا فحسب، بل كان صرخة سيادة أعادت لمصر كرامتها.
• والعدوان الثلاثي كان ساحة أثبتت فيها مصر أن الحق إذا صاحبه ثبات… انتصر.
• ثم جاءت حركة عدم الانحياز لتجعل من مصر قلبًا ينبض لشعوب العالم الطامحة للحرية.
أكتوبر 1973: دبلوماسية النصر ودبلوماسية السلام
قدمت حرب أكتوبر درسًا للعالم أن مصر حين تقاتل… تنتصر.
وحين تتفاوض… تنتصر أيضًا. استردت مصر أرضها بعرقها ودماء أبنائها، ثم أتمت معركة السلام بقدرة دبلوماسية هادئة وشجاعة، فاستردت أرضها، ورسّخت نهجًا دبلوماسيًا قائمًا على القوة والعقل.
الدبلوماسية المصرية الحديثة: صوت العقل وقوة الثبات:
في زمن تتشابك فيه الملفات وتتعقد فيه السياسة، تقف مصر اليوم بثقة:
• تدير ملف سد النهضة بثبات يحافظ على الحقوق دون التفريط بجوارها الأفريقي.
• تتصدر الوساطة في القضية الفلسطينية بروح المسؤولية والتاريخ.
• تعود بقوة إلى حضن إفريقيا، وتبني علاقات إقليمية تُعيد التوازن لمنطقة مضطربة.
• وتدافع عن أمن البحر الأحمر وشرق المتوسط، لتبقى مصر كما كانت دائمًا بوابة الأمان في الشرق.
أن الدبلوماسية المصرية عبر العصر الحديث كانت مسيرة قوة وحكمة… أعادت لمصر صوتها، وصاغت لها مكانتها، وجعلتها ثابتة في عالم لا يثبت فيه شيء.
• لقد كانت مصر وما تزال صانعة قرار، وواحة سلام، وركيزة استقرار، وصوتًا للعقل والحكمة في زمن طغى فيه الضجيج.