رباعيات جنين.. كتيبة شعراء تمجد مقاومة المدينة ومخيمها
تاريخ النشر: 12th, November 2023 GMT
عمان – صرخة أطلقها وزير الثقافة الأردني الأسبق الدكتور صلاح جرار على وسائل التواصل الاجتماعي لحظة اقتحام جنين ومخيمها فجر الثالث من يوليو/تموز 2023 بمشاركة ألف جندي إسرائيلي ومئات الآليات العسكرية وما تلاه من قتل وتدمير الآلة الصهيونية وصمود أسطوري للمقاومين تضمنت رباعية شعرية، قال فيها:
جنين يا درة البلدان والمدن .
فيك المخيم ما كلّت عزائمه .. وهمة لم تهن يوما ولم يكن
جنين صبرا فوعد الله منتظر .. إن قال للأمر كن في طرفة يكن
أنت التي وهب الرحمن ساكنها .. عزا وجاها وسيفا غير مرتهن
بدوره، التقط الشاعر الدكتور سعيد يعقوب الصرخة، ولبّى النداء برباعية مماثلة وكأنهما في مبارزة شعرية ذكرتنا بسوق عكاظ لتتوالى بعدها مشاركات عربية من كتيبة من الشعراء التي تساند الصامدين على الأرض في مخيم جنين:
ارفع جبينك واهتف عشت يا وطني .. حرا فلولاك معنى المجد لم يكن
خطّت جنين لنا سفر الفخار دما.. تضمخت بشداء جبهة الزمن
يا قلعة العز ما اهتزت جوانبها.. النصر بالصبر مقرون فلا تهني
وفي مخيمها رمز الصمود أرى .. بشرى لما جاء في القرآن والسنن
هكذا انبثقت فكرة ديوان "رباعيات جنين" وترجمت لواقع حيث شارك 125 شاعرا عربيا في رباعيات اقترب بعضها من النبرة الحماسية الخطابية، لكن في مجملها تنبئ عن عين شعرية لا يزال سياقها في الوجدان العربي، والتزمت بالوزن والقافية والرؤى لتكون في مجموعها ما أطلقوا عليه "المعلقة الحمراء" و "جنين البطولة والصمود" نصرة للمدينة ونضال شعبها البطل وصمودها أمام أشرس هجمة استعمارية وتسجل موقفا، وتقدم وثيقة للأجيال القادمة بأن الشعراء العرب يرفضون الذل والهوان، ولم يصمتوا حيال ما يجري في زمن الخذلان والتردي والاستخذاء.
قلم عربي شريفوجاء في الإهداء "كل قطرة سالت من أجل فلسطين.. كل حبة عرق بذلت من أجل فلسطين.. كل ذرة تراب انتفضت في وجه المحتلين.. إلى أرواح شهداء جنين ومخيمها وفلسطين ومدنها وقراها ومخيماتها.. إلى الجرحى والأسرى والمعتقلين في سجون الاحتلال الصهيوني.. إلى أمهات الشهداء وآبائهم وأهاليهم في كل مكان من فلسطين والأرض العربية.. إلى كل الغيورين على فلسطين ومقدساتها.. إلى كل صاحب قلم عربي شريف.. إلى جنين وأشبالها وصناديدها وأبطالها الذين قدموا نموذجا في النضال ومقاومة الاحتلال والتضحية من أجل الأوطان والإنسان".
وديوان "رباعيات جنين" هو الثاني من نوعه حيث جمع باحثون في التسعينيات من القرن الـ20 حزمة من القصائد أسموها "ديوان الانتفاضة" لأحمد موسى الخطيب وديوان "الانتفاضة الشعبي" لعبد اللطيف البرغوثي ضم مجموعة من الأغاني ذاعت في الانتفاضة الأولى.
وهناك ديوان "الشهيد محمد الدرة" الذي صدر في ثلاثة أجزاء بمجلد واحد عن مؤسسة جائزة عبد العزيز البابطين للإبداع الشعري، وضم 1682 قصيدة وديوان "مختارات من شعر انتفاضة الأقصى المباركة" جمعه الناقد والأكاديمي يوسف شحدة الكحلوت شمل 94 قصيدة تراوحت بين الكلاسيكي والتفعيلة.
وقبل الولوج في التفاصيل من الأهمية بمكان الإشارة إلى أن ديوان "رباعيات جنين" أعده وحرره الدكتور صلاح جرار والشاعر سعيد يعقوب، وأخرجه فنيا سمير اليوسف بمشاركة 125 شاعرا من 12 بلدا عربيا هي الأردن وفلسطين واليمن والعراق وسورية والجزائر ومصر وموريتانيا، في حين اقتصرت لبنان والمغرب وسلطنة عمان على مشاركة واحدة لكل دولة.
وكما جاء في تقديم الديوان أعده الأكاديمي الدكتور خالد الجبر، فليس غريبا أن يحوز الأردن وفلسطين على النسبة الكبرى من المشاركات، فما زلنا نردد "شعبا واحدا لا شعبين.. وبلد واحد برئتين" فيما تشير مشاركة عربية في الكتاب إلى أن فلسطين لا تزال حية في الوجدان الحي لأبناء العروبة الإسلام.
والرباعيات -وفق الدكتور الجبر- تشبه إلى حد كبير تلك الأبيات من الرجز التي كان المقاتل يلقيها في المعركة يثير فيها حمية المقاتلين، ويستثير عزائمهم على مواصلة القتال لذلك، فهي شعر في مواجهة صاروخ الطائرة وقذيقة الدبابة أو المدفع ورصاصة القناص وسن الجرافة.
لماذا جنين؟يجيب عن هذا السؤال الدكتور الجبر بقوله إنه تساؤل مشروع، غير أن المسألة أعمق وأوثق صلة بنضال الشعب الفلسطيني كله وما جنين سوى رمز للفعل النضالي على الأرض الفلسطينية كلها، وفي الشتات فقوات الاحتلال اجتاحت مخيم جنين عدة مرات لكنه كان ينهض من جديد ومعه الفعل المقاوم أقوى وأشد تماسكا وإصرارا على المواجهة.
ويضيف أن صمود المخيم قاد إلى تصاعد حدة مواجهة الاحتلال في مناطق أخرى من الضفة الغربية المحتلة وبين جنين ونابلس ظهرت كتائب جديدة للمقاومة عابرة للتنظيمات والحركات والفصائل، وأن أكثر المنتمين لها من الشباب الذين ولدوا في ظل اتفاق أوسلو وغمرة وعود لا تتحقق بالسلام والرخاء وتآكل الأرض بالاستيطان والطرق الالتفافية وتعسر الحياة بالحواجز والحصار والاعتقال والقتل وكثرة الاقتحامات.
ومن وجهة نظر الجبر، فإن جنين وخاصة مخيمها أصبحت رمزا حقيقيا لمقاومة فلسطينية مثابرة لا تكل ولا تستجدي ولا تستعطي أحدا "مقاومة تأخذ على عاتقها الدفاع عن الرمق الأخير من الوجود الفلسطيني والكرامة العربية".
وبشأن أهمية الكلمة، قال الشاعر سعيد يعقوب إن الشعر لم يكن في يوم من الأيام إلا حاضرا بقوة في حياة العرب، ولا سيما في الأحداث الكبرى والمواقف الاستثنائية ذلك أن الشاعر منذ الجاهلية حتى عصرنا الحالي كان ضمير قبيلته والصوت القوي المعبر عن هواجس وأفكار مجتمعه، ولم يتخل الشعراء عن مهمتهم التي يقتضي الواجب أن يقوموا بها.
وأضاف في حديث للجزيرة نت أن الشعراء في كل العصور يسجلون ويدونون بأشعارهم الأحداث الكبرى في المفاصل التاريخية والمحطات المهمة، ولذلك قيل "الشعر ديوان العرب" وقيل في الأثر لا يترك العرب الشعر حتى تترك الإبل الحنين، ولذلك نجد الشعراء العرب وخاصة الذين عالجوا القضايا الوطنية حاضرين بقوة " الشعراء ضمير الأمة ولسان حالها".
ويضيف يعقوب "يعتقد الناس أن الكلمة أو الشعر لا قيمة لهما، وهذا أمر مناف للحقيقة ومخالف للواقع، فللكلمة دور قوي ومؤثر في صياغة الوجدان الجمعي والعقل الكلي للأمة.. تترجم إلى فعل يقود للتحريض والتثوير والتغيير".
وتابع أن "العمل يجري حاليا على إصدار ديوان جديد خلال أيام بعنوان "طوفان الأقصى" بمشاركة 210 شعراء من دول عربية نتاجهم يصطف في دعم ومساندة المقاومة، ويصور مشاهد الدماء وجرائم الحرب وقتل النساء والأطفال والوضع الصعب في غزة."
كما تستحضر القصائد التاريخ ومواقف البطولة، وتدعو لإحياء أمجاد الأمة كما حصل في اليرموك وحطين والكرامة، بحسب الأكاديمي والشاعر الأردني.
مقتطفات شعريةومن مقتطفات الكتاب يقول وزير الثقافة الأسبق الشاعر حيدر محمود بأنه في مشاركته:
هذا الزمان الجنيني الذي وعدت.. به فلسطين فاحملني إلى وطني
لأستعيد وجودي فيه من عدم.. وأنفض الطين عن روحي وعن بدني
أنا الحنين الذي ما زال في رحم الأم.. التي عندها الميلاد لم يحن
لكنها خلقت من قبل تسميتي.. إن لم تكن من مجانيني فلا تكن
ومن مشاركة الشاعر الفلسطيني جواد يونس أبو هليل:
جنين يا منبع الأمجاد في وطني.. وموئل الصيد من فاس إلى عدن
على رباك سما القسام مئذنة.. كانت تؤذن بالرشاش في المدن
جنين يا سيف حق مشهرا أبدا.. في أوجه السفلة الغازين والخون
رؤوسهم أينعت والعضب صاحبها.. فدحرجيها فما فيها سوى العفن
ومن مشاركة السوري منذر غنام:
جنين يا غضبة الأحرار في زمن.. هدّ العروبة من جور ومن محن
قومي أعيدي لنا مجدا له ألق.. وجدّدي العهد إن الأسد لم تهن
يا ثورة الحق نبراسا له سطعت.. منك الشموس ومنك الفجر فليكن
اللّه أكبر من للكفر غير فتى.. يتبر الباطل المأفون كالعفن
وفي حديث للجزيرة نت قال الشاعر سليم أحمد حسن المشارك في ديوان "رباعيات جنين" إن "للكلمة قوة السحر أينما قيلت سواء باللهجة الشعبية المحكية أو بلغة فصيحة في القصيدة العربية، فهي تثير الحماس، وتشعل الموقف وتحث على الإيثار والتضحية".
ويرى حسن أن القصيدة الوطنية تمثل رسالة تؤدي دورا رئيسا في حياة الشعوب كما هي تعبير صادق عن ضمير المواطنين، ومن وجهة نظري فهي مقاومة ناعمة تسهم في تشكيل الوعي الجمعي وتعبئة الجماهير وتحريضها ضد المحتل فكم من قصيدة حولت لأغنية كانت رافعة للمعنويات حتى في أصعب الظروف.
لكنه استدرك القول أن تأثير القصيدة مقبول لدى الشعوب العربية فقط وهي حسب رأيه "شعوب مقهورة مقموعة والحمد لله أن سمح لنا بالتظاهر لا أكثر" وقال إن "تأثير القصيدة لا يصل للقادة".
ومن مشاركة الشاعر سليم أحمد حسن في "رباعيات جنين":
جنين عصفورة تشدو على فنن.. عاشت هدوءا وحبا في مدى الزمن
وجاءها الصقر مزهوا بقوته.. فعاجلته بما أرداه بالكفن
جنين مكلومة لكن بفرحتها.. بالنصر غطّت على الأحزان والمحن
أبناؤها الصيد كانوا رمز منعتها.. الله يحفظهم بالسر والعلن
ولم تقتصر المشاركة على الرجال فحسب، بل هناك 21 شاعرة لبّين صرخة الدكتور جرار منهن السورية ليلاس زرزور:
جنين يا جنة يزهو بها وطني .. شوقي إليك كشوق الروض للمزن
إلى المخيّم إذ مرّت به محن .. وفيك تختبر الأبطال في المحن
فمن رآك على قرب ستدهشه .. مسافة الحق بين العين والأذن
فلن نساوم عن شبر وذا دمنا .. يرويك ما صدحت ورقاء في فنن
المصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: ت جنین
إقرأ أيضاً:
مقاومة الاستعمار تبدأ بمحو الاستبداد
في منطقتنا العربية، نعيش سنوات شديدة، ألم سياسي واقتصادي وثقافي، ذاتي وجماعي، حيث عانت الشعوب من إفقار مُتعمَّد بسبب سياسات أنظمتها الاقتصادية (مصر مثالا)، فضلا عن القمع السياسي الذي لم يمارسه أي نظام ما قبل حكم عبد الفتاح السيسي. كذلك الحال في الأردن والسعودية ولبنان وتونس واليمن وسوريا وليبيا، بلدان وشعوب مُنهكة ومتعبة ومسجونة ولاجئة ومَنفية خارج بلادها.
بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، ومع بدء الإبادة الإسرائيلية على قطاع غزة، فضلا عن العمليات العسكرية والاستيطان في الضفة الغربية، وبدء الحرب وتوسعها في لبنان، وإلى الآن مع استمرار الخروقات الإسرائيلية بالقصف واحتلال القرى الحدودية، بالإضافة إلى القصف الإسرائيلي والتوغل بريا داخل سوريا قبل وبعد سقوط نظام الأسد.. في هذه اللحظة، اجتمعت قوى هيمنة الاستبداد والاستعمار معا على الشعوب العربية، فلم تعد هذه الشعوب تفهم كيفية الخلاص من كل هذا القهر الواقع عليها، من الاستبداد والاستعمار. وهذه الإشكالية طالما طُرحت بزاوية أُحادية من قبل أنظمة وحركات ادَّعت أن الاحتلال الإسرائيلي ومن ورائه الهيمنة الإمبريالية هما السبب الرئيسي في كل الإشكاليات الكونّية التي تواجه الشعوب، والخلاص من هذا الاحتلال هو خلاص من الهيمنة والعيش بحرية.
لطالما تاجرت بهذا أنظمة مثل البعث السوري والوليّ الإيراني وحركات علمانية وشيوعية ودينية، مثل الأحزاب القومية والشيوعية في سوريا ولبنان والأردن، وحزب الله في لبنان، ولم تكن هذه الأنظمة والحركات سوى قامعة لشعوبِها ومجتمعاتها، فقد عاش نظام البعث أكثر من 50 عاما مُتغذّيا على سردية تحرير فلسطين، وهو بنفسه من قام بقتل الفلسطينيين وحصارهِم وتجويعهم في المخيمات (مخيم تل الزعتر في لبنان- 1976، ومخيم اليرموك- 2012)، كما دائما ما لوّح حزب الله باستخدام العنف وعودة الحرب الأهلية حين تعلو أصوات مطالبة بإسقاط نظام الطوائف اللبناني. وانتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كانت مثالا واضحا على أن حزب الله لا يُريد أي إصلاح في لبنان، وأن الهيمنة الاقتصادية والسياسية المُقسَّمة على ملوك الطوائف والحرب الأهلية، وهو من بينها، شيء مُرض له تماما، مع حفاظه على سردية مقاومة الاحتلال وتحرير فلسطين، وهى سردية صحيحة بالممارسة التاريخية، لكنه حزب استبدادي، بما أنه جزء مهيمن قبل أن تضعف هذه الهيمنة -بفعل الضربات الإسرائيلية- على الدولة اللبنانية، فضلا عن تاريخ الحزب في التخوين والترهيب والاغتيالات من قبل آلته الإعلامية والعسكرية.
أما في مصر، فلولا نظام السيسي الاستبدادي، لما كان المصريون تعرضوا لكل هذا القمع في الميادين والسجون والمنافي، وبالرغم من الدعم الذي جاء من قوى إمبريالية مثل الولايات المتحدة الأمريكية، بالاعتراف الدولي والمساعدات والصفقات العسكرية، وهو ما ساعده في تثبيت شرعيته، ومن ثم الهيمنة والبقاء في الحكم، لكن هذا لا ينفي أو يتعارض، فقتل المئات يوم اعتصام رابعة العدوية في ساعات قليلة كان بقرار مصري لا استعماري. حتى خذلان أهل غزة خلال إبادتهم من قبل إسرائيل، كان محرّكه الرئيس السياسات الداخلية للاستبداد، لا قوى خارجية، ربما تدعمه أو لا تدعمه حسب السياق السياسي والإقليمي. كذلك عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون، ومنهم المئات بسبب دعم فلسطين، وعشرات الآلاف مثلهم في المنافي، لا يمنعهم من الحرية والعودة إلى أوطانهم سوى نظام السيسي، لا الكونجرس الأمريكي.
لم يكن الحال في الأردن مختلفا كثيرا من حيث العقلية الاستبدادية والأمنية التي تحكم الحياة، والتي عملت خلال العقود الماضية عن تفكيك أي وجود للمقاومة ضد إسرائيل، وبات يُعرف الأردن بمدى قوة تنسيقه الأمني مع إسرائيل، تنسيق مُمتد من الأردن حتى الضفة الغربية. آخر عمليات هذا التفكيك هو القبض على شباب أردنيين أسموهم "خلية" تعمل من أجل تهديد "الأمن القومي" الأردني.
لم يكن الاستعمار هو الذي يراقب ويُعاقب ويُرهب ويسجن ويقتل، بل الأنظمة العربية الاستبدادية هي التي -وبكل قناعة- تفعل كل ذلك، وتطبّع وتنسق مع إسرائيل من أجل استقرارها وحمايتها.
لكن، أنظمة مصر والأردن والسعودية والإمارات والمغرب لم تقل إنها تعادي إسرائيل وتُقاومها، بل هي، وبكل صراحة معلنة، في سلام وتطبيع وتنسيق معها، فمن صنع أسطوانة محاربة الاستعمار الإمبريالي، بغض النظر عن الاستبداد المحلي، هو نظام عبد الناصر، ومن بعده جاءت لمنافسة أنظمة البعث العراقي والسوري، ومن ثم لحقت بهم إيران بعد ثورتها، والحركات التابعة لها في المنطقة، أبرزهم جماعة أنصار الله في اليمن وحزب الله ولبنان، إذ هي، وبشكل دائم، تحرّض جمهورها حيال غضِّ النظر عن الفساد والسجون والاغتيالات والهيمنة، وكل هذا من أجل مقاومة الاستعمار، ولا أحد يخرج ليقول: ما الذي سيُفسده تطبيق الحريات والعدالة والشفافية وتداول السُلطة في مسألة مقاومة الإمبريالية؟ أين التعارض؟ فكلما كان الشعب العربي حرّا كلما قاوم إسرائيل، فلم تكن إسرائيل في لحظة وجودية خطيرة كالتي شعرت بها حين انتصرت الثورات العربية، لا سيما في مصر، لكن هذه الأنظمة وجماعاتها، لا تريد سوى سرديتها ولا تقبل أي اختلاف معها.
في لبنان، لا سيما بعد السابع من أكتوبر، لم يكن خطاب حزب الله متغلغلا داخل مجتمعه الشيعي فحسب، بل حتى في أوساط، أو بمعنى أوقع، بقايا أوساط لما كانوا يُعرفون بـ"القوميين واليساريين" العرب، يتامى التنظيم والأيديولوجيا. فلم تعد تستطيع التفرقة بين خطاب الشيعي من الشيوعي، إذ كل ما يقوله الشيوعي هو خطاب مُشيّع بامتياز، بل هم الآن يتحدثون عن حزب الله في واقعه اللبناني، كأنّه أصبح مجموعة مكونة من بضعة أفراد، أناركيين، يحملون سلاحا خفيفا ويقاومون إسرائيل، من ظل الجبال، خائفين من الحكومة اللبنانية التابعة للهيمنة الإمبريالية، والتي دائما ما توجّه لها الشتائم على خروقات إسرائيل للاتفاق، وكأنها هي التي أبرمت الاتفاق لا حزب الله مُفوضا نبيه بري، وأنه واقعيا سلاح الدولة دائما ما كان أضعف من سلاح حزب الله.
كذلك تعامُوا كلية عن توجيه أي أسئلة لحزب الله منذ بداية الحرب إلى الآن، مثل، لماذا دخل الحرب ولم يتعد قواعد الاشتباك، ويستبِق ويساند غزة بشكل أقوى؟ ومن أين أتى كل هذا الاختراق الإسرائيلي داخله؟ لماذا وافق نصر الله، قبل اغتياله، على فك ارتباط الجبهات؟ لماذا وافق الحزب على وقف إطلاق النار مع إسرائيل؟ لماذا لا يرد الآن على اختراقاتها؟ لماذا لم يسع بما أنّه جزء أساسي من الدولة، للإفراج عن الشباب الفلسطيني المقاوم المقبوض عليهم؟ ولماذا إيران، وهو جزء عضوي منها، تتفاوض مع الولايات المتحدة؟ وهل سيقدّم الحزب مراجعاته حيال سنوات تدخله في سوريا مع حليفه الأسد، قبل سقوطه؟ لكنهم مُنشعلون بترديد شعارات "الموت لأمريكا" وإسرائيل "شرٌ مطلق"، وهكذا من بديهيات ملَّ العقل العربي من تكرارها، دون أي عمل حقيقي يُسائل وينظم ويبني، ويثور على الحكومة اللبنانية إن اتجهت نحو التطبيع، بل ويسعى بشكل حقيقي نحو التحرر من الهيمنة الداخلية والخارجية معا.
نهاية، ربما في هذه اللحظة تحديدا من واقع الشعب العربي، يجب السعي نحو إدراك حقيقي لما آلت إليه الأمور، وأن يُنظم أو يُعيد العرب تنظيم أنفسهم من جديد في وجه كل مفاصل الاستبداد، في البلديات والنقابات والمجالس النيابية واتحادات الطلاب والأحزاب، وكل ما تتركه السُلطة كمساحة عمل يجب استغلالها وملؤها بالأصوات السياسية والأخلاقية الحرّة التي تقاوم. استعادة القيم الإنسانية والسياسية العادلة، كما أنها تُهدم في سنوات، أيضا تحتاج إلى سنوات كي يعاد بناؤها مرة اُخرى. آفة منطقتنا الاستبداد، ومُقاومته هو بداية استعادة كل شيء، كل قيمة تحررّية للأرض والإنسانية.