«كوب».. رحلة متواصلة لإنقاذ الكوكب
تاريخ النشر: 14th, November 2023 GMT
طه حسيب (أبوظبي)
منذ تمخض من «قمة الأرض» التي عقدت في ريودي جانيرو بالبرازيل خلال الفترة من 3 إلى 14 يونيو1992، يتطلع العالم إلى مؤتمر الأطراف «كوب»، ليكون فعالية عالمية كبرى تضع جميع دول العالم أمام فرصة حقيقية لإنقاذ الكوكب من تداعيات التغير المناخي، بتوحيد جهود دول العالم لحماية الكوكب، وإعادة الاعتبار للطبيعة كونها أصلاً من الأصول الثابتة للاقتصاد العالمي والاستقرار الاجتماعي.
ومؤتمرات الأمم المتحدة للتغير المناخي، تنعقد سنوياً ضمن إطار اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي (UNFCCC)، أو الاجتماع الرسمي للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي لتقييم التقدم المحرز في التعامل مع التغير المناخي- بدءاً من منتصف التسعينيات- للتفاوض بشأن اتفاقية كيوتو لوضع التزامات ملزمة قانوناً للدول المتقدمة للحد من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري.
عُرف كل مؤتمر من المؤتمرات منذ عام 2005 على أنه «مؤتمر الأطراف العامل كاجتماع للأطراف في اتفاقية كيوتو»، وخلال الفترة من 2011 وحتى 2015 شكلت هذه المؤتمرات ساحة للتفاوض على اتفاقية باريس، علماً بأن الموافقة على أي نص نهائي لمؤتمر الأطراف يتم إقرارها عبر توافق الآراء.
البداية من برلين
عقد أول مؤتمر للأمم المتحدة حول التغير المناخي في عام 1995 في برلين. ومن خلال إطلالة سريعة على تاريخ انعقاد مؤتمرات الأمم المتحدة المناخية، نستنتج المحطات التالية: «كوب 1» انعقد في برلين، ألمانيا 1995، وانعقد المؤتمر الأول للأطراف في اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن التغير المناخي في الفترة من 28 مارس إلى 7 أبريل عام 1995 في برلين في ألمانيا. وانعقدت النسخة الثانية من مؤتمر الأطراف في جنيف بسويسرا من 8 إلى 19 يوليو عام 1996.
وشهدت النسخة الثالثة من مؤتمر الأطراف «كوب3» التي انعقدت في كيوتو باليابان في ديسمبر عام 1997، إطلاق بروتوكول كيوتو الذي يلزم الدول الصناعية والبلدان التي تحولت لاقتصاد السوق بتخفيض الانبعاثات لستة أنواع من الغازات المسببة للاحتباس الحراري بنسبة 5% عن مستوياتها في عام 1990 على أن يتم التنفيذ خلال الفترة من 2008 إلى 2012. البرتوكول يلزم الدول الصناعية فقط ولم يتطرق للدول النامية، لكنه لم يحقق النجاح المنشود.
وفي بيونس آيريس، عاصمة الأرجنتين، انطلقت فعالت «كوب 4» خلال الفترة من 2 إلى 13 نوفمبر 1998. واستضافت مدينة بون الألمانية النسخة الخامسة من مؤتمر الأطراف «كوب5» خلال الفترة من 25 أكتوبر إلى 5 نوفمبر1999.
وفي «لاهاي» الهولندية، انعقد «كوب 6» خلال الفترة من 13 إلى 24 نوفمبر 2000، ولأن هذه النسخة لم تتوصل لنتائج، تم الإعلان عن استئنافها من جديد في مدينة بون الألمانية في يوليو 2001، ويمكن اعتبار «كوب 6 المكرر» نقطة تحول لكونه سلط الضوء على الاحتياجات التمويلية للدول النامية وبدأت الاقتراحات الخاصة بصناديق المناخ. وخلال المؤتمر، تم اقتراح ثلاثة صناديق جديدة لتقديم المساعدة في مواجهة التغير المناخي: صندوق التغير المناخي يدعم مجموعة من الإجراءات المناخية. وصندوق مخصص للدول الأقل تنمية لدعم برامج العمل الوطنية للتكيف. وصندوق للتكيف وفق اتفاقية كيوتو مدعوم بضريبة من آلية التنمية النظيفة ومساهمات طوعية.
ويحسب لـ«كوب 6 المكرر»، طرحه ما يمكن وصفه بمسارات مرنة للاتجار في الانبعاثات وفتح المجال أمام الدول المتقدمة لتعويض حجم انبعاثاتها بخطوات أخرى للحد من الانبعاثات في الدول النامية، ودعم الدول الأقل نمواً للتكييف مع تداعيات التغير المناخي، وبدا كما لو أن المؤتمر يحاول تعويض الانتكاسة التي مُني بها بروتوكول كيوتو الذي لم تلتزم به آنذاك الدول الصناعية. وخلال الفترة من 29 أكتوبر إلى 10 نوفمبر 2001، ركزت فعاليات «كوب 7» بمراكش المغربية، على «مجموعة قرارات» تهدف لدفع الدول المتقدمة للتصديق على بروتوكول كيوتو.
كوبنهاجن وسقف الاحترار
وحدد مؤتمر COP15 في كوبنهاجن عام 2009 عتبة الاحتباس الحراري العالمي التي نعرفها حالياً البالغة درجتين مئويتين فوق مستويات ما قبل الثورة الصناعية.
مؤتمر «كانكون»
وفي المكسيك، وخلال الفترة من 29 نوفمبر إلى 10 ديسمبر 2010، ساهمت فعاليات مؤتمر «كوب 16»، من خلال اتفاقية «كانكون»، في إنشاء مؤسسات وأطر عمل جديدة تشمل إطار «كانكون» للتكيف ولجنة التكيف وآلية التكنولوجيا والتي تتضمن «الصندوق الأخضر للمناخ» لجمع مساعدات بقيمة مئة مليار دولار لصالح الدول الفقيرة، وتم تكليفه ككيان تشغيلي جديد للآلية المالية للاتفاقية. اللجنة التنفيذية للتكنولوجيا ومركز وشبكة تكنولوجيا المناخ.
«كوب 21»
نقطة تحول كبرى في العمل المناخي العالمي كانت نتاج «كوب21» الذي استضافته العاصمة الفرنسية باريس خلال الفترة من 30 نوفمبر إلى 11 ديسمبر 2015، حيث تم التوصل إلى اتفاق تاريخي لمكافحة تغيّر المناخ، تتعهد فيه جميع دول العالم باتخاذ إجراءات بشأن تغيير المناخ لمنع زيادة احترار الأرض، بحيث لا تتجاوز درجتين مئويتين فوق المستوى الذي كان عليه قبل الثورة الصناعية، بحلول 2050. اتفاقية باريس ألزمت الدول بالإعلان عن مساهمات محددة وطنياً لكبح التغير المناخي ووضع حد للاحتباس الحراري ووقف زيادة درجة الحرارة العالمية إلى درجتين مقارنة بحقبة ما قبل الثورة الصناعية.
مبادرات لإنقاذ الأرض
مؤتمرات «الأطراف» فرصة لتصحيح المسار العالمي في التعامل مع التغير المناخي، وبدأ الوعي الدولي يتشكل مطالباً بخطوات عالمية وخطط واقعية يمكن تنفيذها لاحتواء هذا التحدي الإنساني المشترك. وبإطلالة موجزة على ما تم إنجازه من مبادرات في «كوب 26» الذي انعقد في جلاسكو بأسكتلندا خلال الفترة من 31 أكتوبر إلى 13 نوفمبر2021، يأتي «التعهد العالمي بشأن الميثان» كمبادرة قادتها الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، للحفاظ على هدف الحد من ارتفاع درجة الحرارة إلى 1.5 درجة مئوية، وجعل هذا الهدف قابلاً للتحقق. وتلتزم الدول المنضمة إلى «التعهد» بالحد من انبعاثات الميثان العالمية بنسبة 30% على الأقل مقارنة بمستويات 2020 بحلول عام 2030 والتوجه نحو استخدام أفضل الأدوات لتحديد كمية انبعاثات الميثان، مع التركيز بشكل خاص على مصادر الانبعاثات العالية. تمثل الدول التي انضمت إلى التعهد جميع مناطق العالم، وتضم ممثلين من الدول المتقدمة والنامية. وقد وقع على هذا التعهد أكثر من 100 دولة تمثل 70% من الاقتصاد العالمي، وتساهم بنصف انبعاثات غاز الميثان بشرية المنشأ، والتزمت 9 دول عربية بالتعهد: السعودية والإمارات والكويت وجيبوتي والعراق والأردن والمغرب وليبيا وتونس.
وخلال مؤتمر جلاسكو، أطلقت الإمارات والوكالة الدولية للطاقة المتجددة «آيرينا» «منصة تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة»، وذلك في إطار تمويل عالمي جديد هدفه تسريع التحول إلى الطاقة المتجددة في الدول النامية، وتعهدت الإمارات بتقديم 400 مليون دولار من خلال «صندوق أبوظبي للتنمية» لدعم المنصة في جمع تمويل لا يقل عن مليار دولار.
وكانت حماية الغابات حاضرة في أجندة اهتمام «كوب 26» عندما تعهدت أكثر من 130 دولة لديها 90% من غابات العالم بوقف إزالة الغابات، بل والسير في اتجاه استعادتها. صحيح أن تعهداً سابقاً صدر عام 2014، لكن هذه المرة جاء التعهد مدعوماً بالتزامات مالية بقيمة 1.7 مليار دولار لدعم الشعوب الأصلية من أجل الحفاظ على الغابات الآسيوية، وأيضاً تعهد بمقدار 1.5 دولار لدعم الحفاظ على حوض الكونغو.
وخلال مؤتمر جلاسكو، انتقلت الولايات المتحدة من التعهد بخفض الانبعاثات بنسبة 24 إلى 26% بحلول عام 2025 إلى تخفيضات بنسبة 50 إلى 52% بحلول عام 2030، وأطلقت واشنطن «مبادرة عالم صافي الصفر»، وهي محاولة لجعل الخبرة الفنية الأميركية والدعم المالي الخيري متاحين للبلدان التي تتطلع إلى التحرك بقوة أكبر بشأن تغير المناخ.
جلاسكو و«جناح الصحة»
وكان «كوب 26» أول مؤتمر عالمي لتغير المناخ يخصص جناحاً للآثار الصحية للاحترار- وهو تطور مشجع لمجتمعات الصحة العالمية والعامة. ولفت مؤتمر جلاسكو الانتباه إلى الدور الواعد للذكاء الاصطناعي في تسريع العمل المناخي، وتخفيف تداعيات التغير المناخي من خلال إطلاق خريطة طريق الذكاء الاصطناعي من أجل المناخ من الشراكة العالمية بشأن الذكاء الاصطناعي (مبادرة عالمية مدعومة من 18 دولة) تقدم إرشادات مفصلة وقابلة للتنفيذ حول كيفية دعم الحكومات لتطبيقات الذكاء الاصطناعي من أجل المناخ.
وجددت الدول الجُزرية الصغيرة صرختها للتحذير من خطر التغير المناخي، فقد أشارت رئيسة وزراء بربادوس «ميا موتلي»، خلال خطابها في مؤتمر «كوب 26» إلى حاجة بلادها كدولة جُزرية إلى وقف زيادة درجات الحرارة العالمية وارتفاع منسوب مياه البحار، قائلة: «درجتان مئويتان تعني عقوبة الإعدام.. نحن لا نريد حكم الإعدام المخيف.. جئنا اليوم لنقول: حاولوا بجهد أكبر.. حاولوا بجهد أكبر».
الانتقال العادل في «كاتوفيتشي»
وشهدت فعاليات مؤتمر جلاسكو توقيع أكثر من 30 دولة على «وثيقة الانتقال العادل»، لإعادة التأكيد على الحاجة لضمان عدم ترك أي عامل أو مجتمع متأثر باستخدام الكربون، وقعت أطراف اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ على التضامن والانتقال العادل تحت اسم إعلان سيليسيا الذي دعا إلى مزيد من التقدم في معالجة ضعف العمالة بالأسواق في القطاعات كثيفة الكربون التي تواجه مخاطر التحول. وهو بند بدأ يتفاعل منذ مؤتمر «كوب 24» في كاتوفيتشي ببولندا (5 إلى 18 ديسمبر عام 2018)، آنذاك صدر إعلان يدعو إلى مزيد من التقدم في معالجة ضعف العمالة بالأسواق في القطاعات كثيفة الكربون التي تواجه مخاطر التحول في مجال الطاقة. والحديث عن الانتقال العادل يندرج ضمن اتفاق باريس للمناخ الذي يدعو الدول الموقعة عليه إلى مراعاة «ضرورات الانتقال العادل للقوى العاملة، وخلق عمل لائق ووظائف جيدة وفقاً لأولويات التنمية المحددة وطنياً».
«كوب 27» و«العدالة المناخية»
وخلال الفترة من 8 إلى 18 أكتوبر نوفمبر 2022، استضافت مدينة شرم الشيخ المصرية النسخة السابعة والعشرين من «مؤتمر الأطراف» كوب 27، بآمال كبيرة وطموحات تسعى لخطوات عملية، تجعل من هذه النسخة في قلب «مرحلة التنفيذ» وليس فقط مجرد محطة جديدة للوعود والتعهدات، حتى يتسنى خفض انبعاثات غازات الدفيئة والتكيف مع الآثار الحتمية لتغير المناخ، وتعزيز دعم التمويل والتكنولوجيا وبناء القدرات التي تحتاج إليها البلدان النامية، وحشد الجهود لجعل الانتقال إلى تنمية منخفضة الانبعاثات ومقاومة للمناخ عادلاً وطموحاً.
نتائج مهمة
«كوب 27» حصد نتائج مهمة على طريق تطوير العمل المناخي العالمي، أبرزها: مقترح تمويل الخسائر والأضرار للبلدان الضعيفة التي تضررت بشدة من الفيضانات والجفاف والكوارث المناخية الأخرى. خطوة وُصفت بالتاريخية، وقال عنها أمين عام الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش إنها «خطوة نحو العدالة».
معضلة التمويل
سلط «كوب 27» الضوء على مسألة التمويل لكونها تقع في صميم مكافحة تغير المناخ، خاصة أن هدف البلدان المتقدمة لم ينجح في تعبئة 100 مليار دولار أميركي سنوياً بحلول عام 2020 لدعم العمل المناخي في الدول النامية. فلا يمكن التخفيف، والتكيف، والحد من الخسائر والأضرار، وتفعيل تكنولوجيا المناخ من دون أموال كافية للعمل بشكل صحيح وتحقيق النتائج المرجوة. وضمن هذا الإطار، أطلق مؤتمر شرم الشيخ مساراً لمواءمة تدفقات التمويل الأوسع نحو تنمية منخفضة الانبعاثات وتواجه التحديات المناخية. كما أن التحول العالمي إلى اقتصاد منخفض الكربون يحتاج استثمارات لا تقل عن 4 إلى 6 تريليونات دولار أميركي سنوياً.
منصة للتعاون الدولي
ظهرت اتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ كتطور عالمي كبير، تمخض من «قمة الأرض» التي انعقدت في ريودي جانيرو بالبرازيل خلال الفترة من (3 إلى 14 يونيو 1992)، في إطار مؤتمر الأمم المتحدة المعني بالبيئة والتنمية، والذي احتفى آنذاك بمرور 20 عاماً على مؤتمر استكهولم، الأول من نوعه في الاهتمام بالبيئة البشرية. حققت «قمة الأرض» العديد من الإنجازات العظيمة: إعلان ريو ومبادئه العالمية السبعة والعشرون، واتفاقية الأمم المتحدة الإطارية بشأن تغير المناخ (UNFCCC) التي أسست لمؤتمرات المناخ السنوية التي تضم الدول الموقعة على الاتفاقية الإطارية، والتي بدأت من «كوب1» في برلين عام 1995. وحققت قمة «ريو» إنجازات أخرى واتفاقية التنوع البيولوجي، وإعلان مبادئ إدارة الغابات. كما أدت «قمة الأرض» إلى إنشاء لجنة التنمية المستدامة، كما تم عقد المؤتمر العالمي الأول للتنمية المستدامة للدول الجزرية الصغيرة النامية في عام 1994، والمفاوضات من أجل إنشاء اتفاقية بشأن الأرصدة السمكية المتداخلة المناطق والأرصدة السمكية الكثيرة الارتحال.
كانت مخرجات «كوب3» عام 1997 في كيوتو باليابان، التي تمثلت في بروتوكول كيوتو، هي المرة الأولى التي يتم حشد توافق دولي، خاصة بين الدول المتقدمة، للحد من الانبعاثات بخطوات ملزمة.
المصدر: صحيفة الاتحاد
كلمات دلالية: كوب 28 مؤتمر الأطراف المناخ التغير المناخي تغير المناخ قمة المناخ أزمة المناخ التغيرات المناخية مؤتمر المناخ العالمي بشأن تغیر المناخ التغیر المناخی الدول المتقدمة خلال الفترة من العمل المناخی مؤتمر الأطراف ملیار دولار بحلول عام قمة الأرض فی برلین من خلال من أجل
إقرأ أيضاً:
نائبًا عن الإمام الأكبر.. رئيس جامعة الأزهر يشارك في مؤتمر مكافحة كراهية الإسلام بجامعة الدول العربية
شارك الدكتور سلامة جمعة داود، رئيس جامعة الأزهر، نائبًا عن فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، في فعاليات المؤتمر الدولي لمكافحة كراهية الإسلام الذي عقد في جامعة الدول العربية تحت شعار: "الإسلاموفوبيا: المفهوم والممارسة في ظل الأوضاع العالمية الحالية" بحضور الدكتورة نهلة الصعيدي، مستشار فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهر لشئون الوافدين، والدكتور خالد عباس، عميد كلية اللغات والترجمة، والدكتورة أنوار عثمان، عضو هيئة التدريس بجامعة الأزهر.
ونقل رئيس جامعة الأزهر للحضور تحيات فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، حفظه الله تعالى، وأشار إلى أن الإسلاموفوبيا تعني خوف البعض من الإسلام وكراهيته، وهو خوف على غير أساس؛ نتج عنه ممارسات بالتمييز والإقصاء، ويطوي وراءه أيضًا إدانةَ الإسلام وتاريخه، وإنكارَ وجودِ المعتدلين من المسلمين مع أنهم هم الأغلبية، والتعصبَ الأعمى ضد الإسلام والمسلمين؛ ونتج عنه أيضا التصدي للصراعات التي يكون المسلمون طرفا فيها على أنهم السبب في هذا الصراع، ونتج عنه أيضًا شن الحرب ضد المسلمين.
وبيَّن رئيس جامعة الأزهر أن بداية استخدام هذا المصطلح كان في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القرن العشرين، ولكنه كثر وشاع بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر 2001م.
وأوضح رئيس جامعة الأزهر أن من أهم وسائل مكافحة الإسلاموفوبيا دمج المسلمين في المجتمعات التي يعيشون فيها بحيث يكونون أفرادًا فيها ويشعرون أنهم مواطنون لهم ما لأهل البلاد التي يعيشون فيها وعليهم ما عليهم، وليسوا أقليات منبوذة، مشيرًا إلى أن هذا الدمج يخول لهم المشاركة في الحياة السياسية في الغرب، ويكون لهم دور مؤثر في تنمية مجتمعاتهم وينخرطون في الحياة العامة، وأن يصبح لهم وزن في الحياة.
وأوضح رئيس جامعة الأزهر أن هذا الدمج من شأنه أن يجعلهم قوة لهذه البلاد التي يأمنون فيها على أنفسهم وأولادهم وأموالهم، وأن يطرد عنهم الشعور بكثير من المعاني السلبية التي تبعث في نفوسهم الاضطهاد والكراهية وأنهم غير مرغوب فيهم في هذه البلاد، وهذا الدمج أصل أرسى دعائمه الإسلام ونزل به قرآن يتلى إلى يوم القيامة، قال الله جل وعلا: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (الممتحنة 8)، ذكرت الآية الكريمة أن من يعيش معكم أيها المؤمنون في أوطانكم أو في غيرها في أمن وسلام، ولم يقم بالاعتداء عليكم وقتالكم ولم يخرجكم من دياركم فعليكم العيش معهم في سلام وعليكم برّهم ومودتهم والتعامل معهم بالكرم والإحسان، وهذا أصل عظيم وضعه القرآن الكريم في تعامل المسلمين مع غيرهم ممن ليسوا على دينهم ولم يقوموا بالعدوان عليهم، ولا تجد أوسع من كلمة «البر» بما تنطوي عليه من جميع خصال الخير والإحسان والمودة والرحمة؛ وليس هذا دمجًا لهم في المجتمع فقط، بل يزيد على ذلك إحسان المعاملة وتبادل المشاعر النبيلة التي تبني جسور المودة فتذوبُ معها وتتلاشى هذه الكلماتُ البغيضة التي صارت مصطلحات ثابتة في اللغات العالمية؛ مثل: «التمييز العنصري» و«كراهية الآخر» و«الفوبيا» أو «الخوف والذعر من الآخر»، إلى آخر هذه العائلة البغيضة الكريهة من المصطلحات التي عشنا معها سنوات طويلة حتى ألفناها على الرغم من نكارتها وما فيها من إشعال نيران الكراهية التي توقد الحروب وتحرق أغصان السلام.
كما أوضح رئيس جامعة الأزهر أن صحيفة المدينة المنورة تعد أول دستور مدني في تاريخ المسلمين؛ فقد هاجر الرسول -صلى الله عليه وسلم- إلى المدينة المنورة وكان يسكنها قبيلتا الأوس والخزرج، وكانت بينهما حروب لا تنقطع، فلما آمنوا بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ودخلوا في الإسلام ونصروا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سماهم: «الأنصار»، وهناك ثلاث قبائل من اليهود كانت تسكن المدينة؛ وهم: بنو قريظة وبنو النضير وبنو قينقاع، فكتب -صلى الله عليه وسلم- صحيفة المدينة لتنظم علاقة المسلمين بغيرهم من اليهود وتحقق التعايش السلمي بين سكانها، وكان من بنودها: «أنه من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصَر عليهم، وأن على اليهود نفقتَهم وعلى المسلمين نفقتَهم، وأن بينهم النصرَ على من حارب أهلَ هذه الصحيفة، وأن بينهم النصحَ والنصيحةَ والبرَّ دون الإثم» وبهذا دمج الرسول -صلى الله عليه وسلم- اليهود ليعيشوا مع المسلمين في المدينة في سماء واحدة تظلهم، وفي ظلال النصح والنصيحة والبر، حتى نقضوا العهد وظاهروا المشركين في قتالهم ضد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فدارت الدائرة عليهم وأخرجوا أنفسهم من ديارهم.
وعدد رئيس جامعة الأزهر أن من أهم وسائل مكافحة الإسلاموفوبيا وضع منصات تخاطب الإعلام والتعليم في المجتمعات الغربية يكون هدف هذه المنصات تصحيحَ المعلومات المغلوطة التي تنتشر في الإعلام والتعليم الغربي عن الإسلام والمسلمين، وإمدادهم بالمعلومات الصحيحة عبر برامج هادفة؛ فإن ما لا يقل عن 75% من الإعلام الغربي موجه بشكل واضح ضد الإسلام والمسلمين.
وأشار رئيس جامعة الأزهر إلى أن الإسلام تعرض لحملات جائرة في الغرب أدى إلى خوف غير مبرر من الإسلام والمسلمين، والتصدي لهذه المعلومات لتصحيح صورة الإسلام والمسلمين ينبغي أن يكون بالحجة والحكمة والموعظة الحسنة والاعتماد على الحقائق والأساليب الإبداعية غير التقليدية من الفنون والمعارض وغيرها ليكون لها صدى مؤثر في الإقناع؛ وهذا الأمر ليس سهلًا؛ بل يحتاج إلى إرادة وعزم وجهد كبير وصبر طويل واستمرار.
وقال رئيس جامعة الأزهر: إن فضيلة الشيخ محمود شلتوت -رحمه الله- كان يرى أنه على الرغم من انتشار الإسلام عبر القرون المتطاولة فإن الغربيين في أوروبا وأمريكا من أهل الفترة؛ لأن الإسلام لم يصل بعضهم أو وصلهم بصورة مغلوطة غير صحيحة فلم يؤمنوا به، وأن من يصله الإسلام منهم بصورة صحيحة ويكون أهلًا للفهم فإنه يدخل فيه عن حب وطواعية واختيار.
وبيَّن رئيس جامعة الأزهر أن من أهم وسائل مكافحة الإسلاموفوبيا نشر النماذج الإيجابية للتعامل الحسن والإيجابي للغربيين مع الإسلام، كما في النمسا وبلجيكا؛ ففي النمسا اعتراف دستوري واضح بالإسلام؛ حيث يتم تدريسه كأحد الأديان الرسمية للدولة، كما أن بلجيكا اعترفت بالإسلام كثقافة من ثقافات المجتمع مما يسمح بتعليم قواعد الدين الإسلامي، بجانب ذلك فإن من أهم وسائل مكافحة الإسلاموفوبيا جمع الجهود الكثيرة للمسلمين في مواجهة هذه الظاهرة تحت مظلة واحدة، وتوحيد هذه الجهود؛ لأن هناك حالة من الانفصام وعدم الربط بين أصحاب الجهود المقاومة لظواهر الإسلاموفوبيا بحيث يعمل كل منهم بصورة منفردة، فإذا أمكن جمعُها أمكن الاستفادة منها بصورة أفضل، وأمكن التنسيق وتوزيع المهام والأدوار بشكل أفضل بما يحقق نجاحا أكبر في مكافحة الإسلاموفوبيا.
كما أوضح رئيس جامعة الأزهر أن حاجتنا إلى أن نفهم الآخرين مثلُ حاجة الآخرين إلى أن يفهمونا، وهذا الفهم هو السبيل إلى إقامة جسور من الحوار والتعارف كما قال ربنا: ﴿يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ﴾ (الحجرات 13).
وأقتبس كلمة فضيلة الإمام الأكبر الأستاذ الدكتور أحمد الطيب، شيخ الأزهر الشريف، في الاحتفال باليوم العالمي لمكافحة الإسلاموفوبيا: «إن هذه الظاهرة لم تكن إلا نتاجًا لجهل بحقيقة هذا الدين العظيم وسماحته، ومحاولات متعمدة لتشويه مبادئه التي قوامها السلام والعيش المشترك، وتلك نتيجة طبيعية لحملات إعلامية وخطابات يمينية متطرفة، ظلت لفترات طويلة تصور الإسلام على أنه دين عنف وتطرف، في كذبة هي الأكبر في التاريخ المعاصر؛ استنادًا لتفسيرات خاطئة واستغلال ماكر خبيث لعمليات عسكرية بشعة اقترفتها جماعات بعيدة كل البعد عن الإسلام، وكيف لهذا الدين الذي هدفه العدل والإنصاف أن ينقلب إلى دين يدعو إلى التطرف والإرهاب والعنف والدماء؟ أليس من حق هذا الدين أن يسمى باسمه الحقيقي الذي أراده الله -تعالى- له في الآية السابقة، وهو دين التعارف والتسامح والرحمة والتعاون؟».
واستعرض رئيس الجامعة جهود الازهر الشريف في نشر الوسطية والاعتدال قائلًا: إن الأزهر الشريف هو منبر الوسطية والاعتدال يقوم على نشر الدين الإسلامي بتعاليمه الصحيحة، والحوار بين الأديان وتصحيح المفاهيم المغلوطة، وجعل الأزهر الشريف ذلك في مناهجه الدراسية، وأنشأ مرصد الأزهر باللغات الأجنبية لمكافحة التطرف ونشر الفهم الصحيح للإسلام، ومن مفاخره تلك الوثيقة المهمة، وثيقة الأخوة الإنسانية التي وقعها فضيلة الإمام الأكبر الدكتور أحمد الطيب شيخ الأزهر الشريف والبابا فرانسيس بابا الفاتيكان، واعترفت بها الأمم المتحدة، وأنشأ بيت العائلة المصري بالتعاون مع الكنيسة المصرية لتعزيز الوحدة الوطنية في مصر، وغير ذلك من الإسهامات المهمة في نشر ثقافة التسامح والتعايش السلمي مع الآخرين.
واستنكر رئيس جامعة الأزهر أن يعم السلام الاجتماعي هذا المجتمع العالمي الواحد وهناك شعب ضعيف مظلوم تم احتلال أرضه وقتلُ أبنائه وهَدْمُ مساجده وكنائسه على مرأى ومسمع من العالم كلِّه؛ واستشهد منه عشرات الآلاف أكثرهم من الأطفال والنساء الذين لا ذنب لهم، وجرح منه عشرات الآلاف، ودُمِّرَت دوره ومستشفياته ومدارسه وجامعاتُه وتعرض لإبادة جماعية؟ إنه الشعبُ الفلسطيني في محنته التي يعيشها ويصطلي بلظاها ليلًا ونهارًا، والتي تشهد أن العدوان على المسلمين ومقدساتهم هو منطق القوة المتغطرسة التي يعامل بها المسلمون، قال تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ (الحج 39 ، 40).